إذا كانت الرواية تتصدر المشهد الأدبي والفكري، فلميزة فيها، إذ هي تتسع لما لا تتسع له الحقول والأجناس الأخرى. قد تصاغ الرواية بلغة شاعرية أخاذة، أو تكتب برؤية فلسفية نفاذة، وقد تحفر في أقاصي الوعي الباطن كما يفعل علماء النفس، أو تسلط الضوء على عيوب المجتمعات وأزماتها كما يفعل علم الاجتماع. وهكذا فهي قادرة على استثمار إمكانيات الحقول الأخرى، لا لتعرض فكرة أو تدافع عن قضية أو تروج لعقيدة، بل لكي تروي الحياة بنبضها وتوترها، بمعاناتها ومكابداتها.. وأعترف بأنني من عشاق الرواية، أقضي أمتع الاوقات وأخرج بأغنى الخبرات، فيما أقرأ ما يصدر من الأعمال السردية الجديدة، المثيرة والمدهشة. ومن الروايات التي قرأتها، مؤخراً، واستولت على مشاعري وفكري، رواية «جيرترود» للكاتب المغربي حسن نجمي التي أعدها فوق الجوائز وإن لم تنل جائزة. إذا كانت الرواية تتصدر المشهد الأدبي والفكري، فلميزة فيها، إذ هي تتسع لما لا تتسع له الحقول والأجناس الأخرى. قد تصاغ الرواية بلغة شاعرية أخاذة، أو تكتب برؤية فلسفية نفاذة، وقد تحفر في أقاصي الوعي الباطن كما يفعل علماء النفس، أو تسلط الضوء على عيوب المجتمعات وأزماتها كما يفعل علم الاجتماع. وهكذا فهي قادرة على استثمار إمكانيات الحقول الأخرى، لا لتعرض فكرة أو تدافع عن قضية أو تروج لعقيدة، بل لكي تروي الحياة بنبضها وتوترها، بمعاناتها ومكابداتها.. وأعترف بأنني من عشاق الرواية، أقضي أمتع الاوقات وأخرج بأغنى الخبرات، فيما أقرأ ما يصدر من الأعمال السردية الجديدة، المثيرة والمدهشة. ومن الروايات التي قرأتها، مؤخراً، واستولت على مشاعري وفكري، رواية «جيرترود» للكاتب المغربي حسن نجمي التي أعدها فوق الجوائز وإن لم تنل جائزة. جيرترود ولغزها فوجئت عندما وقع نظري على رواية «جيرترود» لحسن نجمي، لعلمي بأنه شاعر بالدرجة الأولى. ولكنه بدا لي روائياً من طراز رفيع في هذه الرواية. وهي تدور في مجملها حول العلاقة التي ربطت بين الشاب المغربي «محمد» وبين الكاتبة الأميركية «جيرترود ستاين» (1898- 1946) التي أقامت في فرنسا، وصنعت لها شهرة في الوسط الثقافي، حتى باتت واحدة من الشخصيات البارزة، تستقبل في بيتها، الذي تحول الى صالون أدبي ومتحف فني، كبار الفنانين والأدباء، أمثال بيكاسو وماتيس وأبولينير وهمنغواي وماكس جاكوب.. وكان بيكاسو قد رسم لها صورة شهيرة هي التي تتصدر صفحة الغلاف في الرواية. أما محمد الذي أتقن الاسبانية والفرنسية، فقد تعرف الى السيدة الأميركية، في طنجة، في أثناء زيارتها للمدينة، إذ كان مكلفاً بمرافقتها، فجمع بينهما ما يجمع بين المرأة والرجل، عندما يختلي واحدهما بالآخر. لقد فتنت جيرترود بالفتى المغربي بعد ليلة فردوسية قضتها معه. ولذا، عندما كانت تودعه دعته الى زيارتها في باريس. وكان محمد الذي أوتي حظاً من الثقافة يتردد في تلبية الدعوة، نظراً لإدراكه الفارق الكبير بينه