«أسمع صراخا شرسا من كل الجهات:" لا تفكروا? بل اخضعوا ونفذوا" يقول رجل الدولة، "لا تفكروا ادفعوا ما عليكم من ضرائب" يقول مدير الضرائب. "لا تفكروا تشبثوا بإيمانكم" يقول رجل الدين". هذا هو حال مغربكم الذي تحول إلى منجم ثمين ينتج ثروات خيالية يتم تحويلها إلى العملة الصعبة وتظل هناك من أجل مستقبل أبنائكم، وتقديم الهدايا للعاشقات. أما مغربنا فإنه سيد عاقل تذوق مثال الخير يستنير بالحكمة والفضيلة ولا يهمه اكتناز الذهب لأنه في جوهره ذهب يقول لنا بابتهاج: فكروا كما تريدون، وبكل حرية، لكن مع الانضباط للعقد الاجتماعي، واحترام الدستور الذي أبدعته إرادتكم القوية. فالفكر أثمن هدية وأنبل نعمة للمواطن الحر على عكس العبد الذي يتحرك كظل لسيده. فهل دستورنا هو دستوركم؟. هل عندكم مواطن، أم عبد؟ هل انتقلتم من الوعي المغلوط الذي يعتبر الشعب قطيع من الرعية إلى مواطنين أحرار، يتمتعون بالحماس المشتعل؟ من المؤسف أن مغربنا يختلف عن مغربكم، لأنه ممتلئ بالبراءة والأمل، بالحب والعمق الإنساني، بالمعرفة وقوة الفكر، بالإبداع وجمالية الفن، ولا نملك بحرا نبيعه، ولا معادن نستثمرها في الخارج، فكل ما نملك هو خبز حاف، وشوق عارم للحرية، وابتهاج لشروق شمس رائع، ولغة نتعلم بها ونعلم الأجيال، لأن اللغة هي مأوى الوجود ومسكن الإنسان، لأنه هو الراعي لهذا الوجود بعنايته يتمتع بما تنتجه الحقول من ثمار. لا أملك إلا أن أستغرب مندهشا مذهولا من عنفكم وقساوة مشاعركم، لأنه كيف استطعتم أن تفتتوا تدريجيا المغرب قطعة قطعة وتهربوها في ليل العالم؟، وما غايتكم من السيطرة على هؤلاء الأبرياء وتربيتهم خارج العقد الاجتماعي والإرادة الطيبة، والسياسة المدنية المتنورة من خلال تدريبهم على التزوير والفساد؟. هل هو تأهيل فاسد لأرواحهم ليتحولوا إلى وحوش ضارية توضع في الأقفاص؟ فهل بانتهاء أسماك البحار، وخيرات المعادن، وإفلاس الرهون البنكية سترحلون؟، لماذا طالت إقامتكم هنا؟. لا تنتظروا يقول كانط للألمان الذين عاشوا محنتهم في القرون الوسطى، لأنكم لم تصلوا بعد إلى العيش في عصر التنوير، بانتقالكم من القصور الفكري إلى الرشد، هناك حدث يجري بالقرب منكم إنه الثورة الفرنسية التي سيحقق الإنسان من خلالها حريته، وقدرته على صنع عصر التنوير والحداثة والتقدم. هناك حدث إذن يجعل من التقدم حقيقة ممكنة ويمنح للإنسان الثقة في الآمال وفي المستقبل. هكذا يكون موسى الشعب الألماني كما يسميه الشاعر المرهف هولدرلين، يعاتب الأمة على انحطاطها، وتأخرها الفكري والحضاري والسياسي والاقتصادي، إذ يقول لهم احذروا إنه لا ينبغي أن تتأخروا على موعدكم مع التاريخ الذي يعلمكم استثمار علاقة الأسباب بالعلل، فبواسطة هذه العلاقة يصنع الجزء العظيم من التاريخ، تاريخكم الذي ينتظركم هناك. وبالفعل استطاعت الأمة الألمانية أن تنهض من سباتها الثقافي والسياسي، وأصبحت نموذجا للتقدم والازدهار. لأنها انصهرت في عصر التنوير الذي يسعى إلى أن يحرر الإنسان بما هو إنسان، وليس الحيوان بما هو حيوان. عندما تكتمل الكلمات وتحقق غايتها في حكاية مدهشة سنحكيها لكم، بيد أنكم مصابون بمرض الصمم، لأن انغماسكم في اللذات الشريرة أفقدكم حاسة تذوق اللذات الخيرة، فمشكلتكم أنكم مجرد حس مشترك نصف أعماركم تقضونه في اللذات الحسية والشراهة في اقتناء الهدايا للعاشقات، والأملاك والأراضي، والنصف الآخر في النوم والأمراض إلى أن تتعبوا بالطبع كالسباع. أملنا أن نتمتع بهذه الأرض وهذه الشمس وهذا البحر الفارغ من الأسماك، وهذه اللغة التي أفرغناها من المقدس ومن التخلف الخليجي وتحولت إلى لغة للفكر والإبداع. وتركنا لكم فرنسيتكم الباهتة وتدريجكم المشوه. من أجل حميميتنا لا نريد إلا مغربنا صباحه كمسائه، شمسه كظله، فصوله متحدة في الروح. هذه الروح التي تشتاق إلى الحرية ولكنها مكبلة بسلاسل أحزابكم وسلطتكم، ومع ذلك فإنها تقاتل، وتقاوم، وتكافح لأنها تحبه أعمق منكم، وتولد، وتتعلم، وتبدع وتموت هنا لأنها تحب وطنها أكثر. فمهما طالت هذه التراجيدية، وهذا الاحتفال الجنائزي الذي جعلنا نتفرج كالغرباء في وطننا تحمله قطعة قطعة إلى الخارج بواسطة هذه الأرواح الشريرة، التي لم تسمو إلى العالم المعقول وتنبهر أمام مثال الخير، والجمال والمحبة. ولذلك لا تعلم أن هناك تعاطفا ومشاركة وجدانية تبدو على سمائية الحماس والفرح الحقيقي الذي سيقتحم بإرادته الطيبة البنية السياسية الوسطوية ويقوم بهدمها ليشيد سياسة أحلامه: حريته، وكرامته، ومغرب لنا، وسمك يتمتع به أطفالنا، وفاكهة، نتذوقها حسب فصول السنة. لقد سئمنا سماع أن هناك عدوا في الخارج، ونريد أن نقول هناك عدو في الداخل يهددنا في عيشنا، يقدمنا كرهون للبنوك، نريد أن نواجه هذا العدو ونتقوى لكي نهاجم أعداء الخارج، بدولة قوية، وسياسة عظيمة، وسلطة عقلانية، ودولة متنورة، تؤمن بأن القانون فوق الجميع، هكذا نكون قد أعدنا للمغاربة الحق في الحق وجعلناهم يتمتعون بانسيانتهم، وطردنا الشياطين. هذا كل ما نعرفه المغرب إلى الأبد حين يشع نور الحرية والكرامة وتموت سياسة الأعيان.