يبدو أن النقاش العمومي الذي تعرفه بلادنا هذه الأيام، في أمر اللغة بشقيها الكتابي والشفاهي، أي الفصحى والعامية، قد استعر، واستشرى، وإذ سما على يد بعضهم، سَفَّ على يد البعض الآخر. ولاشك أن للخبرة والتجربة والعلم بالمجال، والارتباط التصريفي به من حيث الكتابة الإبداعية أو الفكرية، أو من حيث اعتمادها في التدريس، لها اليد الطولى، والقدم الراسخة في ما يذهب إليه رجالات، فيما يَقْصُرُ عنه آخرون لقلة حيلتهم المعرفية، وضآلة زادهم الفكري والتربوي والبيداغوجي. ولم يكن لهذا الإشكال أن يعرف هذا الاحتداد في النقاش والمجال، والحراك الجمعياتي العام، وخروج مؤرخين ذوي نظر ثاقب وعدة معرفية وازنة، خروجهم من «مقبعهم» لولا ما خمنوا أنه تهديد للكينونة اللغوية، وتنقيص إن لم يكن، تحقير للعربية الفصحى، وتبخيس لقدرتها على استيعاب نواتج العلوم الرقمية، والتكنولوجيا الدقيقة. لكن، هل «خرجة» رجل الأعمال والمستثمر في التعليم والإشهار السيد «عيوش» تستحق هذا «اللغط العلمي، و»الضجيج العلموي» في بعض الأحشان؟. وهل تكون ندوة «زاكورة» حول تلمس الطرق والوسائل القمينة بتطويق الانحدار التعليمي، ووضع حد للإفلاس التربوي، والتي ارتأت خلاصاتها وتوصياتها أن علة العلل تكمن في لغة التدريس، وأن الهدر المدرسي الذي تعرفه أطوار التعليم وبخاصة طوري الابتدائي والإعدادي، سببه الواضح هو اللغة العربية الفصيحة التي يُقْسَرُ الأطفال في بداياتهم التعليمية على تعلمها وَتَهَجِّيها، والتواصل بها في فضاء المدرسة، وساحة المؤسسة، والحال أنهم سرعان ما يَطْوِونها طَيَّ كتاب عندما يغادرونها إلى منازلهم، وإلى الشوارع والأزقة والحواري. هل تكون ?إذًا- تلك «الندوة» الشهيرة، هو ما دفع الكثيرين ليستلوا سيوفهم، بعد أن أخرجوها من أغمادها، دفاعا عن الهوية المغدورة التي تحملها اللغة الفصحى، وحماية لحوضها الصافي حتى لا يخوض فيه خائض، ويصله واصل مدسوس؟ أم أن من حضر الندوة هو من أعطاها هذا الحجم الأخطبوطي حتى جازت المربع؟. قد يكون دافع الخروج للاعتراض على أفكار وخلاصات الندوة، وتوصياتها، فضلا عن دفاعها عن العامية/العاميات المغربية، ارتفاعها إلى ملك البلاد. من هنا، جاء الخوف، وهو خوف غير مبرر على الإطلاق، في نظري، لأن الدوائر العليا، وإن حضرت ممثلة في بعض مستشاري الملك، وخبراء مغاربة ودوليين، لا يمكنها الحسم في شأن اللغة وهي هوية وكينونة وثقافة وحضارة ولسان. إذ لا ثقافة من دون لغة، ولا لغة من دون ثقافة وحضارة ولسان. إذ لا ثقافة من دون لغة، ولا لغة من دون ثقافة، توأمان سياميان، وَجْهٌ وَقَفَا، يستوي في ذلك اللسان العربي الفصيح، لسان الكتابة أساسا، واللسان العامي المُفَصَّح والمُمَزَّغ. كانت الندوة بمثابة شرارة أطلقت، والشرارة قد تنطفيء للتو ما لم تسندها عوامل ودواع، غير أن معظم النار من مستصغر الشرر كما يقول المثل العربي. والسؤال هو : هل أصاب نور الدين عيوش الذي هو ترجمان وناقل لأفكار وآراء ومواقف تيار داخل البلد؟ وهل كان من الضروري أن يخرج المفكر والمؤرخ عبد الله العروي، متصديا «لأطروحة» عيوش ومن معه؟ وأن يخرج اللساني المحنك عبد القادر الفاسي الفهري، والأنتربولوجي المحمودي وغيرهم ليفندوا «مزاعم» عيوش، أو ليخففوا من سَوْرَتها، وَيُحَجِّمُوها بعد أن يُظْهِروا تهافتها وخواءها إن كانت تشكو من تهافت وخواء؟ لم تخطيء ندوة «زاكورة» وهي تعلي من شأن اللسان الدارج (العامية المغربية)، مقترحة اعتماده في السنوات الأولى من تمدرس الأطفال والطفلات المغاربة، وبخاصة في المغرب المنسي، العالم القروي الذي لم يأخذ بأسباب الحضارة بعد. لم يخطيء -في ظننا- بالنظر إلى أن سنوات الطفولة الأولى تقتضي اللعب والرسم، والاحتكاك بالمشاهد الملونة، وبأفلام «الكارتون» المتحركة المستندة إلى الحركة في التصوير، والتسميع الموسيقي، والأصوات المختلفة النابعة من حيوان أو إنسان أو مظهر طبيعي كالمطر والخرير، إلخ. لا يتعلم الطفل في هذه المرحلة، اللغة المعيارية، وهو إن تعلمها فإنه يشعر بمعاناة ما بعدها معاناة، تنكسر جراءها نفسيته الهشة، ويلبسه نفور وخوف وارتعاب من قسره على تعلم الأبجدية أو الكلمة مجتمعه كما تقول بذلك النظرية الجشطلتية، أو الكلمة مجزأة كما تقول بذلك نظريات أخرى. فهذه المرحلة ?لعلم القُرَّاء- نطلق عليها في الأدبيات التربوية ب : مرحلة ما قبل التمدرس : Le Préscolaire، والتي تترجم خطأ ب : «التعليم الأولي». وإذا كانت المرحلة مرحلة ما قبل مدرسية، أفلا يعني ذلك، أنها مرحلة اللهو واللعب، والنشاط، والاندماج مع الأقران في عجن الألوان، وتشكيل عوالم مِمْرَاحة يبرع الأطفال في إتيانها، وهي تشكيلات فطرية تلقائية نابعة ومنبثقة من روح الطفولة وهناءتها. فما اللغة التي نتواصل بها -تَبعًا لهذا- مع الطفل, إنها العامية، عامية منطقته وجهته، وفقا لعامل الخصوصية الذي ما فتيء خبراء التربية يذكرون به، ويحثون على الاهتمام به وتبنيه في منهاج الكتاب المدرسي. ومن ثم، فخطر التشرذم اللغوي غير وارد، انطلاقا من العاميات المغربية المختلفة. علما أن هناك مشتركا عاما بينها وطنيا، وأن التفاهم يسري بين المناطق والناس عندما يلتقون في الأسفار والمقاهي، والشواطيء وغيرها. هيمنة العامية على البيئة العامة للطفل، هي ما يتوجب استعمالها في سنوات ارتباطه بالمدرسة، واحتكاكه بالأطفال إناثا وذكورا، فبها يتحدثون في الساحة، وخارج الساحة، وداخل منازلهم، ومع البائعين في المحلات، والفارشين بضائعهم وأشياءهم في الأسواق. وقد وافق الأستاذ عبد الله العروي على ذلك، أي على أن تعرف المرحلة إياها، اعتمادا كليا للعامية المغربية، انسجاما مع نفسية الطفل وعقليته، ومستواه، وإدراكه، ومحيطه العام. أما عدد السنوات التي تتحصل فيها العامية المُطَوَّرَةُ مدرسيا، المشذبة من الاستعمالات «العطنة» المتسربة من تجمعات خاصة سرية التي تسللت إليها كلمات نابية، سكنتها تعابير جنسية فاحشة، فهي سنوات المرحلة ما قبل المدرسية، وسنوات السلك الأول من التعليم الابتدائي، أي ما مقداره أربع سنوات، على أن يشرع في السلك الثاني ابتدائي من استتزراع اللغة المفصحة ما يعني اللغة الوسطى، لا اللغة العليا، أو اللغة المقعرة، فمستوى هذه، زمانه التقدم في السن، والنضج فيها. إن ما ينبغي معرفته هو أن هذه الدعوى، دعوى اعتماد العامية في التدريس، ليست بنت اليوم، ولا تفتق عنها اجتماع الندوة المعلومة، فقبل هذه «الزوبعة» اللغوية التي يلابسها المنزع الإيديولوجي كما المنزع السياسي، كما المنزع العلمي، عرفت بلادنا زوبعة مماثلة تماما قبل سنوات فقط، فيما يتعلق بأعتماد اللغات «الحية» الإنجليزية أو الفرنسية ،وطرحت الفكرة بإلحاح على وزير أول سابق، لست متأكدا، أهو ادريس جطو، أم عباس الفاسي؟