أحرص في برنامج «مشارف» الثقافي الذي أعده وأقدمه على شاشة التلفزيون المغربي، القناة الأولى، على الانفتاح على مختلف مكونات الثقافة المغربية. البرنامج يهتم بالخصوص بالإنتاج الإبداعي والأدبي والفكري المكتوب بالعربية، لكن طبيعة الثقافة المغربية تفرض عليَّ بالضرورة أن أنفتح أيضا على الفرنكوفونيين. وهناك لوبيات أخرى تنبهني من حين لآخر إلى أنني قد أغفلت الثقافة الأمازيغية أو الأدباء الذين يكتبون بالعامية أو بالاسبانية أو المكون اليهودي أو الفكر الإسلامي أو البعد الأندلسي وغيرها. ومع توالي الحلقات وتعدد أبعاد الهوية التي نقاربها من حين آخر انتبهت إلى أن هناك بعداً هوياتيا مهما لا لوبي له. لا من يدافع عنه ولم ينبهني إليه أحد... بدأ الأمر بسؤال صغير: وماذا عن العُمق الإفريقي لثقافتنا المغربية؟ هل وجودنا على هذه القارة مجرد خطأ جغرافي؟ أم أن أفريقيتنا انتماء ثقافي؟ لكن هل يكفي الانتماء الجغرافي لنعتبر أنفسنا أفارقة؟ إذن لماذا لا ينشغل صُنَّاع الذائقة والوجدان عندنا بهذا العنصر الأساسي من عناصر هويتنا كمغاربة؟ لماذا نستحضر أدبنا المغربي في سياقه العربي في الغالب، أو نفكر فيه أحياناً انطلاقا من خصوصيتنا الأمازيغية، وربما من داخل دينامية فرنكوفونية بالنسبة لمن يكتبون بالفرنسية؟ لكننا بالمقابل لا نتوقف ولو عَرَضاً لنطرح على أنفسنا السؤال التالي: لماذا لا نقدم أنفسنا كأفارقة أيضاً؟ ثم هل تكفي الجغرافيا لنعتبر إنتاجنا الإبداعي المغربي أدبا إفريقيا؟ وإلا، ما الذي ينقصه ليكون كذلك؟ طبعاً لم تكن لدي سوى حزمة الأسئلة هذه. لذا بدأت رحلة البحث عن مثقف مغربي أناقش معه هذه الأسئلة. وهنا فوجئت بأنه ليس لدينا ولو متخصص واحد يستطيع مجابهة هذه الأسئلة. لقد اعتذروا جميعاً: ماذا سأقول لك يا صديقي؟ هذا الموضوع يلزمه أنتروبولوجي. لا.. الموضوع طريف جداً. أهنئك على الفكرة. لكن يلزمك مؤرخ متخصص في تاريخ الدولة السعدية ليعود بك إلى الزمن الذي كان المغرب يحكم فيه بلاد السودان. كنت على وشك العدول نهائيا عن هذا النقاش حينما صدر كتاب للناقد المغربي بنعيسى بوحمالة تحت عنوان (النزعة الزنجية في الشعر المعاصر: انطلاقا من تجربة الشاعر السوداني محمد الفيتوري). قلت في نفسي: يبدو أنها انفرجت. وكذلك كان. جاء بنعيسى إلى بلاتو التصوير متحمساً للحديث عن إصداره الذي كان في الأصل رسالة جامعية. طبعاً تحدثنا قليلا عن الفيتوري وتجربته الريادية في الشعر السوداني قبل أن أزج بضيفي الكريم في المعترك: إذا كان الفيتوري وهو الشاعر باللغة العربية قد كتب شعراً إفريقياً، فلماذا لم يكتب مُبدعو المغرب العربي شعراً بهذه الصفة؟ كانت كلمة السر التي ظل بنعيسى يكررها كل مرة هي أيديولوجيا الزنوجة. تلك النزعة الزنجية التي كرَّسها الأدب الإفريقي المكتوب بالفرنسية والإنجليزية. لكن مرة أخرى، كيف نفسر عدم تسرُّب هذه النزعة إلى الأدب المغربي المكتوب بالفرنسية من طرف كتاب أقاموا في فرنسا وتفاعلوا هناك مع نظراءهم من الأدباء الأفارقة الزنوج؟ ثم إذا عدنا إلى شعرنا العربي: لماذا ظل الشعر السوداني المعاصر هو الوحيد في كل الخارطة الشعرية العربية الذي نجح في الجمع بين ولائه للعروبة وولائه للزنجية، مع أنهما رؤيتان مختلفتان للعالم؟ ولماذا لم يجئ الأدب المغربي مدمُوغاً بنفس الثنائية؟ والحال أننا كالسودان تماما: لسنا بلدا عربيا صرفا وإنما نحن بلد إفريقي كذلك. ثم إضافة إلى الأمازيغ، سكان البلد الأصليين، تعيش بيننا في المغرب العربي نسبة مهمة جدا من المواطنين السود. لن أدخل في نقاش متخصص حول الفرق بين الزنوجة والعروبة، وكيف أن الإحساس بالعنصر في حالة الشاعر الزنجي أقوى من إحساسه بالقومية كما هو الحال بالنسبة للشاعر العربي. أيضاً تحتاج المقارنة بين الشعرية الزنجية ومثيلتها العربية إلى ناقد متخصص في الشعر. أنا هنا فقط لكي أشاغب الموضوع بالمزيد من الأسئلة: فإذا سلمنا بأنه ليست هناك أية تقاطعات بين الزنوجة والعروبة، فنحن مع ذلك نبقى إزاء حالة جوار لا يمكن رفعُها بين هاتين القوميتين؟ فلماذ يظل هذا الجوارُ مُجهَضاً؟ ولماذا كان التفاعل خلاقاً بين الزنوجة الإفريقية ونظيرتها الأمريكية رغم البُعد الجغرافي فيما نحنُ عاجزون عمليا عن إضفاء الحيوية على هذا الجوار؟ علينا ألاَّ ندع الجغرافيا تتكفل وحدها بالجواب. فالجغرافيون القدامى كانوا يقولون بأن الصحاري تعزل الشعوب عن بعضهم فيما البِحارُ تقرب بينهم. إذن المشكلة في الصحراء التي تفصل بيننا؟ بين المغرب العربي و»بلاد السودان» (التوصيف القديم الذي كان المغاربة أيام السعديين يطلقونه على بلدان جنوب الصحراء) ؟ أعتقد أن الإشكال ليس جغرافيا فقط. بل يجب أن يُطرح أساساً في مجال الفكر والثقافة، وبشكل خاص على الأدب. خصوصاً وأن هناك مجالات أخرى فنية وإبداعية ربما لا تستدعي كل هذا النقاش. لنأخذ مثلا موسيقى كناوة الشهيرة. موسيقى مغربية عريقة تتداخل فيها الإيقاعات الإفريقية، والشعائرية الزنجية، والمضامين الصوفية العربية الإسلامية. لماذا إذن نجحت موسيقى كناوة فيما أخفق فيه الأدب؟ فكناوة على الأقل يعطون دليلا واضحا على إفريقية المغاربة دون أن يتعارض ذلك مع المكونات الأخرى لهويتنا؟ المزيد من الأسئلة تلح عليَّ. وكما تلاحظون لا أجوبة لدي. أنا هنا فقط لأعمِّق حيرتكم. لكن دعوني مع ذلك أروي لكم طرفة صغيرة على الأقل لأدافع عن جدوى أسئلتي. مرة كنت في قطار مراكش / الدارالبيضاء حينما استوقفني رجل في السبعين تقريباً. تأكد أولاً من أنني صاحب برنامج «مشارف» وبعدها قال لي: أريد أن أحييك بشكل خاص على حلقة كنتَ قد تحدثت فيها عن إفريقية المغاربة. تصور يا بني، لقد جعلتني تلك الحلقة أفكر لأول مرة في حياتي في أنني أيضا إفريقي. شيء غريب أليس كذلك؟ ............. ....... أليس كذلك؟ نص المداخلة التي ساهمتُ بها في ندوة (المغرب العربي وإفريقيا) التي احتضنتها مؤسسة هاينرش بول في إطار مهرجان برلين الدولي للأدب.