الظلامية والتنوير.... . تقديم: إن موضوع الظلامية والتنوير، هو موضوع يفرض نفسه على المفكرين المرتبطين، جدلا، بما يجري في الواقع الاقتصادي، والاجتماعي، والثقافي، والسياسي، نظرا لطبيعة الإحالات الفكرية، ذات الطبيعة الغيبية لممارسة الإنسان في مختلف تجليات الواقع، فان طرح مفهومي الظلامية، والتنوير، للنقاش الهادف إلى جعل فكر الإنسان خال من الظلامية، ومتحل بالتنوير، يبقى واردا، مادامت هناك ظلامية، وما دام العمال، وباقي الأجراء، وسائر الكادحين، في حاجة إلى التنوير. وما دام حزب الطليعة الديمقراطي الاشتراكي، معنيا بالنضال في صفوف العمال، وباقي الأجراء، وسائر الكادحين، باعتباره حزبا للطبقة العاملة، وحلفائها، وباعتباره حزبا ثوريا، نظرية، وممارسة، فإنه كباقي أحزاب الطبقة العاملة الثورية، بطبيعتها، في حالة امتلاكها لوعيها الطبقي، معني بالاهتمام بالظلامية، والتنوير، في تاريخيتهما، وفي تطور مفهوميهما، وفي كونهما قائمين في الواقع الجماهيري، الذي يتحرك فيه حزب الطليعة الديمقراطي الاشتراكي. فحزب ط.د.ش في الأصل، هو حزب تنويري بالدرجة الأولى، لاقتناعه بالاشتراكية العلمية، ولكون إيديولوجيته قائمة على أساس ذلك الاقتناع، ولكون مواقفه السياسية تؤسس على تصوره الإيديولوجي، مما يجعلها تقطع مع كل ما يمت إلى الظلامية بصلة، غير أن كل ذلك، لا ينفي ما هو قائم في الواقع، وما هو قائم في الواقع، يتجسد في الاعتبارات الآتية: 1) القطاع العريض من المجتمع الذي يتمسك بالدين، ومنهم المناضلون الحزبيون، الذين يؤدون صلواتهم الخمس، ويذهبون الى أداء فريضة الحج، ويصومون، ويزكون، ويتصدقون... الخ. 2) كون الطبقة التي تحكمنا، تعتبر دولتها دولة دينية. 3) كون الدين، باعتباره دين الدولة، صار مصدرا من مصادر إيديولوجية الطبقة الحاكمة. 4) وجود أحزاب تكتسح شرائح عريضة من الكادحين بالخصوص، ومنهم العمال، باعتبارها أحزابا دينية. ونحن هنا في المغرب، نجد أن بعضها له فريق في البرلمان المغربي، بغرفتيه، وبعضها الآخر، يجيش الشارع، كما حصل في تظاهرات حركة 20 فبراير. 5) كون قطاعات عريضة من المجتمع، لم تتحرر بعد من المنطلقات الغيبية في التفكير، وفي الممارسة، على مستوى المجتمع ككل. 6) كون البرامج الدراسية، تعمل على إعادة إنتاج نفس الهياكل الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية والإيديولوجية، والسياسية القائمة في المجتمع. 7) كثافة المؤسسات الدينية الموجهة من قبل الطبقة الحاكمة في المجتمع، ودور هذه المؤسسات في ربط جميع أفراد المجتمع بالدين. 8) وجود ركام هائل من الكتب الدينية في سوق الكتاب، وبأثمنة رمزية. 9) دعم الدول الرجعية / البترولية للحركات الدينية: جمعيات، وأحزابا، وشخصيات، من أجل أن يقوموا بدورهم في نشر ما يعتبرونه "فكرا دينيا"، في صفوف المغاربة، انطلاقا مما هو رائج في الدول الرجعية. 10) كثرة الفضائيات الدينية، التي يشاهدها معظم المغاربة، ويتأثرون بمضامين ما تنشره. وهذه الاعتبارات، وغيرها مما لم نذكر، هي التي تفرض الاهتمام العام بالظلامية، والتنوير، كما تفرض اهتمام حزب الطليعة الديمقراطي الاشتراكي بهما، من منطلق: 1) أن الظلامية تهدف إلى تغييب الإنسان عن الواقع، وسجنه في أيقونة الغيب المطلق. 2) أن التنوير يهدف إلى تفكيك الأسس التي تقوم عليها الظلامية، وممارستها، والنتائج التي تتوصل إليها نظرية، وممارسة، في أفق إيجاد منظومة تنويرية، تسحب الكادحين من أيقونة الغيب الظلامية، لتصدمهم بالواقع في تحوله المستمر. فما المقصود بالظلامية؟ وما المقصود بالتنوير؟ تشريح المفهوم: وموضوعنا الذي نحن يصدد معالجته، يتكون من شقين: الظلامية، والتنوير. ويظهر من خلال تركيبة الموضوع، أن الظلامية تشكل نقيضا للتنوير، وأن التنوير يشكل نقيضا للظلامية. وحتى نعطي لكل مفهوم حقه، لا بد أن نتناوله مفصولا عن الآخر. فالظلامية نسبة إلى الظلام. والظلام هو كل ما يحول دون قيام رؤية واضحة للمحيط الذي نتواجد فيه، مما يجعلنا معرضين لكافة الأخطار، التي قد تؤدي بنا الى الهلاك. وهذا المعنى هو المعنى الحقيقي للظلام، وهو غير مراد، كما يقول البلاغيون. أما المعنى المراد بالظلام، فهو المعنى المجازي، الذي يجعل الرؤيا الفكرية غير واضحة، وغير عقلية، وغير واقعية، ومستغرقة في الغيب، إلى درجة التيهان، وفقدان البوصلة. والإنسان المروج للفكر المستغرق في الغيب، والذي لا يمكن إدراكه بالعقل، يسمى الظلامي، لأن مهمته التي ينجزها على مدار الساعة، ومن