، ومرت نسيا منسيا. ما يدفعني إلى القول بأن اللغط الجهير الأخير إنما مأتاه نوعية الحاضرين في الندوة، وطبيعة علاقة عيوش بالدوائر الرسمية، وعلاقته بالملك، ومأتاه أيضا ما يَسَّرَهُ له المناخ الفكري العام، والحراك الجماهيري في البلاد العربية، بحيث بدا أنه من حق الواحد فينا أن يدلو بدلوه في أمر أو شأن ما متى ما عَنَّ له أن له دراية به، وإلماما، ورأيا مخالفا، وما هم إيجابياته من عدمها. ولنا أن نقول إن النقاش الذي فجره «عيوش» هو نقاش مشروع، شريطة الالتزام بأخلاقيات النقاش، والاستناد إلى رؤية واضحة لا غبار عليها، أي لا إيديولوجية خلفها تَنْخِسُها كما نَنْخَسُ دَابَّةً بِمِنْسَأَةِ التسرع والسباق، والفلكلرة البهلوانية. ثم أن يَنْبري من يريد، للمسألة مناقشا منافحا أو مفندا داحضا، مسلحا بالأدبيات التربوية، والمستجدات في مضمار علم النفس التربوي، وعلم النفس الاجتماعي، وعلم نفس الطفل، وكذا بأصول وأنواع البيداغوجيات، والمعرفة الراسخة بخصوصيات اللغة، وذهنية وعقلية الإنسان المغربي، وقبل ذلك وبعده، أن يكون ذا صلة بالميدان، ذا احتكاك بالمؤسسة، ذا تجربة تدريسية وتعليمية، وذا اطلاع بمختلف أطوار التعليم، والمناهج المرصودة لكل طور من هذه الأطوار. من دون هذه العدة، وهذا العتاد، وهذا الزاد المعرفي، والتربوي، والعلمي ،واللغوي، لا يحق لأي كان أن يتطفل على الميدان، ولا أن يدخل مربعه، ويجوز دائرة من دوائرة، إذ ما سيقوله سيكون عبارة عن عبث العابثين، وسيرجم بالغيب شأنا هو أبعد ما يكون عنه، وَيُسَامِتُ حوضا دونه «الثعابين» والأسلاك الشائكة. بعض ما قلناه، للتو، عايناه مبثوثا في مقالات معينة لا علاقة لأصحابها بالتعليم، وبما خاض فيه عيوش وما لم يخض فيه. أكاد أقول: لم يطلعوا البتة، على مشروع التوصية، لأنها غير منشورة، فهي لا تزال حبيسة الأضابير، يُسَوِّرُها صمت مغلق حتى «ينفرج» أمرها على يد من رفعت لهم بدءا من الملك ورئيس الحكومة ووزير التربية الوطنية، وأمين عام المجلس الأعلى للتربية والتكوين، وانتهاء ببعض الخبراء، والعارفين بالتربية والتعليم. حال «التوصية الزاكورية» كمثل حال مقالة «هنتغتون» الشهيرة «صراع الحضارات» التي قرئت من خلال قراءات مختلفة مكثفة حَادَتْ عن فهم سياقاتها وعمق مراميها، فإذا باللعنات تَنزل على صاحبها، والسهام ترميه، والتسفيه يطول مقالته، وبالتبعية، كل فكره، ومشروعه النظري. اتفقنا مع التوصية في حدود تعاطيها مع واقعة المرحلة الطفولية، وسنوات ما قبل التمدرس، وصولا إلى السنتين الأُولَيَيْنِ من التعليم الإبتدائي. وفي حدود معرفتنا بعاميتنا، والعاميات العربية الأخرى التي هي فروع لسانية للجذع الفصيح ما يعني أنها تحمل كثيرا من تعابيرها ودلالاتها، وتحوز، بشكل أو بآخر، على منطق تعاملها في التخاطب ومع الحاجات الطارئة والعارضة. وإذا كانت بنية العامية المغربية، هي بنية ساكنة إعرابيا، حية أداء وتعبيرا وتواصلا، فهذا كاف ليدرء عنها تهمة التخلف، والقعود عن ترجمة المعاني البعيدة، والإحساس الداخلي، والمشاعر المحتدمة، والرغبات المشتعلة. ولنا في الشعر الملحون ما يؤيد رأينا، وكذا في أشعارنا الشعبية الأخرى، والزجل المغربي البديع. كما أن المسرح مثال ناجز وباهر على قدرة العامية على عكس دفائن المشاعر، وتوصيل جملة من الرسائل الاجتماعية والمواقف النقدية في إهاب لغوي راق فنيا وجماليا. نعلم أن الفرنكوفونية متيقظة، وضاربة في نسيج المجتمع المغربي على مستوى السلطة والصولجان، والاقتراب من المتنفذين السياسيين، وصانعي القرار الذي يحجز أمة، ويتحكم في