عيناها غائرتان، جلدها خشن والتجاعيد تغزو وجهها الأربعيني حتى بدت اكبر. إنها «عايشة»، امرأة مغربية حملت اثنى عشر مرة ولم توفق إلا في أربع، في المرة الأخيرة، كادت تفقد حياتها، إنها حكاية ولادة قد لا تكون دائما حدثا سعيدا. العنوان: تالمست، قرية جبلية بإقليم أزيلال. الزمان يوم أربعاء من فصل شتاء قاس عام 2014. المشهد: تساقط ثلجي كثيف، وماشية وماعز مهددة بالنفوق جراء اختفاء المراعي. قرب الحائط الطيني رجل يضع رأسه بين راحتي يديه غير عابئ لا بماشيته ولا بالبرد القارس، لا يفعل شيئا غير انتظار خبر عن زوجته التي تحاول نساء القرية توليدها داخل المنزل. خرجت اليه إحدى النساء حاملة إليه خبر عجزهن عن توليدها، وبالتالي ضرورة نقلها الى اقرب مركز صحي. انطلق بعض الرجال طلبا «للمرفع» (النعش) الذي تنقل فيها القبيلة أمواتها إلى المقابر، من اجل نقل عائشة إلى قرية زاوية أحنصال حيث يتواجد المركز الصحي وباقي المصالح. حملوا عائشة وانطلقوا على الأرجل عبر طريق جبلية زادها الثلج وعورة. بعد ساعات طويلة، وصلت عائشة إلى المركز الصحي بقرية زاوية أحنصال، وجدت في استقبالها ممرضة متخصصة في القبالة، فحصت حالتها الصحية ووجدتها جد متدهورة، لقد توفي الجنين في بطنها وحياتها في خطر. نفذت الممرضة البروتوكول العلاجي، وطلبت استشارة هاتفية من طبيبة التوليد المتواجدة بالمدينة، وحاولت بجهد اخراج الجنين لكنها لم توفق. أصبح من العاجل الان نقل المريضة إلى المركز الإستشفائي الإقليمي بأزيلال من اجل إجراء عملية قيصرية، لذلك قامت الممرضة بتعبئة المصالح الأخرى من سلطة محلية ومنتخبين في الجماعة الترابية. ثم طلب الهلكوبتر من أجل النقل الصحي الجوي لكنه غير ممكن بعد أن أسدل الليل سدوله وبعد ان هبت الرياح القوية وتساقطت الثلوج، فلم تبق غير سيارة الإسعاف، لكن حتى هذه صعبة مادامت الطريقة مقطوعة. لم ثقف المصالح الصحية الإقليمية مكتوفة الأيدي، بل ثم ربط الاتصال بمندوبية وزارة التجهيز التي خصصت كاسحة ثلوج (نيبلوز) انطلقت من مدينة ازيلال صوب قرية زاوية احنصال لفك العزلة عن طريق تملؤها الثلوج. ساعات طويلة لتصل كاسحة الثلوج بقت فيها عائشة تحت المراقبة الصحية. أثناء عملية النقل الصحي، عادت الكاسحة تليها سيارة الاسعاف من اجل فتح الطريق التي امتلأت بالثلوج بسرعة. ورغم الضباب، تمكنت عائشة من الوصول فجرا الى المستشفى حيث وجدت الطاقم الطبي والتمريضي في انتظارها. يحكي الممرض الرئيسي للدائرة الصحية محمد امين شاكر بحسرة عن «الحادث الذي أخذ طابعا انسانيا خاصة بعد ان علمنا بوفاة الجنين، فكنا كخلية نحل مجندة كل من موقعه من أجل تحقيق هدف واحد هو ايصال عائشة حية وسليمة الى المستشفى الإقليمي، وتمكنا في الأخير من هزم الظروف الطبيعية والطقس وقلة الموارد». تقول الدكتور طالب، طبيبة النساء والتوليد بالمستشفى الإقليمي بمدينة ازيلال، أن عائشة ثم استقبالها في المركز الصحي في حالة يرثى لها، حيث حاولت قبل 24 ساعة الولادة في المنزل بمساعدة قابلات تقليديات، ولم يتم نقلها إلى المراكز الصحية إلا في وقت