خلال علاقاته، هي إغراق المتلقي في غياهب ظلام الغيب الفكري. والظلامية، مذهب فكري، يعتمد الغيب مصدرا لكل ما يجري في الواقع، متصديا، في نفس الوقت، لكل ما يعتمد على العقل العلمي، الذي يعمل على جعل ما يجري في الواقع، منتوجا علميا نقيضا للمنتوج المتعارض مع العلم. وبما أن الدين قائم على أساس الإيمان بالمصادر الغيبية، وبما أنه يستمر انطلاقا من وجود نص غيبي يحتمل التأويلات المختلفة، فإن الدين، أي دين يصير، بفعل التأويل، مصدرا للظلامية، التي تحول دون التطور المنشود في الواقع الاقتصادي، والاجتماعي، والثقافي، والسياسي. وانطلاقا من اعتماد الظلاميين على تأويل النص الديني، لجعله يخدم الأهداف التي يسعون إلى تحقيقها، فإنه يمكن القول بأن: الظلامية حركة فكرية، تعتمد تأويل النص الديني المعتمد في دين معين، يومن به شعب معين، لإقناع المؤمنين به بتأويلهم للنص الديني، الذي يتحول، بدوره، إلى نص ديني، يقود الكفر به إلى الكفر بالدين، ليقود ذلك الكفر إلى الإقدام على تنفيذ ما يسمونه بحد القتل. ومن خلال النص الديني، تسعى الظلامية إلى تصنيف مجموعة من الأحكام، والحدود، لتجعل من ذلك التصنيف مقياس الالتزام بما تسميه "الشريعة"، أو عدم الالتزام بها، لتجعل ذلك الالتزام مقياسا للإيمان، والكفر بدين معين، حتى تبيح للظلاميين تنفيذ القتل "المشروع"، والمقرر في النص الديني، أو بحكم تأويل النص الديني. وإذا كانت الظلامية تحرص على اعتماد الغيب مصدرا للتفكير، وتأويل النص الديني مصدرا للتشريع، والتكفير، والقتل المشروع، فإن أشكال الظلامية، وانطلاقا من تمرحل التاريخ، تتمثل فيما تمارسه الطبقة الحاكمة من تضليل، على الطبقة المستهدفة بالحكم. ففي للمرحلة العبودية، نجد أن مثقفي الأسياد، يمارسون التضليل على العبيد، حتى يستمر العبيد في قبول عبوديتهم، التي تجعلهم في خدمة الأسياد، الى ما لانهاية، مادام الأسياد قائمين في الواقع. وفي المرحلة الإقطاعية، نجد أن مثقفي الإقطاع، يقومون بتوظيف الغيب، وتوظيف الدين القائم، وكل أشكال الخرافات السائدة في الواقع، لتضليل عبيد الأرض، أو ما يشبه عبيد الأرض، حتى يخلصوا في الارتباط بالأرض، وفي إنتاج المزيد من الخيرات لصالح الإقطاعيين، الذين يستبدون بكل شيء. وفي المرحلة البرجوازية، التي استغلت المد التنويري، الذي عرفته أوروبا، فيما صار يعرف بعصر النهضة، لتصل إلى السيطرة على أجهزة الدولة، صار المثقفون، الذين وضعوا أنفسهم في خدمة البرجوازية، يعملون، وبكل إمكانياتهم الثقافية، على تضليل العمال، وباقي الأجراء، وسائر الكادحين، بما في ذلك الشباب، مستغلين في ذلك مختلف وسائل الإعلام، التي تملكها البرجوازية، ويملكها الخواص، لجعل العمال، وباقي الأجراء، وسائر الكادحين، يستغرقون في خدمة البرجوازية، المالكة لوسائل الإنتاج. فالظلامية، إذن، كحركة فكرية، لا تكتفي بمجرد حجب الرؤيا عن المحكومين، الذين عليهم أن ينساقوا وراء إرادة الحاكم، بل صارت تداخل إيديولوجية الطبقات الممارسة للاستغلال، كما رأينا ذلك بالنسبة لطبقات الأسياد، والإقطاعيين، والبرجوازيين، لتركيع الطبقات التي يمارس عليها الاستغلال، كما هو الشأن بالنسبة للعبيد، وعبيد الأرض، والعمال، وباقي الأجراء، وسائر الكادحين. وحتى تستمر الظلامية في النمو، والتوغل في النسيج الاجتماعي، ودون إذن من أحد، فإن المثقفين بالنسبة للدولة، وبالنسبة للأحزاب السياسية، وبالنسبة لليمين المتطرف، وبالنسبة للإرهابيين، يلجأون إلى ما أسميه ب "أدلجة الدين"، أي تحويل الدين، عن طريق التأويل، إلى إيديولوجية، تكون مهمتها تضليل الجماهير المستهدفة بالاستغلال المادي، والمعنوي. وانطلاقا مما رأيناه، فإن: 1) الدولة التي هي عبارة عن شخصية معنوية، لها دين، ولها فهم خاص للنص الديني، تستطيع أن تفرضه عبر دستورها، وبقوانينها، وبمثقفيها، وبأجهزتها الثقافية الإعلامية، على مجموع أفراد الشعب، من أجل جعلهم ينصاعون لخدمة مصالح المتحكمين في الدولة، وسعيا إلى جعل أدلجة الدين تحجب الرؤيا عن أفراد الشعب المستهدفين بالحكم. 2) الأحزاب السياسية، وكما تفعل، فإنها باعتبارها "يمينية"، ومرجعية، تنافس الدولة في أدلجة الدين، لتصير ممارستها دينية، من أجل جعل الجماهير البسيطة تنساق وراءها، لتصل، بالتصويت على برنامجها، إلى المؤسسات المنتخبة، وإلى الحكومة، حتى تقرر، وتحكم باسم الدين. 