كأننا ألفنا عِشْرَة ومعاشرة الكذب على النفس، واسْتَمْرَأْنَا السكن والتساكن مع الرياء نستجمل البشع، ونستبشع الجميل. كأننا استطبنا العيش والتعايش مع الحجب المتواصل للواقع والحقيقة، وإظهار الغيب والوهم كما لو أنهما المحتمل القادم، والمحسوس الملموس الدفين طي كتاب. أجهزنا - بمسلكياتنا وتعنتنا ومكابرتنا الخرقاء - على ممكنات التقدم والتطور، والخروج من حمأة التخلف، وغيس التأخر. كان العناد الأرعن، ولا يزال، خبزنا اليومي، وسلاحنا الماضي إلى الماضي. نتشبث بتلابيب اهترأت، وبأهداب رثة تآكلت، وحبال منسولة دونها السقوط والارتطام المدوي، والرضوض الكثيرة التي تطال بُقْيا نصاعة، وجزء بياض، وهامش أمل. غِطَاسٌ إلى الفروة في التذبذب والتعقرب، والمربع الرمادي، لا نحسم في الأمر وفي اللون، إذ أن الرماد غبش وضباب وعمش، وترنح رؤية ورؤيا. فهل المفارقات قدرنا، هل هي حضننا، حجتنا، سماد وجودنا، وعصب حياتنا؟ إلى متى سنظل شيزوفرينيين، منقسمين على أنفسنا، غير متصالحين مع ذواتنا، وإن تصالحنا فلمآرب مخصوصة، وخداع ذاتي وشخصاني مستمر. ما نعيشه ونحياه، ونسلكه ونمارسه، ونأتيه في عملنا وكلامنا وخطابنا، مجلى ساطع للمفارقات حُيَال بعضنا بعضا، وحُيَال الأغيار، الآخرين، أولئك الذين يحملون فكرا وثقافة وتربية وسلوكا وتاريخا مختلفا، أولئك الذين يسميهم المندفعون منا، الغلاظ الوهابيون ثيابا وقلبا وعقلا : الكًفَّارَ، ويصفونهم بالأجلاف والفاسقين والمرضى بالشذوذ، ودوس الأخلاق، البعيدين عن الإسلام النظيف الصافي كالحليب، عن شرع الله. لكن، دعونا نُعِطِ بالملموس والبينات، ما حققه هذا الجنس «الكافر»، وما أنجزناه نحن «الجنس» المؤمن» المفضل على العباد في كل الأمصار والبلاد. جنس «خير أمة أخرجت للناس» ! - هم يحبون الكلاب، ويتفنون في تغذيتها وتربيتها كأنها أولاد، ونحن نكرهها، ونعتبرها - إسلاميا - مصدر وسخ ونجاسة، ونقض وضوء. - هم يشربون الخمرة بحساب، وتشكل جزءا لا يتجزأ من طعامهم وشرابهم، إذ بها زينة المائدة، وزينة السهرة، وزينة الحفلات. والخبز والخمرة في المسيحية بناءان دينيان وأنطولوجيان كما لا يخفى. ونحن نحرمها دينيا، بصريح النص القرآني، ونعتبرها إحدى الكبائر، وملعون شاربها... والعشرة المرتبطون بها. - هم يلبسون ما يشتهون وفقا للتبدل والتحول والاجتهاد و»الموضة»، ونحن نَقْسِرُ بناتنا على ارتداء الحجاب / العقاب، كأنهن عورات تمشي، ونداءات غرائز وحشية، وجنس فَوّار. - هم يأكلون لحم الخنزير، ونحن نتقزز عند ذكر اسمه، فما بالك بأكله، ومضغه وعلكه وازدراده لأنه محرم دينيا. - هم يعتبرون العلاقات بين الذكور والإناث، خارج مؤسسة الزواج، حقا شخصيا، وحرية فردية، واختيارا ذاتيا لا دخل للمجتمع والمؤسسات العمومية فيه. ونحن نعتبر ذلك زنا، وفسقا وفجورا، وهدما للأخلاق والقيم المثلى الفاضلة. ومع ذلك تقدموا