الأمين الخمليشي، وشم في ذاكرتنا ووجداننا وقطعة أثرية نفسية من تاريخنا الأدبي تاريخنا الملغوم - الموتور، نحن جيل حسب تعبير مطاع صفدي، وجيل الظمأ حسب تعبير محمد عزيز الحبابي، الجيل الذي تفتح مع نكبة 1948، وعاش هزيمة 1967، وما تلاها من هزائم وانكسارات.. وغاص حتى النخاع في الحمأ المسنون لسنوات الجمر والرصاص. وأشير بالمناسبة إلى أن من ضحايا ومعتقلي سنوات الجمر والرصاص، شقيق الأمين الأصغر، الذهبي الخمليشي من منظمة إلى الأمام، وقد قضى في الخيمة الاسمنتية كرفاقه، ردحا طويلا من الزمن. وما سمعنا يوما من الأمين، طيلة علاقتنا الطويلة معه، إشارة أو بادرة إلى هذا الأمر. لقد كان الرجل عزوفا - عيوفا عن الحديث عن ذاته وخاصة شؤونه. لكنه دائما، هدوء يسبف العواصف. وبرق يعقبه رعد. هو كالدون الهادي لشولوخوف. أو كزوربا كازانتزاكي. ولعله من المعنيين بقول أبي الطيب على قلق كأن الريح تحتي/أوجهها جنوبا أو شمالا. هو مشاكس ساخر من الحياة والأحياء. مفطور على الصراحة والشفافية والتلقائية. مناوىء للرياء والادعاء. ذلك هو الأمين الخمليشي، الكائن السهل الممتنع. هو بعبارة .. (خيرون) الولد الشقي الذي يطل من نصوصه، كما يطل حنظلة من رسوم ناجي العلي. وكثعلب زفزاف الذي يظهر ويختفي. في سنوات السبعين فصعدا من القرن الفارط، وفي فضاءات مدينة الرباط تحديدا، توطدت علاقتنا بالأمين الخمليشي. وكنت قد تعرفت عليه قبلئذ عن كثب بعيدا على قرب في مدينة فاس، بظهر المهراز خلال سنوات التحصيل الجامعي.. وكانت له في الجامعة صولات وجولات. في الرباط الجميلة والأنيقة آنئذ، توطدت العلاقة الفعلية والرائعة مع الأمين. كنا شلة فريدة ومنسجمة من حرافيش الأدب، أحمد المجاطي، الأمين الخمليشي، ادريس الخوري، محمد الهرادي.. و شخصي المتواضع. وكان ابراهيم الخطيب ومحمد بوخزار داخل السرب وخارجه، لايثارهما النهار على الليل. والليل هو نهار الأدباء.. كما قال التوحيدي.. كانت الاهتمامات الأدبية مختلف ومؤتلفة بين هؤلاء. كان المجاطي يطارد القوافي، وكان الأمين والخوري والهرادي، يتحرشون بالقصة القصيرة، وكان الخطيب يقتنص أحدث المناهج، وكان بوخزار يتلصص على كواليس الصحافة... وكنت أتابع ما يكتب القوم.. مسكونا بحرفه النقد ونكده. كان الأمين يقرأ كثيرا، ويكتب قليلا.. عكس جمهرة الأدباء والكتاب عادة، الذين يقرأون قليلا ويكتبون كثيرا. كان يروقني فيه، قراءاته المتبحرة - المتبصرة لعيون الأدب العالمي، وملاحظاته الثاقبة حول ما يقرأ وعلى فترات متباعدة، كان يطلع علينا بقصص قصيرة جميلة ومثيرة وملغومة كصاحبها. هي كالوخز بالإبر، وذات مذاق حريف، لكنها الشهد المقطر في الكلمات غالب. كان الأمين يكتب ما يشبه الحوليات القصصية، على غرار الحوليات الشعرية التي كان ينظمها السلف في الجاهلية، على امتداد حول كامل كان من عبيد القص، على غرار عبيد الشعر. ومازلت أتذكر الإعجاب الذي غمر طلبة ظهر المهراز، حين فتحوا مجلة (الآداب) البيروتية ذات صباح من عام 1968 ووجدوا ضمن موادها الأدبية الحافلة الآتية إليها من كل فج عربي «قصة تقليدية» للأمين الخمليشي.. كانت سفرة عربية رائعة لخيرون، بطل قصص الأمين.. وكان ذلك اعترافا أدبيا - عربيا بالقيمة الإبداعية الرفيعة لقاص مغربي نكرة، اسمه الامين الخمليشي. لقد كان الأمين سباقا الى اختراق السياج العربي.. تلاه بعدئذ محمد شكري، من خلال قصة (الذباب على الشاطئ) في المجلة ذاتها، الآداب، وادريس الخوري من خلال قصة زردة... ومحمد زفزاف، من خلال قصته (بيوت واطئة) في مجلة (المجلة) التي كان يديرها شيخ القاصين، يحيى حقي. في هذه