3) اليمين المتطرف، الذي يعتبر نفسه وصيا على الدين، الذي يؤوله، حسب هواه، ويعمل من خلال ممارسته اليومية، على تنميط المجتمع، في أفق الوصول إلى تنميط مؤسسات الدولة، وصولا إلى تنميط الدولة، باعتبارها دولة دينية، تتحمل مسؤولية تطبيق شريعة دين معين، وكان حياة البشر لا تتطور، ولا تتغير، وكأن شريعة معينة صالحة لكل زمان، ومكان. 4) الإرهابيين يعتبرون أن النموذج الذي يومنون به، انطلاقا من تأويلهم للنص الديني، غير قائم في الواقع. وهو ما يجعلهم يعملون على قتل كل من لم يوافقهم في تأويلهم للنص الديني، وكيفما كان معتقده، حتى ينصاع الآخرون وراء الأخذ بتأويلهم. وتأويلهم يعتبر مبالغة في أدلجة الدين. وهذه المستويات من أدلجة الدين، تجعل من الدين، بمرجعيته الغيبية، مصدرا لكل ما يجري في الواقع الاقتصادي، والاجتماعي، والثقافي، والسياسي. فلا شيء يجب أن يقع خارج الدين، وإذا وقع، يجب أن نبحث له عن مفسر ديني. وانطلاقا من اعتماد أدلجة الدين للوصل إلى الارتباط بالجماهير، نجد أن الظلامية تعتمد تأويل النص الديني، انطلاقا من الأهداف التي يحددها الظلاميون، سواء تعلق الأمر بتنميط المجتمع المتدين، أو بإقامة الدولة الدينية، أو بتطبيق الشريعة عندما يتعلق الأمر بإقامة الحدود، أو بعلاقة الرجل بالمرأة، بالإضافة إلى طريقة إقامة الطقوس الدينية. وهي أهداف، إذا تأملناها جيدا، سنجد أنها تنفي، وبصفة نهائية، ما نسعى إلى تحقيقه، عندما يتعلق الأمر بالحرية، والديمقراطية، والعدالة، والمساواة، وحقوق الإنسان، كما هي في المواثيق الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان، الذي يفقد قيمته، انطلاقا مما تذهب إليه الظلامية. وانطلاقا من تأويل الظلامية للنص الديني، فإن المواقف السياسية، يجب أن تنسجم مع تأويلهم للنص الديني، حتى تسرع بتحقيق أهداف الظلاميين. وإلا فإنها مواقف سياسية خارجة عن الدين، يجب مواجهتها عن طريف التلحيد، والتكفير. وتبعا لمواقف الظلامية السياسية، فإن الظلامية تتعامل مع الإبداع الأدبي، من منطلق خدمته لتحقيق أهدافها، من منطلق جودته الفنية، وما يمكن ان يترتب عنها من تأثير في الواقع. ولذلك، فكل إبداع أدبي لا يسعى إلى تحقيق أهداف الظلامية، يجب أن يحرق، وأن ينتفي من الواقع، وإلى الأبد. وعندما يتعلق الأمر بعلاقة الظلامية بالتنوير، فإن ما يجب أن نقره، هو أن مفهومي الظلامية، والتنوير، نسبيان. فما يمكن أن تعتبره ظلامية اليوم، كان يعتبر تنويرا في مرحلة سابقة، وما كان تنويرا في مرحلة سابقة، قد يصير ظلامية في عصرنا هذا، مما قد يجعل العلاقة بين الظلامية، والتنوير، علاقة تطابق. ومع ذلك، فمنطوق الظلامية، ومنطوق التنوير، يجعلهما، في كل الأحوال، على طرفي نقيض. وهو ما يجعل العلاقة بينهما علاقة تناقض في جميع مراحل التاريخ الإنساني. أما علاقة الظلامية بالاشتراكية العلمية، ونظرا لاختلاف منطلقات كل منهما، فان التناقض هو الذي يجمع بينهما، نظرا للتناقض القائم بين المنطلقات المثالية، والمنطلقات الفلسفية. وبالنسبة لمفهوم التنوير، فإننا نجد أن كلمة التنوير تعتبر مصدرا لفعل نور، ينور، إذا احدث نورا يزيح الظلام من مكان معين، من أجل أن تتحرك فيه حركة مأمونة، مما يمكن أن يلحق بنا الأذى. هذا على مستوى الحقيقة البلاغية. أما على مستوى المجاز البلاغي، فإن التنوير هو إتاحة الفرصة أمام إعمال العقل، فيما يطرح من منظومات فكرية، تهدف إلى جعل المتلقي لا يدرك حقيقة الواقع، بسبب ظلامية تلك المنظومات الفكرية، من أجل تفكيكها، وإزالة ظلاميتها، حتى يتمكن من معرفة ما يجري في الواقع. وانطلاقا من هذه المقاربة، فإن التنوير هو حركة فكرية، تهدف إلى جعل المتلقي يساهم في عملية تقويض الأسس، والمقومات، التي تقوم عليها الظلامية في مرحلة تاريخية معينة، انطلاقا من شروط معينة، تفرض قيام شكل من أشكال التنوير، التي تساعد الإنسان على تجاوز ظلامية الفكر السائدة في واقع معين. وإذا كان التنوير حركة فكرية تهدف الى تقويض الظلامية، فإن هذه الحركة تختلف مضامينها باختلاف المراحل التي استعملت فيها، انطلاقا من طبيعة التحول، التي تعرفها كل مرحلة على حدة، على أساس أن كل حركة فكرية جديدة، تعمل على تقويض الحركة الفكرية القديمة، التي لم تعد تقوى على التطور، واستيعاب الجديد، تعتبر حركة تنويرية، حتى وإن كانت ذات بعد ديني، وفي مرحلة ظهور دين معين. إلا أن الحركة التنويرية، عندما تتحول الى حركة جامدة، تتحول بالضرورة إلى حركة ظلامية. ولذلك نجد أن الحركة الفكرية التنويرية القائمة على أساس ظهور دين معين، تبقى تنويرية، ما دام الدين يعمل على تقويض واقع