السيد رئيس الحكومة بما تحت تصرفه من مصالح ادارية، وما خلفه من كفاءات حزبه الحاكم ، وما فوقه من خلايا حركته الدعوية ، لا يملك أية رؤية واضحة ومنسجمة بخصوص النقاش الجاري حول اشكالية اللغات بالمغرب ، والدليل الساطع على ذلك أنه فضحنا فضحا مبينا أمام المستشار الملكي العلامة عباس الجراري و المدير العام للإيسيكو الدكتور عبد العزيز بن عثمان التويجري وشخصيات أخرى وازنة تفضلت بحضور افتتاح مؤتمر حول اللّغة العربية انعقد بالرباط أواخر شهر دجنبر المنصرم. فما ان خرج الرجل عن النص الانشائي المكتوب له وعاد الى نزق عفويته التي لا تليق سوى بعتاة المجاذيب ولا تجدر اطلاقا برجال الدولة، حتى رجع الى قاموسه الحيواني العزيز على لسانه من أجل أن يشرح لنا نظريته الافتراسية في تمجيد اللغة العربية، وكان مسك ختام مداخلة عبد الاله ابن المقفع قوله بالحرف «حنا المغاربة بحال السبع، اذا شاف بنادم كيهرب، واذا قلب عليه بنادم كيتخبا، ولكن اذا تواجه معاه كينوض ليه، أنا السبع وكلشي كيعرفني، هاذي هي اللغة العربية. السلام عليكم» بالأمس سمعناه يجزم أن اللغة العربية هي دين الاسلام حتى لا يقترب منها أحد ويحشر نفسه في زمرة الفاسقين، وهو عندما يرفع لسان العرب الى ملكوت السموات فلكي يسدل الستار وينهي النقاش قبل حتى أن يبدأ ، واليوم ينزل لغة الضاد الى عالم الكواسر و البراري ويجعل لها أنياب ومخالب السباع، لترهيب كل راغب في فتح هذا الملف، معتقدا في رأيه الشاطح، أن الحوار الوطني حول الشأن اللغوي لن يكون الا مواجهة دموية ستحسم بضراوة الفتك والافتراس، فهمتي ولا لا؟ قبل ذلك وفي نفس المداخلة أراد رئيس الحكومة المغربية أن ينتهز المناسبة لتسفيه الدعوة الى تبني اللهجة العامية في مجال التدريس ، فخاطب الحضور الذي نزلت على رأسه الطير من شدة الذهول»ها سي التويجري قدامكم اذا نهضر أنا بالدارجة ويهضر هو بالدارجة ديالو، اذا تفاهمنا، ولا نتوما فهمتو شي حاجة، عليكم أمان الله» فهمتي ولا لا ؟ السي بنكيران وهو يتحدث بالدارجة ديالو وليس باللغة الرسمية للدولة التي هو رئيس حكومتها، عبر عن أتم استعداده في ذات المداخلة للتصدي لكل محاولة لإقحام الدارجة في المدرسة المغربية ، وليس عيبا ولا عبثا ان كان يحلو له هو اقحام الدارجة (ديالو) في البرلمان المغربي الذي هو مؤسسة دستورية، حيث يقضي الهوى البنكيراني أن يكون ادماج الدارجة في المدرسة المغربية ماسا بالوحدة الوطنية، ويكون ادماجها في المؤسسة البرلمانية جالبا للنفع العميم والتواصل الماكر لمن أراد ابلاغ صوته للناخبين من سواد الأمة، ولعل معاليه لا يعلم أن القاعدة الكونية المطبقة لدى جميع الأمم هي أن تكون اللغة الرسمية للدولة هي لغة التداول في الحكومة والبرلمان والمؤسسات الرسمية، ولعله لا يدري كذلك أنه بهذا الاصرار على تلهيج أشغال غرفتي البرلمان قد يضع جلساتها تحت طائلة عدم دستوريتها، فهمتي ولا لا؟ أما عندما أراد السيد رئيس الحكومة أن يسدد بمنتهى الدقة احدى طلقاته خلال آخر جلسة شهرية لمناقشة السياسة العامة في مجلس النواب، فانه لم يجد أفصح ولا أبلغ من الدارجة التي أسعفته في القول» واليوم ملي درنا الارجاع ديال الأموال وديال الممتلكات اللي كاين فالخارج، ويصرحو بها مواليها، الحزب ديالي معروف وخا أنا رئيس الحكومة ، ما عندو حتى شي حاجة على برا، أرا ورقة نوقعها ليكم، واللي ديالنا على برا خذوه» ويا سلام على رئيس حكومة يرقص في البرلمان طربا لحزبه ويلوح بصكوك الاتهام ضد أحزاب غيره كأنه ادريس البصري في عز أيامه. لقد صار واضحا أن المشكلة الحقيقية عند السيد رئيس الحكومة ليست هي عاميته اللسانية، وانما هي مصيبة أخطر وأفدح تسمى العامية السياسية ، وهي التي تجعله على الدوام غافلا عن صلاحياته الدستورية ، خالطا بين منصة البرلمان وأي سوق أسبوعية في خضم الحملة الانتخابية، فهمتي ولا لا ؟ والمثير في آفة العامية الجامحة و الأهواء الطافحة عند بنكيران هو أن المادة 76 من النظام الداخلي لمجلس النواب تنص على انجاز تقارير خاصة بمناقشات الجلسة العامة، وعلى أن ينشر المحضر برمته في الجريدة الرسمية للبرلمان تنفيذا لأحكام الفصل الثامن والستين من الدستور، وهنا يصبح المرء متشوقا للاطلاع على هذه المحاضر من أجل الوقوف على حدود الاجتهاد في ترجمة الشطحات البنكيرانية من الدارجة الى اللغة الرسمية. أما في مجلس المستشارين، وأثناء جلسة المساءلة الشهرية حول السياسة الاجتماعية للحكومة، فان النزعة العامية في الممارسة السياسية لدى رئيس الحكومة تجاوزت نطاق التلهيج الى فنتازيا التبوريد، حيث صهلت الخيل ولعلع البارود وصاح رئيس الحكومة «حتى أنا نتبورد، وها أنا كنتبورد..ومازال غاد نتبورد ان شاء الله، لأن الشعب باغيني..ايه آسيدي غانتبورد» . فهمتي و لا لا ؟ والحاصل أن السيد بن كيران باستثناء التقدم الطفيف في تهذيب اللحية واحكام ربطة العنق ، لم يحقق أي تقدم خلال السنتين المنصرمتين من عمر حكومته في مسار ارتقائه الى مقام رجل الدولة، ولا هو استطاع أن يستلهم قليلا من مزايا أسلافه، فظل «يتبورد» في عاميته السياسية بعيدا عن رصانة الفاسي وكفاءة جطو وحكمة اليوسفي . ان نفس رئيس الحكومة مجبولة كثيرا على الهوى ، وهي لا تستأنس سوى بالآراء الفاسدة والأهواء الشاردة ، ولكي يصير السي عبد الاله جديرا بمقام رجل الدولة سيكون عليه أن يلزم نفسه بمخالفة هواها مهما كان الهوى سلطانا ، أما ان استعصى عليه الأمر فلن يجد أفضل من العودة الى مصنفات الماوردي الذي قدم للحاكم مجموعة من قواعد السلوك في فن السياسة ونصحه أن يلتزمها إن أراد استمرار حكمه واستقامته . فقد حذر الماوردي الحاكم من الغرور، مؤكدا على أن قيمة الحاكم تقاس بقدر ما أنجز من أعمال وليس بالتكبر والتعالي على المحكومين ، وحتى يأمن من متاهة الطيش ويسلم من عاقبة اللغو حثه على «ضبط اللسان ، في معنى لزوم الصمت إن أمكن ، واجتناب الكلام إلا للضرورة ، فإن كان متكلما لا محالة فعليه التفكير المسبق قبل التفوه بالكلمة ، فيشتمل تفكيره التدقيق في اختياره لألفاظه وعباراته ؛ لأنه محط للأنظار دائما «. فهمتي ولا لا ؟ فهل نأمل في شفاء رئيس الحكومة من أعراض الهوى المستبد بنفسه والمفسد لسياسته ، أم نذهب مذهب الرأي القائل بأنه لا يجب أن يتولى السلطة أناس في طور التدرب على القيادة، ولا أن تكون الدولة حقل تجارب لأناس عديمي الخبرة؟ . يبدو ألا أمل في الشفاء ، فمنذ أن رست مراكب ابن كيران على شط بحر الهوى ، وحكومته تنقلب من حال الى حال في دنيا الأهواء، فاقدة كل بوصلة ترشدها أو رؤية تحكمها أو خطة عمل تنهجها ، ففي البداية رفعت علينا راية محاربة الفساد و الاستبداد، ثم انتقلت الى التهديد بقلب الطاولة على الرؤوس والنزول للشارع ، ثم عرجت على اعلان العفو عما سلف ، وبعدها تدحرجت الى خطاب الامكان الذي ليس فيه أبدع مما كان ، قبل أن تركن مؤخرا الى التطوع لأداء مهمة الحراسة الليلية لحفظ الاستقرار. والحال أن الحكومة البنكيرانية صارت هكذا أشبه بتلك المرأة التي حارت في سر هروب زوجها الى حضن أخرى ، فتساءلت مع نفسها كيف أن الأخرى لا تختلف عنها في شيء ، ومع ذلك فقد نجحت في معرفة سر ما يعجب الرجل في المرأة، وبعد أن جربت المسكينة بلا جدوى أن تكون لزوجها بمثابة الوالدة، ثم الصديقة ثم العشيقة ، قررت ان تصير له في الختام بائعة هوى في الفراش . لا أقصد أن حكومة عبد الاله بن كيران استهوتها صيغة بائعة الهوى في المعاشرة الزوجية، ولكني أرى أنها تركت مصالح الشعب وتفرغت لتجريب فنون الغواية مخافة ان تهجر في المضجع، كأنها تعمل بنصيحة نزار قباني الذي قال: لا بد في الجنس من الخروج على النص و إلا تحولت أجساد النساء إلى جرائد شعبية عناوينها متشابهة صفحاتها مكررة!. فهمتي ولا لا؟