متأخر حيث كان الجنين متوفيا والرحم متضررا وحياة المريضة في خطر. وبفضل تعبئ المصالح الصحية بتنسيق مع المصالح الأخرى، تمكنا بعد عناء من انقاذ حياة عائشة. وعلى مستوى غرفة العمليات، ثم اجراء عملية قيصرية وإخراج الجنين تحت تخدير كلي ومعالجة الرحم وإيقاف النزيف، وبالتالي انقاذ حياة عائشة وتحقيق استقرار في حالتها الصحية، وهي ستبقى الان تحت المراقبة الملائمة. تضيف الدكتورة طالب ان وفاة الجنين كان ممكنا تفاديها وان المرأة كان يمكن ان تلد في ظروف احسن لو ثم الحرص على متابعة الحمل في المركز الصحي الأقرب لمحل السكنى، كما نصحت النساء الحوامل بالالتجاء إلى دور الأمومة عند اقتراب موعد الوضع حتى يكن قريبات لدور الولادة في المراكز الصحي. ولتفادي وفيات الأمهات والأطفال عند الولادة، يعتقد الممرض محمد أمين أن هدف صفر حالة وفاة ممكن التحقق، ويقترح لذلك التركيز على التواصل والشراكة مع الفاعلين من جمعيات المجتمع المدني وجماعات ترابية من اجل تغيير العقليات في المغرب العميق والتوعية بمخاطر الولادة في المنزل، وضرورة تتبع الحمل وتناول أقراص الحديد، مضيفا أن الطريق هي التي تأتي بالتنمية وليس العكس حيث أن فك العزلة وتعزيز الشبكة الطرقية سيكون لها أثر ايجابي على الصحة أيضا، وختم كلام بتوجيه رسالة الى المواطن العادي الذي يمكن أن يساهم من موقعه في الصحة وعدم تكرر مأساة عائشة ملحا على ضرورة التخلي عن الأفكار المسبقة حول العاملين الصحيين بأنهم أعداء ولا يليق معهم إلا العنف. قد لا تكون عائشة وجنينها المتوفي هي القصة الأولى، فإعلامنا الحكومي قبل المستقل تمتلئ مساحاته بحكايات مماثلة، ولا تبدو انها ستكون الحكاية الأخيرة، على الأقل في القادم من الأيام القريبة. لكن هناك دروس مستفادة وحقائق يجب الترويج لها. أولى الحقائق أننا عندما نعمل معا تكون النتائج أفضل، حيث أن تنزيل الالتقائية وتكثيف التعاون بين قطاع الصحة وباقي المصالح الحكومية والمؤسسات المنتخبة على المستوى المحلي سيعود بالنفع على الصحة التي يجب إدماجها في كل السياسات. في مقابل فكرة «المطبخ الداخلي» la cuisine interne التي تنتشر لدى العاملين وواضعي السياسات الصحية، وتعوق تصالحهم مع المجتمع وتعبئة شركاء اخرين للعمل من أجل الصحة. ثاني حقيقة هي أن الصحة ليست مسؤولية مقدمي الخدمات الصحية فقط، ولكنها مرتبطة بفاعلين اخرين وقطاعات أخرى، فقد تأثرت صحة عائشة سلبا بضعف الشبكة الطرقية وبالمستوى التعليمي المتدني لمحيطها وبفقر زوجها، كما كان يمكن أن تتأثر بأشياء أخرى كالسكن والتغذية والكهرباء والمعلومات والمهارات، إلى جانب عوامل التدفئة والتكيف مع التغيرات المناخية وندرة الموارد في الجبال وعدم ملائمة السياسات لخصوصية المناطق الجبلية عموما، بمعنى أن العمل على المحددات الاجتماعية للصحة ينعكس إيجابا على صحة السكان. ثالث حقيقة هي أن الهاتف ساهم في إنقاذ حياة عائشة (La télémédecine) عن طريق الاتصالات التي كانت تتم بين القابلة والطبيب العام في زاوية احنصال من جهة وبين الممرض الرئيسي للدائرة الصحية وطبيبة التوليد