بنبني على أساس حركة فكرية صارت متجاوزة، كما هو الشأن بالنسبة لدين إبراهيم، ودين عيسى، ودين موسى، ودين محمد. فكل ديانة، من هذه الديانات المذكورة، قامت بدور تاريخي معين، لتصير بعد ذلك متجاوزة، وتتحول إلى حركة ظلامية. وهو ما جعل كل الديانات الآن مصدرا للظلامية. وما هو تنويري في بعضها، يتم التغاضي عنه، أو يؤول لصالح الظلامية. وما قلناه عن الأديان التي وقفت وراء قيام حركات تنويرية معينة، قبل ان تصير تلك الحركات متجاوزة، نقوله عن الحركات الفكرية، التي عرفها تاريخ البشرية. فكل حركة فكرية متجاوزة، تسعى إلى فرض استمرارها، لتقف دون تطور البشرية، هي حركة ظلامية. وعندما يتعلق الأمر بالمواقف السياسية، فإننا نجد أن المواقف السياسية المتطورة، والمتقدمة، والمتجددة باستمرار، تقف وراء وجود حركة فكرية تنويرية متقدمة، ومتطورة، ومتجددة باستمرار، وأن المواقف السياسية المختلفة، والجامدة، والمتراجعة إلى الوراء، تقف وراء قيام حركة ظلامية، تدخل في تناقض واضح مع الحركة التنويرية. وهو ما يقتضي ضرورة الحرص على أن تكون السياسة مستجيبة للتحول الذي يعرفه الواقع، حتى يستمر التنوير مواكبا لذلك التحول. والإبداع الأدبي الصادق، والواقعي، يصير كذلك مصدرا لقيام حركة تنويرية رائدة، نظرا لكون التعبير الأدبي الصادق في الواقع المتحول يسير في الاتجاه الصحيح. وهو ما يترتب عنه اعتبار الإبداع الأدبي الصادق، والواقعي، مقدمة للتغيير الآتي، مما يجعل الظلاميين لا يتوانون في قمع الإبداعات الأدبية، التي تعتبر مصدرا للتنوير، حتى لا يصير كذلك مصدرا للوعي بالواقع، الذي يقتضي العمل على التغيير الشامل. تاريخية العلاقة بين الظلامية، والتنوير: وكما يصير التنوير مستهدفا للأفراد، والجماعات، والطبقات، والشعوب، في مختلف العصور، فإنه يصير كذلك مستهدفا للدول. وما قلناه عن الأديان، والحركات الفكرية، والمواقف السياسية، والإبداع الأدبي، نقوله كذلك عن الدول. فالدولة إما أن تكون ظلامية، أو تنويرية، بقطع النظر عن طبيعتها. فهي إذا عملت على اعتماد منهجية التضليل، على مستوى البرامج التعليمية، والإعلامية، والثقافية، والسياسية، لا يمكن أن تعتبر إلا دولة ظلامية، توظف كل أشكال الفكر الظلامي، لجعل كادحي الشعب، وطليعتهم الطبقة العاملة، يفقدون القدرة على امتلاك الرؤيا الواضحة، كما هو الشأن بالنسبة للدولة الدينية، والدولة الإقطاعية، والدولة البرجوازية المستبدة، ...إلخ. أما إذا عملت على اعتماد منهجية التنوير على مستوى البرامج التعليمية، والإعلامية، والثقافية، والسياسية، فإن هذه الدولة، لا يمكن أن تكون إلا تنويرية، لكونها توظف كل أشكال الفكر التنويري التاريخية، والقائمة في الواقع، لجعل الكادحين يمتلكون الرؤيا الواضحة تجاه الواقع، وتجاه ما يتفاعل فيه. وانطلاقا من هذا التصور أعلاه، وما هو قائم في الواقع، نجد ان العلاقة بين الظلامية، والتنوير، تختلف باختلاف طبيعة الدولة، التي قد نجد فيها السيادة إما للظلامية، وإما للتنوير. ففي الدولة التي تسمى دولة دينية، حيث يصير دين معين مصدرا للسلطة، والتشريع، والأخلاق، والمعاملات بين البشر، لا يمكن ان تكون السيادة إلا للظلامية، التي يعمل المتكلمون باسمها، ومنظروها خلى تكفير كل من خالفهم الرأي، من التنويريين الذين قد يعملون على تصفيتهم جسديا، كما حصل في مراحل تاريخية مختلفة. أما في الدولة التي تسمى دولة مدنية، التي تتخذ موقف الحياد من الظلامية، والتنوير معا، فإن الميدان هو الذي يحدد لمن تكون الغلبة، والسيادة. فالطرف الذي يملك قوة الحجة، والبرهان، في إطار الدولة المدنية، هو الذي تكون له السيادة. وبما أن الحركة التنويرية تعتمد قيم التقدم، والتطور، وتجاوز كل أشكال التخلف الفكري، فان السيادة تكون لها. وفيما يخص الدولة الاشتراكية، فإن هذه الدولة تقوم على أساس الاقتناع بالاشتراكية العلمية. وهو ما يجعلها تقطع، وبصفة نهائية، مع الأسس التي تقوم عليها الظلامية، لتصير دولة تنويرية محضة، لا وجود في برامجها التعليمية، والإعلامية، والثقافية، والسياسية، ما يمكن أن يعتبر مصدرا للظلامية. والتنوير الذي تعمل الدولة الاشتراكية على نشره في المجتمع، هو ما يمكن أن نسميه ب "التنوير العلمي" لقيامه على أساس الفكر العلمي، كمنتوج لتوظيف قوانين الاشتراكية العلمية: المادية الجدلية، والمادية التاريخية، في التعامل مع الواقع الاقتصادي، والاجتماعي، والثقافي، والسياسي. وبناء على اختلاف الظلامية، والتنوير، من دولة، إلى دولة أخر،ى يمكن القول بأن: 1) ما كان قديما يظهر على أنه تنويري، لتقدمه على ما سبقه من فكر، تحول الآن الى مصدر للظلامية، كما هو الشأن بالنسبة للفكر الديني الموحد، في مواجهة الفكر الوثني، منذ ظهور إبراهيم ومرورا بموسى، ثم عيسى، ثم محمد. 2) الفكر المنبثق عن آخر الديانات، يعتبر تنويريا بالنسبة الى الفكر المنبثق عن الديانات السابقة، التي تم تحريف نصوصها. وهو ما يجعلنا نقر بأن الفكر المنبثق عن مجيء الدين الإسلامي بالنسبة لديانة عيسى، وديانة موسى، كان فكرا متنورا. 