الفترة وما بعدها، كتب الأمين أجمل نصوصه القصصية:قصة تقليدية - الفيل - الحلزون والساحة - بر وبحر - اشتباكات (مجموعة اشتباكات) ثم حمجيق وبورشمان - همز وغمز - الدكتور - عربشات - عربة مدام بوفاري - يوم ممطر (مجموعة عربة مدام بوفاري). نصوص قليلة ومعدودة، لكن قيمتها جميلة وجليلة.. استحضر في هذا الصدد، ملاحظة رائعة لجيرار جنيت يقول فيها، إن الكاتب مهما ألف وكثر من النصوص، فإنه في المحصلة، يكتب نصا واحدا. بما يعني أن الأمين قد فطن مبكرا للأمر، فلم يشأ أن يكون من المكثرين - المثرثرين قصصيا. لقد أثر الصفوة على الرغوة. وطبق بوفاق وإخلاص المبدأ البلاغي العربي، خير الكلام ما قل ودل ولم يمل. ولغته القصصية لذلك، تقترب من أسلوب (الجليد العائم) الذي اشتهر به همينجواي، وهو الأسلوب الذي يضمر أكثر ممما يظهر. ويخفي سطحه الهادئ عمقا غائرا، من الأحاسيس والدلالات... وهمينجواي بالمناسبة، أحد المعلمين الكبار للأمين، إلى جانب غوستاف فلوبير، الذي وقع في حبال وسحر رائعته (مدام بوفاري) حتى امتطى معها عربتها، حسب تعبير الشاعر رشيد المومني، عبر قصته (عربة مدام بوفاري). ومعلوم عن فلوبير، ولعه بالمراجعة والتنقيح والشطب، قبل الرضا عن المكتوب. فكان حسب دارسي مسوداته، يشطب أحيانا علي صفحة كاملة ويستبقي سطرا. وكذلك الشأن بالنسبة للأمين الخمليشي، الذي يمزق كثيرا، ويستبقي قليلا. وتصدق عليه، قياسا، في هذا الصدد، قولة الفرزدق (إن قلع ضرس من أضراسي، أهون علي من كتابة قصة). نعرف الأمين كاتبا جدا للقصة القصيرة. ومقدسا في الآن ذاته، لفعل الكتابة، متهيبا في حضرتها. ومن هنا شحه وإقلاله.. مشفوعين بعزوفه وزهده الأدبي. والفضل كل الفضل عائد إلى المبدع الفنان خالد الأشعري، الذي أحيا الخمليشي من بعد سبات ورقاد، وأعاده إليا محمولا على عربة مدام بوفاري. بكلمات و جمل قصصية مقتصدة، منحوتة بدقة وأناة وذكاء، يحكي الأمين حكاياته، ويتلصص على دواخل شخوصه، وأسرار الأمكنة والأشياء. ومحور نصوصه، في الأغلب الأعم، هو (خيرون)، الولد الشقي - الفضولي الهاتك للأسرار والتابوهات... ونصوصه لذلك، تبدو مجتمعة، قريبة من (الرواية الأبيسودية)، التي تتألف من قصص قصيرة، مؤتلفة ومختلفة، متصلة ومنفصلة في آن. خيرون إذن، هو الشخصية المركزية Protagoniste في نصوص الأمين. يشتمل اسمه على تورية - جناسية جميلة، تحيل على كلمة (الخير) العربية، وعلى كلمة gerona الإسبانية، التي أطلقها الإسبان على تركيست خلال فترة الاستعمار. وخبرون، رادار آدمي - وقصصي فريد، يلتقط أدق وأدل المشاهد والوقائع والسلوكات والتفاصيل، ويستبطن أخفى الخوالج والأحاسيس. وكأني به الأمين ذاته في سنوات طفولته ويفاعته، هناك في مدينة نائية - هادئة وملتبسة، في منزلة وسطى بين الفضاء القروي والحضري، هي تركيست. وتهم حياة خيرون في الدرجة الأولى، علاقته بالأدب والكتاب والمحيط الاجتماعي - القروي. يقدم الحياة ساخنة طرية، تكاد تلمس بالحواس الخمس، تضاف إليها الحاسة السادسة. هذه الحاسة السادسة - الفضولية بامتياز، هي التي تدفع خيرون إلى تسقط سقطات وزلات وعيوب الشخوص المقاربة، وتعريفها في صور كاريكاتورية - ساخرة. إن خيرون بصاص - قصصي يخترق الشخوص والنفوس، ويقدم الحياة بكامل فطريتها وعفويتها. إن خيرون الخارج من جبة تركيست الجبلية، العاكف على لوح كتابها القرآني، هو الذي سيمتطي من بعد، عربة مدام بوفاري، بعد طول ترحال وتجوال عبر عربات الأدب العالي. وليس خيرون في نهاية المطاف، سوى الأمين الخمليشي، في نسخة «زيدة ونقحة»، وقد تحول إلى كائن ورقي مفعم بالحياة، والسخرية من الحياة.