وتأخرنا، نجحوا، وأخفقنا. - يسارع سياسيوهم، وزعماؤهم، ومدراؤهم الكبار، إلى الاستقالة متى ما أخطأوا، أو فضحهم الإعلام، بناء على براهين وحجج ناطقة ودامغة. ونتكرس نحن أكثر بسبب أخطائنا، وانزلاقاتنا، وجرائمنا في حق الإنسان، وحق المجتمع والشعب، كأن الخطأ عندنا، ثواب وجزاء، ومكافأة. - يتألمون ويتأسون على وضع الحيوانات، وينكسون الرايات، وتتجند المؤسسات معبأة في الزلازل والفيضانات، والحوادث المباغتة والحروب، وتتشكل خلايا أزمة تعمل ليل نهار. ونصبر نحن على كل ذلك، معلقين ما حدث على الغيب، وأن لا يد لنا في هذا الذي حدث، إن هي إلا مشيئة وابتلاء. - تنكسر فلسطين «الغزية» بنيانا وعمرانا وإنسانا : امراة وطفلا ورجلا وشيخا بفعل العدوان الإسرائيلي، والغزو الاجتثاتي، فَتَرْفَعُ أصوات قادتنا الفلسطينيين الإسلاميين بالتكبير، وإعلان النصر الباهر على إثر دَكِّ مدن وبلدات إسرائيل بالصواريخ، وفي المقدمة: تل أبيب. بل إن بعض المشايخ «الحماسيين» والقادة المنظرين القاعدين في بيوتهم، محصنين ومحميين بصدور شباب فلسطيني عظيم، لا يرمشون - لحظة - وهم يقولون : إن يد الله ضربت، وأن ملائكة لم تروها، حاربت إلى جانب «الغزيين» ما جعلنا ننتصر. غزة تنفجر بساكنتها التي فاقت المعدل الأممي، والمتوسط الإنساني، على مستوى المتر في المربع الواحد، تعيش الجوع والحصار، وقلة الماء والدواء، ومع ذلك، يقول «مشعل» في ذكرى التأسيس «هذا يوم المجد، هذا يوم عظيم يطل على هذه الأرض المقدسة....»، ويقف أمام الجرحى والأرامل والثكالى والمشردين ، زافا لهم بشرى الإنتصار الذي حققوه ، والجنة التي تنتظرهم . وفي مصر: الأمر أدهى وأمر ، وباعث على الضحك والشفقة معا . علماء الإخوان ومستشارو الرئيس ، والمرشد العام ، يضمنون للمصوتين بنعم على مشروع الدستور ، الجنة خالدين فيها أبدا . والكل يعرف أنه دستور مسلوق ، خفيف في الميزان ، قياسي الفبركة والإنزال . لايملك المرء إلا أن يحوقل وهو يرى هذا البؤس «الفكري» يوظف الدين توظيفا سمجا ، كذبا ورئاء وصفاقة ، مستغلا فقر الناس وأميتهم وإيمانهم العفوي ، وسطحية تكوين شريحة عريضة من الشباب المصري . فكأننا في القرون الوسطى قرون الظلام حيث توزع صكوك الغفران . بهذا المعنى ، يكون محمد مرسي في نظر بعض الوعاظ المتملقين الكاذبين ، مختطفا من عهد الصحابة والخلفاء الراشدين . فأي بؤس وانحطاط أخلاقي وفكري بعد هذا ! ! -أساءت أفلام تافهة إلى رسولنا الكريم من لدن منتجين ومخرجين أمريكيين وأوربيين مأفونين مغمورين، فخرجنا مائجين، هائجين، نهدم ونحطم الممتلكات، والمنشآت والمؤسسات في بلداننا، ونعتدي بل نقتل كل أجنبي ينتمي إلى بلدان صانعي تلك التفاهات، بدعوى، وتحت مسمى دارج ومعروف : «الكفر ملة واحدة». والحال أن الحق في الحياة، والحق في المعتقد الديني، والحق في الاختلاف مكفول دينيا، ووضعيا، سماويا وأرضيا. ألم يكن علينا أن نتريث، ونستقريء الحدث الجلل، ونتأمله في تفاصيله وتداعياته، فنرد عليه بالفكر والعلم والحوار الخصيب المستند إلى العقل والتاريخ، وعصور الإسلام المشرقة؟ فهل يكون اندفاعنا وحماسنا الزائد، ومدائحنا لما نأتي على صَغَارِه، وحقارته، ولاقيمته، وزعيقنا، وتدافعنا بالمناكب والشتائم والسّباب، عنوانا على بنية عروبية متأصلة مترسبة متمكنة، ومنسربة في الجينات، مخلوطة مع الدم والأوكسجين؟ أو «ماركة مسجلة» مقصورة على عرقنا السامي فيما يقول بعض المستشرقين العنصريين (هل هم عنصريون حقا وصدقا؟) أم أن الأمر قدر مقدور، كرسته تاريخية معينة عربية - إسلامية، و»ابستيم» عصوري محصور في حواضر حكمها العرب المسلمون؟ نتحدث عن المقومات البانية، والعناصر التشييدية، والعرى الوثقى اللاحمة بين العرب والمسلمين في شتى الأمصار، و الأقطار، كاللغة والدين والتاريخ المشترك، وهَلُّمَ جَرًّا؛ ونحن نقتتل ونحترب، ونقفل الأبواب في وجوه بعضنا بعضا، وَنُسَوِّرُ الحدود، ونزرعها قنابل ومتفجرات حتى لا يحلم أحد بتخطي شبر من تراب. ومع ذلك نقول - ولا حياء و لا احمرار- إننا أمة واحدة من الماء إلى الماء، ووطن عربي واحد إذا اشتكى عضو منه، من جراء السهر والحمى والفقر والإملاق، وقلة ذات اليد، تداعت له سائر الأعضاء (سائر البلاد العربية والإسلامية)، مسرعة منقذة، ومغدقة عليه من نعمائها، وفاضل بترولها ونفطها ! لماذا فشلنا في بناء سوق عربية مشتركة، أو في تحقيق وحدة اندماجية مشتركة، بينما فعلت ذلك أوروبا، فشيدت اتحادا، ووحدت عملة، وفتحت حدودا في وجه أبنائها، علما أن الاختلافات الأوروبية بين البلد والبلد، بَيِّنَةٌ إِنْ على مستوى المذاهب أو التيارات الدينية والعقدية، أو الهويات اللغوية، والتاريخ... إلخ. لماذا نجحت أوروبا، وكثير من دول آسيا، وفشلنا، لماذا؟ وكيف؟ ونحن» «خير أمة أخرجت للناس»؟ هل يعود هذا، في جانب منه، إلى أن المسيحية كدين ورؤيا مجتمعية تَعَلْمَنَتْ، وأدركتها جملة من الأشكال العلمية الجديدة، والأنساق الفكرية، والنظم الأنطولوجية، والفلسفية. وبالتالي، فإن نجاح الأحزاب الديمقراطية المسيحية الحاكمة في أوروبا كألمانيا - مثلا - تجد تفسيرها في هذا التشبع، والتشرب، والتجاذب والاسترفاد، في حين ظل «الإسلام» الحنيف على مستوى التشريع والممارسة الآدمية حبيس باراديغمات بالية، بعيدا عن الطفرات العلمية والفكرية والفنية التي عرفتها الإنسانية، تحت مبرر وضعانياتها وبشريتها المحدودة والآثمة. - باسم الشريعة المفترى عليها، وهي اجتهاد إنساني محض - في كل حال- يصيب ويخطيء، يداخله الهوى والكِبْرُ، والمحدودية، وريح النفس الأمارة بالسوء؛ باسم الشريعة، يُطَوَّحُ بأعمار شباب أغرار في جحيم القتل والتقتيل والتفجير والتهديم، على زعم أن هؤلاء الشباب سيلاقون الحوريات على التو، بعد انفجارهم وتمزقهم، وتطايرهم شظايا وأشتاتا. باسم الشريعة والأمية والجهل والفقر الكافر، يُسَخِّرُ أمراء آخر زمان، أمراء «طز» شبابا يفجرون السكان والعمران فيما هم يفجرون أنفسهم، فينشرون الخراب واليباب من حواليهم. لم لا يُسَخِّرُ هؤلاء الأمراء المزعومون، أمراء الموت «الزنيم»، غُلْفُ العقول والقلوب، «معارِفَهم» الدينية لخدمة الناس بما يُقَوّي إيمانهم، و أنفسهم، ويزكيها علما ورحمة ومودة وخلقا كريما؟ نحن في ذيل الترتيب أمميا من حيث التنمية على صُعُد شتى، وفي ميادين ومجالات مختلفة، كالأنسقة التعليمية، والنظم التربوية، والخدمات الصحية، والتشغيل، والسكن اللائق وتفشي منسوب الأمية العالي، والرشوة والجريمة والعنف والكذب والرياء، والحربائية. ومع ذلك، استطعنا المعايشة، والمساكنة والمعاشرة. استطعنا التكيف مع هذا العار، ومواصلة «الحياة» كأن شيئا لا يحدث. بينما معدل نمو «الكفار» مرتفع ومريح، والإنسان لديهم محترم ومبجل. وعلى رغم ذلك، لا يملؤهم الرضا المستنيم، والقناعة البَشِمَة، والراحة الكسلى، والاسترخاء «المَارْمُوتي». رحم الله مصطفى المراغي أحد علماء الأزهر في القرن الماضي، والذي ألهمني صياغة هذا المقال، من خلال قولته التي عنونت بها كلمتي مع تعديل خفيف. وهي القولة الأليمة التي تقطر أسى وعجزا، وتضع الأصبع، في وجازة بلاغية شعبية، على حالنا المفارق، أقول حالنا - يا للمأساة - كأنها قيلت هذا اليوم، علما أن عمرها يقارب القرن. أما سياقها فهو باختصار كالتالي : وهو في طريقه كعادته كل يوم إلى الجامع الأزهر، في بدايات القرن الماضي، طالع مانشتا في جريدة تتحدث عن نجاح فرنسا في إطلاق طائرة عبرت المحيط. طوى الشيخ الجريدة، ودسها في أحد جيوبه. وبينما هو سَاهٍ غارِقٌ ومستغرق في ما قرأ قبل برهة، أيقظه طالب بسؤاله عن دخول الحَمَام؛ أيدخله بالرجل اليمنى أم باليسرى؟». فما كان من الشيخ الوقور إلا أن استشاط في وجهه، مجيبا بِحِدّةٍ، مُنَفِّسًا عن قهر احتله وركبه : «الناس طارت، طارت، .. وأنْتَ لِسَّهْ في الحَمَّامْ». أحسب ألا مزيد عما قال الشيخ الجليل المستنير. فقولته تختزل - ببراعة وألم معا، ما نحن فيه، وما سنظل فيه إذا أعمتنا «الميتافيزيقا، والطوباويات ، وألهتنا الدار الآخرة. نعم، إنني أعي جيدا اختلاف الثقافات بوصفها نمطا في العيش، وطريقة حياة، ورؤيا إلى العالم. لكن في بعض الثقافات في بعدها الأنتروبولجي - ومنها ثقافتنا - ما يرتكز على الوهم والغيب، والمطلقية، ومحو الآخر، وإغلاق الباب في وجه الاجتهاد. ليس الحجاب ولا النقاب ولا اللحي ولا التشادور، ولا العباءات ولا النعال، ولا أكل وشرب هذا وترك ذاك ما يرفعنا ويعلي شأننا . مايرفعنا - حقا - ويجعلنا ننتمي إلى زمننا حتما، هو البحث والعلم والمعرفة، و قبول الغير، واحترام ديانته وثقافته، ونمط عيشه وحياته. ليس لنا خيار : إن أصررنا على تكريس قريش وطَالِبَانْ، فَسَنَؤُول إلى انقراض واندثار.