3) الدولة الدينية، في تاريخيتها، تقوم على أساس أدلجة الدين، عن طريق اعتماد تأويل النص الديني، حتى يصير الدين في خدمة تأبيد الدولة الاستبدادية. غير أن اعتماد تأويل النص الديني لإعطاء الشرعية للدولة الاستبدادية، لا يمنع ظهور محطات تنويرية من خلال ظهور شخصيات معينة، لعبت دورا معينا، لصالح ظهور الفكر التنويري، كما نجد ذلك في شخصية ابن رشد، وابن خلدون على سبيل المثال. 4) التطور المعرفي، والفلسفي، والفكري، والعلمي، الذي عرفته البشرية في مختلف العصور، وفي مختلف القارات، ونظرا لتطور وسائل الاتصال، بما فيها الوسائل السمعية البصرية، أدى بالضرورة إلى ترجيح سيادة التنوير على الظلامية. وما هذه الأموال التي تصرفها الدول التي تدعي أنها دول دينية، والهيئات التي تعتبر نفسها دينية، كما يصرفها الخواص الذين يعتبرون أنفسهم يمثلون الدين، على المؤسسات، وعلى المدارس الدينية، وعلى الهيئات، والبعثات الدينية، وعلى وسائل الإعلام المقروء، والمسموعة، و المرئية، والالكترونية المسماة دينية، إلا دليلا على ترسيخ حركة تنويرية هجومية في الواقع، وعلى جميع المستويات، وفي مختلف المجالات، لنصل بطبيعة الحال، كاشتراكيين علميين، إلى ترسيخ ما سميته "التنوير العلمي"، حتى يحل محل أشكال التنوير الأخرى، التي لا تخلو من اعتماد مرجعية مثالية معينة. ولذلك، نجد أن مفهوم التنوير، يختلف من مرحلة إلى مرحلة أخرى، كما يختلف مفهوم الظلامية، كذلك، من مرحلة، إلى أخرى، ولا بد أن تصل البشرية في المستقبل إلى صيرورة التنوير متمكنا من الواقع، مقابل التخلص، وبصفة نهائية، من الظلامية، عن طريق العمل على قيام الشروط المؤدية إلى ذلك، والمتمثلة في: 1) قيام دولة حداثية، مدنية، علمانية، ديمقراطية، تعمل على ترسيخ حرية الأفراد، والجماعات، والشعوب، وتعمل على حماية الحقوق، وتطبيق القانون. 2) إيجاد تعليم وطني ديمقراطي، متحرر من كل ما يقف وراء حماية الاستعباد، والاستبداد، والاستغلال، ويعمل على ترسيخ قيم الحرية، والديمقراطية، والعدالة الاجتماعية. 3) التمرس على تميتع أفراد الشعب بالحقوق الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، و السياسية، كما هي في المواثيق الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان. 4) إيجاد إعلام وطني متحرر، يصير في متناول الهيئات السياسية، والنقابية، والحقوقية، والجمعوية، حتى يصير وسيلة لنشر الآراء المختلفة، والمتناقضة، أحيانا، في المجتمع، ومن أجل أن يتفاعل جميع أفراده مع تلك الآراء. 5) تجريم تكوين حزب، أو نقابة، أو جمعية على أساس عقائدي، أو عرفي، أو لغوي، أو على أساس اختلاف اللون، حتى لا يؤدي ذلك إلى تطييف المجتمع. 6) احترام مختلف المعتقدات القائمة في المجتمع، وتمتيع جميع أفراد الشعب بحرية الاعتقاد، وتحييد مختلف المؤسسات الدينية، وتجريم توظيفها في الأمور السياسية. 7) تحييد البرامج التعليمية، والإعلامية، والثقافية، والسياسية، من كل ما يمكن أن يصير مصدرا للظلامية، أو لاستمرارها في مختلف تجليات الواقع. 8) تحييد وسائل الإعلام المقروءة، والمسموعة، والمرئية، والالكترونية، للحيلولة دون العمل على نشر الظلامية في المجتمع. 9 القطع مع الفساد الإداري، الذي يقف وراء ظاهرة الإرشاء، والارتشاء، والوصولية، والمحسوبية، والزبونية، في العلاقة مع الإدارات المختلفة. فهذه الشروط، وغيرها، عندما يتم إنضاجها في الواقع، يكتسب هذا الواقع مناعة ضد الظلامية، التي تتراجع إلى الوراء، في أفق التلاشي النهائي، ليصير التنوير، وبمفهومه الاشتراكي العلمي، من سماته الأساسية، وتصير حرية الاعتقاد قائمة في الواقع، بعيدا عن كل أشكال الأدلجة، التي كانت تتعرض لها. تمظهرات التنوير: والتنوير، حسب المفهوم الذي حددناه، لا يبقى مفهوما مجردا، هكذا، بل لا بد أن تصير عدة تمظهرات تجعله يسري في الواقع، الذي يتحول، بفعل ذلك، إلى واقع متنور، يجعل جميع أفراد المجتمع