وبين جيرترود من النواحي الثقافية والمجتمعية والشخصية. ولكنه حزم أمره، في النهاية، فترك وظيفته الرسمية وسافر الى باريس يحركه الهوى والشوق، أو حب المغامرة، فاستقبلته جيرترود وأقام عندها بوصفها رجلها، في الظاهر بل الرجل الوحيد في بيتها لا ينافسه على محبتها ونيل رضاها سوى غريمته الأميركية أليس توكلاس، التي اضطلعت بأكثر من مهمة في حياة جيرترود، إذ كانت صاحبتها، ورفيقتها، وساعدها الأيمن في أنشطتها الأدبية والفنية. حاول محمد الانخراط في أجواء جيرترود، حيث أوتي له التعرف على كبار المثقفين والتحدث اليهم، بمن فيهم بيكاسو، وقد حرص على أن يتعلم ويكتسب خبرات جديدة تؤهله لكي يكون مكافئاً لسيدته،فكرياً ومجتمعياً.. ولكن ذلك كان من المحالات، فلا فحولة الفتى المغربي، ولا ذكاؤه، ولا معرفته حدوده والتزامه بخدمة جيرترود، إذ كان دوماً رهن إشارتها، لم يكن كل ذلك كافياً ليردم الهوة، بينهما، أو ليضمن دوام العلاقة، سيما وأن جيرترود كانت استثنائية بالنسبة الى محمد بذكائها ومكرها ومكانتها وحضورها ونرجسيتها وتسلطها، إذ كانت تحب فرض سيطرتها حيث توجد، كما يروي عارفوها، وعلى رأسهم بيكاسو الذي كان يفوقها نرجسية وسطوة. ولذا كان من المتوقع أن تستنفد العلاقة بين محمد وسيدته وأن تصل الى نهايتها الكارثية. فما أن شعرت الأميركية بأن المغربي لم يعد طوع أمرها، وأنه أخذ يخرج من الشقة بعد أن استهوته بيئة الغجر الذين كانوا يقيمون في ضاحية باريس، حتى غضبت عليه ونفرت منه وسدت الباب بوجهه، طالبةً اليه أن يعود من حيث أتى. وهكذا عاد محمد الى طنجة، مهاناً، مجروح الكرامة، محطم الآمال. لقد طعنته جيرترود في الصميم، بعد سنوات قضاها عندها بوصفه خادمها المطيع، وظل هذا الجرح يعتمل في داخله، ويسبب له الحزن والألم، حتى وفاته. حاول محمد أن يكتب ليخفف من وطأة الألم، ومع أنه كان يعيش وسط المثقفين في طنجة، فلم يحسن أن يصنع من نفسه كاتباً. ما كان بوسعه أن يفعله هو أنه ترك أوراقاً سجل عليها ما تذكره او تخيله من الوقائع والتفاصيل المتعلقة بحياته في باريس. وقد عهد بهذه الاوراق، قبل رحيله، الى صديقه الشاب حسن وتمنى عليه أن ينوب عنه في كتابة ما عجز عنه، أي قصته مع جيرترود، سيما وأن هذه الأخيرة قد تجاهلته في سيرتها وذكرته بصورة عرضية، الأمر الذي ضاعف من إحساسه بالاهانة والمرارة. وقد قبل حسن المهمة، ليس وفاء لصديقه الراحل، بل كان الأمر عنده بمثابة تحدٍ وجودي يمتحن قدرته على إنشاء عمل سردي يحكي فيه قصة طريفة ومأساوية. وكان على الراوي، حسن، الذي قبل المهمة، أن لا يكتفي بما تركه محمد من المذكرات. فقد التقى لهذه الغاية بالشابة ليديا ألتمان، مديرة المكتب الاعلامي في السفارة الأميركية بالرباط، التي يسرت له الذهاب الى نيويورك لكي يطلع على المعلومات من مصادرها، في متاحف المدينة التي تضم مقتنيات جيرترود وأعمالها وصورتها. إلا أن حسن، وكما يروي، وقع في غرام ليديا ونشأت بينهما علاقة حب. وصار الراوي يروي قصتين متداخلتين: قصة محمد وجيرترود، وقصته مع الاعلامية الأميركية، مع فارق أن علاقة حسن بليديا، هي علاقة ندية، جمعت بين دبلوماسية أميركية مثقفة وبين كاتب وصحافي، مما زاد الرواية غنى وطرافة وتشويقاً. فما الذي أراده نجمي من سرد أو اختلاق قصة العلاقة مع ليديا؟ هل الانتقام لمواطنه المغربي والتعويض عما أخفق فيه ؟ أم شاء أن يقول لنا أن المعطيات تغيرت، اليوم، في ما يخص العلاقة بين الهويات الثقافية، عما كانت عليه أيام الاستعمار. أيا تكن الدوافع والمعطيات، فالمهم هو فن القص وأسلوب السرد، أي كيف تروى حيوات الاشخاص. وإذا كان للرواية مرجعها في الواقع كونها تحكي قصة أناس حقيقيين، فإنه من التبسيط والخداع أن نعدها سيرة حياة، فما من حياة تستعاد كما هي، سواء تحدث الراوي عن حياته أو عن حياة غيره، وإلا لا تكون عملاً فنياً. إذ لا فن من غير إبداع أو اختراع تتحول معه المعطيات الى أثر أدبي خارق. وهكذا فالرواية ليست مرآة للواقع، بل تصبح هي نفسها واقعاً بما تخلقه من العوالم والحيوات والشخوص والأحاسيس والأفكار. وهذا هو الشأن في بقية الحقول، كما تشهد المثالات مع ليلى في شعر قيس، أو مع مدام بوفاري في رواية فلوبير، أو مع شخصية سقراط في حوارات أفلاطون، أو مع جيرترود في لوحة بيكاسو. هكذا فمع القصيدة والرواية والفلسفة واللوحة تخترع هويات جديدة للأشخاص، عبر المجاز والسرد والمفهوم واللوحة.. وهذا ما أنجزه حسن نجمي في روايته. إنه صنع، عبر السرد، صورة مختلفة لجيرترود تحيا بها حياة جديدة. وليس الأمر مجرد وهم. هناك خيط رفيع بين الوهم الخادع أو الخيال السقيم وبين التخييل الخلاق والمخصب، حيث تخرج الشخصيات الواقعية مخرجاً جديداً تبدو فيه واقعية أكثر من الواقع نفسه، أي أغنى وأقوى وأبقى وأكثر حيوية. هذه هي مفاعيل الأعمال الفنية التي، فيما هي تحكي عن الواقع، تتحول هي نفسها الى واقع يترك أثره العميق والدائم في تشكيل العقول وفي تغيير مشهد الواقع. وهذا ما يجعلنا ندرك معنى الاقوال التي يوردها الراوي على لسان الشخوص التي اخترعها، كقول برنارد صديق محمد له: إن بيكاسو لم يرسم بورتريه جيرترود. ما رسمه هو حقاً «قناع»، ربما استلهمه من الفن الأفريقي. ولا غرابة فالواقع هو مجرد مظهر أو قناع يخفي أكثر مما يبدي. وما يفعله العمل الفني هو تحرير الوجه بكشف الاقنعة. ولهذا قالت جيرترود عن صورتها: هي أنا وليست أنا. لأن الصورة تكشف لها وجهها الآخر، أو ما لاتعرفه من نفسها. وللانسان وجوه وأحوال لا تُحصى. إنه تعدده واختلافه، بقدر ما هو نسبته إلى سواه وعلاقته بغيره. والاروع هو القول على لسان بيكاسو: «إذا كانت الصورة لا تشبه صاحبتها، فسيتشابهان في المستقبل». ذلك أن جيرترود الحقيقية قد ولت وحلت محلها الصورة التي صنعها بيكاسو، والتي أصحبت هويتها وأثرها الباقي في