مصيرها: حاضرها ومستقبلها. و هؤلاء الفرنكوفونيون النافذون بقوة مقاولاتهم، وتدبير اقتصاديات مزجية، وذات دخل خيالي، يلبسون فروة اللغة الفرنسية، ويتشربونها في غدوهم ورواحهم، ولهم حساسية خاصة اتجاه اللغة العربية الفصحى تحديدا لاعتبارات متعددة ومتشابكة لعل أن يكون من بينها تمزيق الوطن العربي بضربه من خلال لغته أي بتكسير هويته، وتمريغ تاريخه، وتشويه أوصاله، أو لأن العربية الفصحى صنو الانغلاق والكراهية، والإرهاب راهنا حيث يماهونها مع الإسلام، ما دامت لغة القرآن، الذي يقوم في بعض آياته على «القتل»، وإرغام الأغيار على الشهادتين، والتشكيك في ديانتهم. لكن مهلا، ما هو سَنَدُنا وبرهاننا في هذا الذي نذهب إليه، وَنَتَّبْعُ ربما فيه أوهاما زَيَّنَها لنا بعض الإسلامويين، وبعض العلماء الماضويين المتحجرين؟ نفتح قوسا لنقول إن «عيوشا» وزملاءه من الخاصة، فرنسيي اللسان، فرنكفونيي السلوك والثقافة والعلائق، وهو يتقدم في توصيته باعتماد العامية المغربية أُسًّا للتدريس ماقبل المدرسي، كان يصدر، واعيا أو لا واعيا ، عن المركز الفرنكوفوني، على رغم صوابية ما ذهب إليه مع بعض التعديل والتشذيب. وبناء عليه، فهو يلتقي بحكم التشبع والتشيع والدراسة و»العمل» مع الدوائر الفرنسية العليا التي ضيقت -تاريخيا- على الإثنيات اللغوية، بل على المكونات اللسانية الفرنسية ضمن الوطن الواحد، وفقا لمنظورها الأحادي «الجَاكُوبِيني» في الانتصار للوحدة والتماسك الوطني الواحد من خلال لغة واحدة وهي الفرنسية العالمة. وبموازاة ذلك، عملت فرنسا على اضطهاد اللغة العربية الفصحى، بشكل خفي ومدروس، بينما أعلت من شأن العربية «الدارجة» «العربية العامية». و دليلنا على ذلك أنها كانت أدخلت هذه العامية كمادة اختبارية في امتحان شهادة البكالوريا يجري الاختبار فيها شفاهيا، واستمر ذلك إلى يناير 1995، عندئذ جعلت العربية الدارجة، مادة كتابية، وتركت للتلاميذ الخيار بين كتابتها بالحرف العربي، أو كتابتها بالحرف اللاتيني، وأوكلت مهمة الإشراف عليها إلى: «المعهد الوطني للغات والحضارات الشرقية»، وكانت على «كرسي العربية» فيه الأستاذة «دومينك كوباي» المعروفة بانتمائها النضالي العتيد إلى اللوبي الصهيوني، وهي المرأة التي «دافعت بحماس فائض على العاميات العربية، مستنقصة قدر اللغة الفصحى. والأمثلة أكثر من أن تحصى. « وهذا المركز الوطني للبحوث الاجتماعية» في باريس، ذو الشهرة العالية، يلغي، ضمن توضيبه الهيكلي الجديد، كل الأقسام الخاصة باللغة العربية، ويلحقها بأقسام أخرى تحت مسميات أوسع. وهذا «معهد فرنسا» الرفيع المتميز «كوليج دو فرانس» يستغني عن «كرسي الأدب العربي» في منظومته المستحدثة» [معلومات مستقاة من كتاب عبد السلام المسدي: العرب والانتحار اللغوي]. فما أوردناه، وسقناه بين يدي المقالة لفضح الدور الفرنكفوني ذي النزعة الهيمنية، والاجتثاتية، يمكن أن يقوم حجة على الذين يستبعدون اللغة العربية، ويعتبرونها حاجزا تنمويا، وسدا منيعا أمام الدخول إلى مجتمع المعرفة الراهن، والانتماء إلى العصر، والزمن الجاري. وفات هاته الطغمة ، «أن الخبراء اللغويين وذوي الاهتمام والانشغال بالحقول اللسانية، والعوائل اللغوية المختلفة، يؤكدون بان الأداء اللغوي للفرد، لا يمكن أن يرتقي ذهنيا بأي لغة أجنبية ما لم ينطلق من امتلاك تام للمهارة الأدائية بوساطة طريق اللغة القومية، أي بوساطة اللغة التي يرتبط بها الاكتساب