والمندوب والإقليمي في مدينة أزيلال. وهنا تظهر أهمية تعزيز الدور الذي يمكن ان تلعبه التكنولوجيا بشكل عام ووسائط الاتصال والإعلام في تحسين المؤشرات الصحية خاصة في المناطق النائية، فيجب إنهاء حالة التسامح والقبول السياسي مع ضعف الشبكة الهاتفية والإنترنت في المناطق القروية والجبلية، بل يجب تحفيز عمل إضافي في هذا المجال واعتبارها من وسائل فك العزلة. وللتوضيح أكثر، دعونا نتخيل حالات الوفاة التي يمكن أن تحدث بسبب انعدام التغطية الهاتفية في بعض المراكز الصحية وأثناء النقل الصحي. رابع حقيقة هي أن الجنين كان يمكن أن يعيش وأن تلد عائشة في ظروف أحسن لو ثم الولوج المبكر للمركز الصحي، وأن أكثر النساء في الجبال تحاول الولادة في المنزل رغم وجود مراكز صحية ودور ولادة مجهزة بالموارد البشرية واللوجيستيكية الضرورية وتطبيق المجانية. إنها عوامل ثقافية أساسا من تقف حائلا امام الولوج للعلاج، حيث تبدو الحاجة ماسة الان إلى ان لا تقتصر الصحة على العلاج، والاهتمام اكثر بالتعزيز والتثقيف الصحي والعمل على تغيير السلوكات والعقليات عبر تكثيف انشطة الإخبار والإعلام والتواصل (IEC)، فالمركز الصحي هو فضاء للتنشئة الاجتماعية على أنماط العيش الصحية ومحاربة السلوكات المهددة للصحة إلى جانب مؤسسات أخرى كالمدرسة والمسجد والتنظيمات القبلية والسوق والجمعية. خامس حقيقة هي أن عائشة لا زالت على قيد الحياة بعد 12 محاولة للإنجاب وأنها ولدت أربعة اطفال أصحاء، وما كان ليتم ذلك بدون مساعدة القابلات التقليديات واستدعاء المعرفة الصحية التي حصلها مجتمعها المحلي بالتراكم. إن أي تدخل صحي يجب أن يأخذ بعين الاعتبار شرط المقبولية وخصوصيات الفئات المعنية به، فيحترم الأعراف المحلية ويستثمر كل ما هو ايجابي ويحاول بالتدريج تغيير العادات الاجتماعية غير الصحية. من الأمثلة على ذلك، بدل المنع القانوني للقبالة التقليدية وتوقيع عقوبات على ممارساتها يمكن التفكير في تكوينهن وتأهيلهن للعب ادوار جديدة كالوساطة والتثقيف بالنظير مما يمكن من أن يحفظ لهن كرامتهن ومكانتهن الاجتماعية ودخلهن المادي حتى لا يتحولن إلى مقاومات لكل تدخل صحي مؤسساتي. سادس حقيقة هي أن صحة عائشة أكثر عرضة للاعتلال لأنها إمرة بالمعنى الثقافي والإجتماعي وليس البيولوجي، فإذا كان اليوم من المفهوم أن التفاوتات بين المجالات الجغرافية، وبين القرية والمدينة، وبين الغني والفقير تشكل عائقا للولوج إلى الصحة، فلا مفر اليوم من الاعتراف بأن التفاوتات بين الجنسين تشكل هي الأخرى عائقا امام الولوج إلى العلاج وإلى الصحة بشكل عام. وهذا يفيد أن السياسات الصحية يجب ان تدمج مقاربة النوع الاجتماعي حتى لا تحول التفاوتات الجنسانية بتمتع المرأة بأعلى مستوى ممكن من الصحة، وأن تجد هذه المقاربة تطبيقا لها على مستوى القرب فتستهدف العاملين الصحيين المكلفين بإنفاذ القوانين وتطبيق المخططات وتقديم الخدمات. تلكم بعض الخلاصات التي قد تستفاد من حكاية عائشة حتى يتعلم واضعو السياسات الصحية التفكير «خارج الصندوق»، وحتى يفهم المواطن الصحة بشكل مغاير.