الاذهان. ومن خلال هذه الهوية تحيا جيرترود عند كل من يتأمل الصورة ويتأثربها، تماما كما أن نجمي اخترع هوية أخرى لجيرترود تحيا بها عند كل من يقرأ الرواية ويتأثر بها. وهكذا أبدع نجمي في خلقه لجيرترود، عبر إنشائه الجميل وسرده الممتع، بقدر ما نجح في بناء عالمها وتأول تجربتها وتركيب هويتها. وأنا فيما كنت أقرأ كلماتها عبر السرد، كنت أستحضر، بغير وعي مني، صوتاً أنثويا تلبسني، خاصة صوتها عندما كانت تخاطب محمد أو أليس. ولما فكرت في الأمر وجدت أن هذا الصوت هو صوت الممثلة والمخرجة المسرحية اللبنانية نضال الأشقر التي تجمعها بجيرترود قوة الشخصية والحضور وإتقان الحديث. بهذا المعنى فجيرترود لا تحيا فقط، عبر اللوحة أو الرواية، بل أيضا عبر ما تخلقه الرواية أو اللوحة في أذهان القراء من الصور والأطياف والهوامات والمشاعر.. وإذا كان نجمي أبدع في بناء شخصية جيرترود، فإنه أبدع في تفكيك شخصية محمد الذي هو السر واللغز؟ فلماذا أقدم على ما أقدم عليه؟ لماذا رضي بوضعيته في بيت جيرترود وهو يعلم بأنها غير لائقة؟ هل لأن ما حركه هو الهوى والشوق، والهوى غلاب؟ أم لأنه أراد الخروج من بيئته المغلقة والمسدودة نحو أضواء باريس؟ ألم يخطىء الحساب في خوض المغامرة وركوب المخاطرة؟ ألم يكن يعلم أنه ينخرط في مشروع هو أكبر منه ولا قدرة له على حمل تكاليفه؟ أيا تكن الدوافع، فالمهم،روائياً هو كيف قرأ نجمي تجربة محمد أو استقرأ مآلها؟ لا تبسيط ولا اختزال ولا مثالية في الرواية. فالانسان ليس حاسوباً، ولذا ليس كل ما يقدم عليه هو ثمرة التحليل العقلي الدقيق ؟ فهناك الأهواء والعقد. وهناك الآمال والطموحات. وحتى لو كان الواحد يتقن الحساب، فلا يعني ذلك أنه يضمن السيطرة على حياته أوقود مصيره. فالمرء، وبعكس ما يدعي، لا يملك زمامه ولا يسيطر على أهوائه. إذ هو يجهل ما يحركه من عقد أو صدامات أو جراح غائرة، كما لا يستطيع التحكم بأعماله التي تتجاوزه بمفاعليها وتداعياتها. ولذا فهو ينتهك ما يدعو إليه، أو يرتد على أعقابه، أو يقدم على أشياء وهو يدرك خطورتها، أو يصل الى عكس ما فكر فيه وخطط له.. وتلك هي الحياة، بازدواجيتها والتباساتها، بمفاجآتها وصدماتها. ولعل هذا ما يجذبنا في العمل الروائي، فنحن عندما نقرأه نشعر بأنه يعنينا في الصميم، وكأنه يتحدث عنا أو يروي حياتنا بهمومها ومشاغلها، بصعوباتها وأزماتها، بمسراتها وأوجاعها... وإذ كانت رواية جيرترود تنطوي على حوارات غنية بالأفكار والآراء، فإن ذلك لم يحولها الى عمل فكري. بل إن الأفكار وظفت لمصلحة السرد. نحن إزاء رواية متقنة بقدر ما هي محبوكة، ومبنية بقدر ما هي مبتكرة، وغنية بقدر ما هي حية، ومشوقة بقدر ما هي كاشفة. لقد أثبت نجمي بواسطتها بأنه أديب منشى، وفنان صانع، وقارئ جيد للمصائر، فضلاً عن شاعريته التي تتجلى في أسلوبه. هذا ما جعلني أقرأ الرواية بشغف، ولكن بتأن، إنها رواية لا ننتهي من قراءتها.