الأمومي، وما يرافقه من شحن بالقيم الوجدانية والعاطفية، والروحانية، وحتى الأسطورية الميثولوجية أحيانا. وهذا مما يندرج ضمن الحقائق المعرفية على الإطلاق لا على وجه التقييد. وهو في مكاسب علم اللسانيات من صنف الحقائق اليقينية القاطعة لأنه في منزلة الكليات التي تصدق على كل فرد آدمي، وفي كل عصر من العصور، ومع كل ثقافة من الثقافات، وانطلاقا من أي لسان بين الألسنة البشرية الطبيعية» فيما يقول الدكتور عبد السلام المسدي. لا خوف من تعلم وإتقان اللغات الأخرى كالفرنسية و الإنجليزية والإسبانية، والصينية، والهندية وغيرها، فبإتقانها ومعرفتها، والقراءة عبرها للحضارات والثقافات، تغتني اللغة العربية، وتتحرر من أثقال البلاغة المترهلة، والقداسة المفتراة. الخوف كله أن يتم ذلك على حساب اللغة الأم، اللغة الوطنية، وعلى حساب موروث ثري ومتجذر لا يخلو من ريادة فكرية وثقافية وعلمية، وإشراق وفتح مبين تحقق للعربية بالعربية في القرون الأولى بعد البعثة النبوية. هذا من دون تجاهل دور الترجمة والتعريب في ذاك الإغناء، وذاك الفتح الذي ترجم صدارة العربية. لقد كان للمأمون، لبيت الحكمة، يد بيضاء، يد كريمة، ومعروف جليل، على اللغة العربية، بوساطة الترجمة التي نشطت أيامئذ، كما لم تنشط من قبل ومن بعد. وكان من تداعيات هذا النشاط المحموم الرائع، أن أصبحت العربية نطقا وكتابة، مطواعة، مطاطية استوعبت علوم وثقافات الأمم المتاخمة، والأمم المغلوبة التي عرفت حظا وافرا من تمدن، وشهد تاريخها تطورا، وتحولا أفاد العالم في تلك الأزمنة كمثل الفرس، واليونان، والروم، والهند. استمر هذا النشاط العلمي يعمل في اللغة المضيفة، حفرًا، وإغناء، وَرَفْدًا بروح تركيبية «دخيلة»، ونَفَسٍ دلالي إضافي، وبنية نسقية تميزت بليونة التعبير، ودقة الأداء الكتابي، واحتضان الجديد والحديث. وليس من مهرب ?اليوم- من إطلاق الحركة الترجمية، وتنشيط مفاصلها، وتوسيع مراكزها، وتكثير فضاءاتها، وتثمين أعمال علمائها ولغوييها. ليس من مهرب من ذلك إذا شِيءَ النهوض باللغة العربية الفصحى، فمن شأن هذه الهِمَّة الحضارية أن تعيد للغة طراوتها، وتعمل على تليين مفاصلها ومشداتها، وتدمجها في فورة الأخذ والعطاء، والإنتاج المعرفي. وأن لا يُكْتَفَى بالتبويق الرسمي للعلوم والهندسة والفيزياء، وضرورة تدريسها بالعربية، بل يجب بناء تلك المعارف والعلوم باللغة العربية ذاتها، ما يعني أن تنزع عنها حراشف التقعر، وتتحلل من الإغراق في التوشية ، والتزويق، والزركشة البديعية، فلهذه العناصر مجالها.. ومجالها الآداب والفنون التي لا يتنازع إثنان حول أهميتها وجمالياتها عربيا. إن بقاء اللغة، أي لغة مشروط بالتململ، والحراك والدينامية المطلوبة، وعدم الإلتفات طويلا إلى الماضي، والبقاء فيه، ونسيان «القداسة». بقاء اللغة واستمرارها من بقاء أهلها ومتكلميها، ومن دور المؤسسات التعليمية التي صار من اللازم اللازب، على واضعي المناهج والبرامج، التفكير طويلا، والتريث عميقا، قبل تسطير الموضوعات والنصوص، والسجلات السردية المختلفة، ووضعها بين دفتي كتاب. ففي ذلك مقتلها إذا لم تُرَاعِ المنجز التربوي الإنساني العام، ولم تُبَالِ بجهود علماء النفس التربوي، وعلماء الاجتماع التربوي، ولم تكترث بشراسة المنافسة اللغوية التي لا تني تتعولم، ولا تني تزحف عبر السينما، وعبر الميديا، وعبر المحطات والقنوات المختلفة، وعبر «اليوتوب» وباقي المواقع الرقمية. فالتريث يفسر ب: تبسيط قواعد الفصحى، وتجديد سِيبَويْهْ، وإهمال آداب قديمة غارقة في الفصاحة المقعرة، والبلاغة المكعبة، واللعب العبثي بالألفاظ، والتشقيق اللغوي ك»المقامات». عوض ذلك، ينبغي الانتصار للنصوص السهلة الجميلة المعبرة عن المشاعر الإنسانية العميقة، وعن روح العصر الموار بالقضايا المستجدة، واليومي المعيش، ونواتج التكنولوجيا، وثمرات الثورة الإعلامية والتواصلية. كما لا ينبغي أن يعزب عن البال، أن للإعلام يدا في دعم اللغة العربية أو هدمها. فما يعرض في التلفزيون من خلال قنواته المتعددة، يجعلنا نضع أيدينا على قلوبنا توجسا من نسف منهجي ذكي يطول حضور الفصحى، ويشكك في نجاعتها وقوتها، وقيامها بالدور الموكول إليها تاريخيا، وهو حمل الثقافة، والترميز إلى التراث الحضاري العربي- الإسلامي. فالبرامج التي تقدم بالعامية كثيرة، والمسلسلات المدبلجة بالدراجة تملأ السمع والبصر، والندوات التي يستدعى إليها فنانون ومسرحيون، وسياسيون بَلْهَ مفكرون أحيانا، تدار بالعامية في أغلب الحصة المخصصة للندوة. نَعَمْ للعامية المفصحة كما أسلفت، على أن لا تستمر على حساب الفصحى. فبعض المحاور ذات الحمولة الفكرية، والثقافية، والعلمية، والأدبية، لا يمكن طرحها ومناقشتها إلا باللغة العربية لما لها من واعية معرفية، وذخيرة لغوية، ونسق ثقافي يحمل على بسط الأفكار، والقضايا وتحليلها، والحجاج لها أو عليها، وفي نفس الآن، تجريدها. فالحكومات العربية مطالبة بالنظر في أمر الإعلام، ومطالبة بتسريع إيلاء الأهمية، داخله، للغة العربية، وهي (أي الحكومات) التي صَدَّعَتْنا بالبكاء والنحيب على حال لغة «الأمة العربية» المهددة بالموت والزوال: يَحْدث ذلك في كل المؤتمرات التي يتداعى لها «القوميون» من كل الأمصار العربية، حيث يخلصون في خاتمتها إلى نتف شعر الرأس، و» شق الثياب» غضبا وحنقا على مصير لغة القرآن، والحال أن فلذات أكبادهم يتابعون دراساتهم العليا في الولاياتالمتحدةالأمريكية، وانجلترا، وكندا، وسويسرا، وألمانيا، وفرنسا. فهل يعلم هؤلاء وغيرهم أن هجرة العقول العربية تَتْرَى لأنها لم تجد التربة الصالحة، والمناخ الملائم في بلدانها العربية ؟؛ وهل تعلم أن البحث العلمي حاله في بلداننا حال الأيتام في مأدبة اللئام؟ . فالجامعات التي يفترض فيها أن تكون قاطرة التنمية اللغوية، والتنمية الثقافية، ومنارات الترجمة والتعريب، أي مهد ومصدر التنوير المعرفي والعلمي، لا تقوم بهذا الدور ?البتة- على الوجه المطلوب. على العكس من ذلك، فهي بؤر للتحاسد والتباغض العلمي، وموئل للتصفيات السياسية والإيديولوجية، ومَبِيضًا ?في الأعوام الأخيرة- للفكر الغيبي، والفكر الظلامي. «إن مقارنة بسيطة بين الدول العربية وإسرائيل في ميدان البحث العلمي، تكشف عن وجود 363 باحثا في العالم العربي تقريبا لكل مليون نسمة، بينما يبلغ عدد الباحثين في إسرائيل 25 ألفا، بمعدل خمسة آلاف باحث لكل مليون نسمة. وتلك أعلى نسبة في العالم بعد اليابان التي وصل فيها المعدل إلى 5100 باحث»، ثم بعد ذلك، نقول من دون أن يَطْرَفَ لنا جفن إننا : «أمة اقرأ»، أمة القرآن»، وبِمُكْنَتنا رَمْي اليهود في البحر. ونردد شعارا عنصريا مقيتا : (خيبر خيبريا يهود، جيش محمد سيعود). فهل جيش الجهل بقادر على هزم جيش العلم والبحث العلمي ؟ تخلف اللغة العربية من تخلف أهلها، وتَنَطعهم، ودس رؤوسهم في الرمال، حتى لكأن المستشرقين الذين رميناهم بالعنصرية، كانوا على حق لما عزوا التخلف العربي إلى «البنية الذهنية» للعربي، والتي هي بنية حماسية انفعالية، شديدة الغيظ والغضب، لا بنية عقلانية تركيبية !!. يكاد الإنسان يصدق مثل هذه الدعاوى العنصرية من فرط اليأس، وانسداد الأفق، وضباب الحاضر. لغة القرآن، نعم، ولكن هذا لا يعطيها حق التقديس والأفضلية على باقي اللغات. ولعل هذا المنظور الديني التعبدي أن يكون وراء تخلفها لأن أصحاب القرار «العروبيين» قعدوا عن نصرتها بالعلم والمعرفة، والتحلل من ربقة الماضي والغيب. وكان الأمر حُسِمَ في قدسيتها وقداستها منذ بواكير الثقافة العربية في أواخر العهد الأموي، وعلى مدار العصرين العباسيَيْنِ. حُسِمَ بإبراز خطل القائلين بالوحي والتوقيفية، وأنها لغة أهل الجنة ! عندما تَصَدَّى لهذه الأعجوبة، أكابر العلماء واللغويين والنحاة كابن جِنّي، وأبي علي الفارسي، وابن خلدون، وابن حزم الأندلسي، وغيرهم كثير، إذ قالوا بالوضع والاتفاق، وأن اللغة اصطلاح ومواضعة، لا توقيف ووحي. واتكأوا في ذلك على ما وصلهم من أفكار الهنود القدماء الذين تنبهوا إلى أن اللغة منبثقة من محاكاة الأصوات الطبيعية، حينها قرروا أنها من اختراع الإنسان، وقد حثه على اختراعها حاجته إلى الكلام، وأن حركة الجهاز النطقي هي السبب المباشر الذي أدى إلى حدوث الأصوات التي هي عرضة للاختفاء بمجرد النطق بها». ثم عطلوا الكلام عن قداسة اللغة العربية، وأفضليتها على سائر اللغات، برجوعهم إلى الآية الكريمة : (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه)، وبترتيب الحفظ للقرآن الكريم، لا للغة السابقة عليه، في قول الله سبحانه وتعالى (إنا نحن نزلنا الذكر، وإنا له لحافظون)، فالحفظ هنا للذكر الحكيم: القرآن) لا لآلته. «فالربط الآلي بين حفظ الله عز وجل للذكر القرآني، ووعده بصون اللغة العربية من الضياع، وَهْمٌ سَوَّغَتْهُ طيبة السرائر الإيمانية . لقد أجمع كل رواد التراث العربي الإسلامي، على تعريفها بوظيفتها الأدائية، لا بِقيَمٍ ما ورائية تثوي في باطنها. ومهما تكن اللغة فَحَدُّها (أنها أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم) حسب شيخ النحاة ابن جني». ولم يكن ابن جني وحده من خاض في بشرية اللغة، بل هناك القاضي عبد الجبار، وعبد القاهر الجرجاني، والجاحظ، وإخوان الصفا، وابن خلدون الذي يقول: «اعلم أن اللغة ?في المتعارف- هي عبارة المتكلم عن مقصوده، وتلك العبارة فعل لساني، فلابد أن تصير ملكة متقررة في العضو الفاعل لها وهو اللسان، وهي في كل أمة بحسب اصطلاحاتهم». وها هو ابن حزم يرد ،على الذين اعتبروا العربية أفضل اللغات، بما يلي: (قد قال قوم: العربية أفضل اللغات لأنه بها نزل كلام الله تعالى، وهذا لا معنى له لأن الله عز وجل قد أخبرنا أنه لم يرسل رسولا إلا بلسان قومه. وقال تعالى: «وإنه لفي زُبر الأولين». فبكل لغة قد نزل كلام الله تعالى ووحيه. وقد أنزل التوراة، والإنجيل والزبور، وكلم موسى عليه السلام بالعبرانية، وأنزل الصحف على إبراهيم عليه السلام بالسريانية، فتساوت اللغات في هذا تساويا واحدا). فَلْنَكُفَّ -إذًا- عن مماهاة اللغة العربية بالوحي وبالقرآن، إذا رغبنا فعلا في خدمة اللغة العربية. لنعد -الآن- وقد استوفينا الكلام عن إشكالية اللغة فيما نتصور، إلى أزمة التعليم، وهل تنحصر فقط في نوع لغة التدريس الواجب اعتمادها؟ وَهَبْ أن الإجماع الوطني انعقد على وجوب التدريس باللغة العربية الفصحى في كل أطوار التعليم، حتى العالي منه، هل تتوقف الأزمة، وتنحل العقدة، وينفك الإدغام؟ أم أن الأزمة لها علقة بشبكة عناصر متداخلة ومتعانقة؟. فماذا عن البنية التحتية، في القرى والبوادي، وأحزمة المدن؟ ماذا عن المؤسسات التربوية، هل تستجيب لأدنى شروط التربية من بيئة نظيفة، وفضاء مُغْرٍ جذاب، وحجرات جميلة مريحة، ومدافيء تغزو البرد والصقيع، ومكتبة مدرسية يختلف إليها التلاميذ للقراءة والمتعة والفائدة، ماذا عن الداخليات، والمطاعم المدرسية؟ هل جاهزيتها المادية والخدمية، تقوم بالمهمة المنوط بها؟ ما مدى وَسَاعَتِها لاحتضان واستيعاب المتمدرسين القادمين من دواوير بعيدة، وأماكن نائية؟. لماذا لم يحقق برنامج «تيسير» هدفه في الحد من التسرب، والهدر المدرسي، إذ الإحصائيات المتفائلة تتحدث عن نزيف خطير تعرفه بلادنا يصل رقميا إلى ما 400.000 تلميذ وتلميذة، ما يهدد البلاد بجائحة الأمية، وتكاثرها، وبالجريمة غدا حال انسداد أبواب الأمل في وجه هؤلاء. وماذا عن التكوين والتدريب؟ وجاهزية رجال ونساء التعليم للانخراط الحقيقي والمبدئي في العمل على وقف النزيف، والمساهمة في النهوض بالتعليم؟ وهل يملك ذلك من لا يملك إحساسا بالطمأنينة، وشعورا بالرعاية والاحتفاء والمباركة، وتحسين الوضعية المادية؟. أما هؤلاء الذين يتحدثون عن اللغة العامية التي ينبغي أن تعرفها المراحل الأولى من «التمدرس»، كما أسلفنا، هل يدركون أن المعني أساسا بهذا الكلام، وهذه الأمنية «المعلبة» الكامنة، هم المربون والمدرسون؟ هل استفتيناهم فيما يُرَوَّجُ وَيُسَوَّقُ؟ هل اسْتشيروا قبل أن تعقد الندوات والمناظرات، وَأُخِذَ بآرائهم المتخالفة أو المتطابقة؟ بَدَهِيَّ أن المربيات في التعليم ما قبل المدرسي، يحرصن على تمرير أنشطة لغوية بمعنى من المعاني، وأنشطة ذات صلة بالحسيات والحركات. يقمن بذلك من دون أن يَرْطَنَّ بنحو سيبويه، ولغة المتنبي، ولو في درجاتها السفلى القاعدية، بينما هناك أخريات -هُنَّ نتيجة وحاصل تعليم تقليدي عقابي- يعنفن الأطفال عندما يُتَأْتِئُون، أو يخطئون، أو يتباطأون عند قراءة وتهجية الكلمات، ما يجعل الخوف والشرود يسكنهم، وما يؤدي -بالحتم- إلى مغادرة الروض أو المدرسة بعد سنة أو سنتين من ذلك. وهل يعلم دعاة التدريس بالعامية -أيضا- أن العامية ملازمة لأكثر مراحل دروس الرياضيات والفيزياء والعلوم الطبيعية المعربة؟ كل هذا من عقابيل سياسة التعريب المزاجية والمرتجلة، والتي كرست تمزقًا معرفيا، واستيعابيا وأدائيا للمعارف والمباديء العلمية بخاصة، كان ضحيتها ?بالأساس- تلامذتنا الذين ما أن يَسْتَأْنِسُوا بالدروس العلمية، والمعطيات الرياضية وهي تعرض وتقدم لهم بالعربية الفصحى أو بالعامية، حتى ينفطموا عنها، أو يُفْطَمُوا عنوة، وبمنتهى العنف والاقتلاع، ليجدوا أنفسهم في التعليم العالي مع لغة تدريس أخرى لتلك العلوم والرياضيات، ما يخلق شرخا لنفسياتهم، وبلبالا على مستوى لسانهم. هي ذي المفارقة اللغوية القاصمة، وهذا هو المأزق المعرفي الذي لم يستطع أي وزير وصي على القطاع أن يحسم فيه بردم الهوة، والاجتراء على فض المفارقة، إما بتعريب العلوم المختلفة من الثانوي إلى العالي، أو بتدريسها بلغة شكسبير أو موليير. إنه إشكال لغوي حقيقي، ما يقود إلى القول بأنه إشكال ثقافي وحضاري في البدء والمنتهى. فهل من عزيمة وهِمَّةٍ لفض مغالق الإشكال، ووضع حد للتيه والشرود؟ محمد بودويك