يمتلكون الوضوح في الرؤيا، في المجالات الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والسياسية. والتمظهرات التي يعرفها التنوير، تتمثل في: 1) النص الديني، الذي يظهر في شروط معينة، ليعبر عن حاجة البشر إلى شكل من أشكال التغيير على مستوى العقيدة، وهو تغيير، في حالة حصوله، لا بد أن ينعكس إيجابا على الواقع، الذي يحصل فيه تطور ايجابي لصالح البشرية. غير أن تنوير النص الديني، يبقى مرتبطا بالزمان، والمكان، مما يجعل منه تنويرا تاريخيا. وكل تمسك بنموذجيته، بدعوى صلاحيته لكل زمان، ولكل مكان، يحوله إلى نص ظلامي، ليشكل مصدرا للاستبداد، والاستعباد، والاستغلال، كمظاهر للتخلف. والنص الديني: القرآن، خير مثال على ما ذهبنا إليه، حيث اعتبر عندما ظهر، مظهرا من مظاهر التنوير، ليتحول بعد ذلك إلى مصدر للظلامية. 2) وبالنسبة للمواقف السياسية، التي تصدر عن الدولة، أو عن الأحزاب السياسية، أو أي هيأة، كيفما كانت، يمكن اعتبارها مظهرا من مظاهر التنوير، أو مصدرا له، إذا تم اتخاذها من أجل مواجهة المواقف السياسية، ذات الطابع الظلامي، وفي إطار الصراع بين الإطارات التنويرية، والإطارات الظلامية، وخاصة على مستوى الكليات، أو على مستوى الدول المتقدمة ذات المرجعية التنويرية، والدول المتخلفة ذات المرجعية الظلامية. 3) ويعتبر الإبداع الأدبي: الشعر القصة الرواية النص المسرحي المقالة، مجالا لتمظهر التنوير، إذا كان للأدباء المبدعين، منطلقات تنويرية، تجعل إبداعاتهم الأدبية، وسائل أساسية لمحاربة كل أشكال الظلامية، المنبثقة في المجتمع. وهذا الدور الذي تؤديه الإبداعات الأدبية، هو الذي يجعل غلاة الظلاميين، يعملون على حرق الكتب، التي تضم تلك الإبداعات المتنورة، بالإضافة إلى إصدار فتواهم بالقتل، في حق الأدباء المبدعين، كما حصل، مع الكثير من الأدباء، على مر العصور. 4) أما الفكر، وخاصة عندما تكون منطلقاته علمية، حسب المفهوم المثالي للعلم، أو مادية، حسب الاشتراكية العلمية، فإنه يعتبر المجال المجسد لعمق التنوير، في مستوياته المختلفة. فظهور العلوم، وازدهارها على يد العرب في القرون الوسطى، أدى إلى إحداث تطور هائل في مجال الفكر، تبعا للتطور الحاصل في المجالات العلمية، والمعرفية المختلفة، مما أدى إلى ظهور علامات علمية، وفلسفية، وفكرية كبرى، اعتمدت منطلقا للتطور العلمي، والمعرفي، والفكري في عصر النهضة الأوربية. وهنا أخص بالذكر: ابن خلدون، وابن رشد بالخصوص. ومعلوم أن عصر النهضة في أوربا، عرف تحولا عميقا على المستوى العلمي، والمعرفي، انعكس على الواقع الاقتصادي، والاجتماعي، والثقافي، والسياسي، مما أدى إلى ظهور الطبقة البرجوازية، وظهور المفكرين، المتنورين، لتدخل البرجوازية في صراع مع الإقطاع، ويدخل المتنورون في صراع مع الكنيسة. هذا الصراع الذي أدى، في نهاية المطاف، إلى سقوط دولة الإقطاع، وإقامة دولة البرجوازية. وفي نفس الوقت، تم فصل الدين عن الدولة. إلا أن حاجة دولة البرجوازية إلى تضليل الطبقة العاملة، جعل دولتها تستعيد دور الدين، في عملية التضليل تلك، كما تستعين بدور الفكر المثالي، إلى أن جاء مؤسسا الاشتراكية العلمية، التي كانت، ولازالت، أرقى ما أبدعته البشرية في تاريخها العريق. ولذلك، نجد أن أرقى حركة تنويرية، هي التي تنطلق، في تعاملها مع الواقع، في تجلياته المختلفة، من الاشتراكية العلمية: المادية الجدلية، بقوانينها المختلفة، والمادية والتاريخية. وقد اعتبرت الحركة التنويرية، من هذا النوع، حسب تسميتنا لها، "حركة تنويرية علمية"؛ لأنها: أولا: حسمت، وبصفة نهائية، مع كل أشكال الغيب، التي تقف وراء كل أشكال التضليل، التي تستهدف العمال، وباقي الأجراء، وسائر الكادحين. ثانيا: تتعامل مع الواقع المادي، انطلاقا من قوانين المادية الجدلية، والمادية التاريخية، من أجل الوصول إلى تجسيد ما صار يعرف بالتحليل الملموس، للواقع الملموس، وصولا إلى معرفة ما يجب عمله لتغييره. ثالثا: تنطلق من تمرحل التاريخ، تبعا للتحول الذي تعرفه التشكيلة الاقتصادية / الاجتماعية، من أجل الحسم مع كل أشكال الاستغلال، لتنتفي بذلك دواعي التضليل، وتذهب الظلامية إلى مزبلة التاريخ. وبناء على هذا الشكل من التنوير العلمي، نجد أن الظلامية، ومعها كل المستغلين، أيا كانت الطبقة التي ينتمون إليها، يعملون ليل نهار، من أجل الفصل بين العمال، وباقي الأجراء، وسائر الكادحين، وبين التنوير العلمي. وهو ما نجحوا فيه، إلى حد بعيد، في البلاد العربية، وفي باقي بلدان المسلمين. وهذا التضليل هو الذي جعل الطبقات الأكثر خضوعا للاستغلال، أكثر ارتباطا بالحركات الظلامية. وهو ما جعل هذه الحركات الظلامية قوية، والحركات المنتجة للتنوير ضعيفة. فما العمل من أجل أن تعود للتنوير العلمي مكانته في صفوف العمال، وباقي الأجراء، وسائر الكادحين؟ إن الجواب عن هذا السؤال، يقتضي بأن نقر بأن الدور الرئيسي في عودة مكانة التنوير بصفة عامة، ومكانة التنوير العلمي بصفة خاصة، في صفوف العمال، وباقي الأجراء، وسائر الكادحين، يعود، حسب الترتيب، إلى: 1) أحزاب الطبقة العاملة، ومنها حزب الطليعة الديمقراطي الاشتراكي، التي تعتبر حاسمة إيديولوجيا، وسياسيا، مع كل أشكال الظلامية، ومصادرها، والتي يجب أن تعمل على تكثيف عملها، وبكافة الوسائل، في صفوف العمال، وباقي الأجراء، وسائر الكادحين، من أجل بث التنوير في صفوفهم، سعيا إلى أن يصير التنوير وسيلة لامتلاك وعيهم الطبقي الحقيقي. 2) باقي الأحزاب السياسية، التي من مصلحتها بث التنوير بمعناه العام، وبمعناه العلمي، في صفوف الكادحين، وكافة الجماهير الشعبية، حتى يعد المجال الذي تتحرك فيه، والجماهير التي ترتبط به. 3) الأحزاب الديمقراطية، التي تدخل في تناقض مع الحركات الظلامية المعادية للديمقراطية، والتي من مصلحتها بث التنوير في المجتمع، كمجال للإقناع بالممارسة الديمقراطية، وبمضامينها الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والمدنية، والسياسية، حتى يتهيأ أفراد المجتمع لممارستها على مستوى القول، وعلى مستوى الفعل. 4) النقابات التي يفترض فيها أن تكون ديمقراطية، في علاقتها مع العمال، وباقي الأجراء، وسائر الكادحين، والتي من مصلحتها بث التنوير في صفوف المستهدفين بالعمل النقابي، باعتباره وسيلة لامتلاك الوعي بأوضاعهم الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والسياسية، وبفداحة الاستغلال الممارس عليهم، وبضرورة انتظامهم في النقابة، من أجل الحد من فداحة الاستغلال. 5) الجمعيات الحقوقية، التي من مصلحتها بث التنوير في المجتمع، باعتباره وسيلة لامتلاك الوعي بالحقوق الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والمدنية، والسياسية، كما هي في المواثيق الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان، خاصة، وأن الحركات الظلامية معادية لحقوق الإنسان، باعتبارها منتوجا غربيا. 6) الجمعيات التربوية، التي تسعى إلى بث التربية بمفهومها الحديث في الواقع، والتي من مصلحتها بث التنوير في المجتمع، حتى يتقبل أفراده ما تذهب إليه، خاصة، وأن الحركات الظلامية لها منظورها المتخلف، لتربية الأجيال على التجييش. 7) الجمعيات الثقافية، التي تسعى إلى نشر القيم الثقافية المتطورة، والتي من مصلحتها، كذلك، نشر التنوير في المجتمع، حتى يتقبل أفراده القيم الثقافية، كما تراها، في مقابل ثقافة الشحن، والتجييش، والإرهاب، التي تعمل الحركات الظلامية على نشرها في صفوف الجماهير الشعبية. 8) المثقفون العضويون، الحاملون للثقافة التنويرية العلمية، والذين يصير من واجبهم تفكيك البنيات الظلامية، والشروط التي أفرزتها، والعوامل التي ساعدتها على الانتشار، والبحث في الوسائل المؤدية الى تجاوز الظاهرة الظلامية. 9) وسائل الإعلام الحزبية، والنقابية، والحقوقية، والتربوية، والثقافية، التابعة للأحزاب، والنقابات، والجمعيات المشار إليها، والتي يجب أن تصير وسيلة من وسائل التنوير، والعمل على تفكيك الظاهرة الظلامية. 10) وسائل الإعلام المستقلة، التي يجب أن تتحول إلى منابر للتنوير، ومواجهة الحركات الظلامية، لإتاحة الفرصة أمام امكانية إيجاد المتلقي النوعي، المستهلك للإعلام المستقل، والجاد، والمتنور. فهل تقوم هذه الجهات بالأدوار المطلوبة منها فعلا؟ أم أن ما تعرفه، من تقاعس، سيبقى مستمرا؟ وهل تدرك هذه الجهات، أن تقاعسها لا ينتج إلا إتاحة الفرصة أمام الحركات الظلامية، لبث المزيد من التضليل في المجتمع؟ إن الظلامية تسعى إلى السيطرة على الميدان، وبكافة وسائل التضليل. هل تكون الأولوية للظلامية، أم للتنوير؟ وبعد وقوفنا على مفهوم الظلامية، ومفهوم التنوير، وتاريخية العلاقة بين الظلامية ،والتنوير، وتمظهرات التنوير، نصل إلى طرح السؤال: هل تكون الأولوية، في واقع معين، للظلامية؟ أم تكون للتنوير؟ وطرحنا لهذا السؤال، لم يأت هكذا جزافا، بقدر ما أتى من أجل القول بأن الشروط الموضوعية القائمة في مكان معين، وفي زمن معين، هي التي تحدد: هل تكون الأولوية للظلامية؟ أم تكون للتنوير؟ فسيادة التخلف، وانتشار الأمية في مجتمع معين، وتغييب العمل العقلي، واعتماد الفكر الغيبي، والخرافي، وأدلجة الدين، لا يمكن أن تكون فيه الأولوية إلا للظلامية. أما عندما يكون المجتمع متقدما، ويصير التعليم منتشرا، ويكون العمل العقلي حاضرا، ويتم اعتماد الفكر العلمي، ويتجنب الجميع أدلجة الدين، فإن الأولوية تكون للتنوير. وقيام الشروط الموضوعية بتحديد الأولوية، التي تصير إما الظلامية، وإما التنوير، فإن أدوارا تتدخل لتحديد الأولوية إما الظلامية، وإما التنوير. ومن هذه الأدوار نجد: 1) دور ميزان القوى، في الواقع، لتحديد الأولوية. فإذا كان ميزان القوى لصالح الظلاميين، تكون الأولوية للظلامية، التي تعيد الواقع قرونا الى الوراء. أما إذا كان ميزان القوى لصالح التنويريين، فتكون الأولوية لصالح التنوير. ذلك أن العمل على خلق ميزان القوى لصالح الظلاميين، أو لصالح التنويريين، يعتبر ذا أهمية خاصة، وفق خطة معينة منتجة، تضعها هذه الجهة، أو تلك. 2) دور المستوى الاقتصادي، والاجتماعي، والثقافي، والسياسي في تحديد الأولوية. فإذا كان هذا المستوى متخلفا اقتصاديا، واجتماعيا، وثقافيا، وسياسيا، كما هو واقع الحال في المغرب، وفي بقية البلاد العربية، وفي باقي بلدان المسلمين، نظرا لطبيعة الأنظمة السائدة فيها، والتي لا يمكن أن تنتج إلا التخلف في مستوياته المختلفة، فإن الأولوية تكون للظلامية، أما إذا كان هذا المستوى متقدما اقتصاديا، واجتماعيا، وثقافيا، وسياسيا، كما هو الحال في العديد من البلدان المتقدمة، فان الأولوية لا يمكن أن تكون إلا للتنوير، سواء كانت هذه البلدان رأسمالية، أو اشتراكية. 3) دور المدرسة الوطنية في تحديد الأولوية. فإذا كانت المدرسة مهيأة على مستوى البرامج الدراسية، لإعادة إنتاج نفس الواقع المتخلف، وبطرق تربوية متخلفة، وبمرجعية ماضوية، وحداثية ممهورة بالتبعية للمؤسسات المالية الدولية، وللنظام الرأسمالي العالمي، الذي يملي ما يخدم مصالحه الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، فإن المدرسة الوطنية، لا يمكن أن تحدد الأولوية إلا لصالح الظلامية. وهذا الواقع الذي تعرفه المدرسة المغربية بالخصوص، هو الذي حولها إلى مفرخة للظلاميين، ومنذ السبعينات من القرن العشرين. أما إذا كانت هذه المدرسة مهيأة، على مستوى البرامج الدراسية، لإنتاج واقع مختلف، ومتجدد، ومتطور، وبمرجعية عقلانية متطورة، وبطرق تربوية حديثة، ومتجددة، ومتطورة، وبمنهجية تقطع مع الماضي، ومع التبعية للغرب، ومن منطلق كونها مدرسة ديمقراطية متحررة، فإن الأولوية فيها، لا يمكن أن تكون إلا للتنوير، الذي يعتبر دورا طبيعيا للمدرسة الديمقراطية المتحررة. 4) دور الإعلام العام، والخاص، والالكتروني، في تحديد الأولوية. فإذا كان هذا الإعلام موجها، وفاقدا لحريته، وبمرجعية ماضوية، ويعكس تبعية النظام لمراكز الهيمنة الرأسمالية، وتبذل فيه كل المجهودات الممكنة لتضليل العمال، وباقي الإجراء، وسائر الكادحين، لا يمكن أن ينتج إلا الأولوية للظلامية، التي يخدمها هذا النوع من الإعلام. وإذا كان الإعلام متحررا، وديمقراطيا، وغير موجه، وبمرجعية واقعية، وعقلانية، فإن الأولوية فيه تكون للتنوير. ولذلك نجد أن الإعلام القائم، اللا ديمقراطي، واللا شعبي، والتبعي، هو الإعلام الذي يخدم الظلامية، في أبعادها التاريخية، والواقعية، والمستقبلية. وهو ما يقتضي ضرورة إيجاد إعلام نقيض، يقف وراء إشاعة التنوير في المجتمع. 5) دور الصراع الطبقي، في إبعاده الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والإيديولوجية، والسياسية، في تحديد الأولوية. ففي هذا الصراع، نجد أنه عندما تكون الطبقة العاملة، وباقي الأجراء، وسائر الكادحين، غير ممتلكين لوعيهم الطبقي الحقيقي، ومنساقين وراء الوعي الظلامي المزيف، يصيرون مجالا للظلامية، التي تتمكن منهم، وتجعلهم ينساقون، بسبب الاستلاب، وراء الظلاميين. أما عندما يصير العمال، وباقي الأجراء، وسائر الكادحين، متحررين من الاستلاب، وحاملين لوعيهم الطبقي الحقيقي، أثناء خوضهم للصراع، فإن الأولوية تصير للتنوير. ذلك أنه في الصراع الطبقي، يتم تقويض القيم الظلامية، باعتبارها قيما ثقافية متخلفة، لتحل محلها القيم التنويرية، باعتبارها قيما ثقافية متقدمة، ومتطورة، تعمل على تغيير الواقع إلى الأفضل، بالنسبة للعمال، وباقي الإجراء، وسائر الكادحين، الذين يمارس عليهم الاستغلال، في أفق التخلص من الاستغلال، و بصفة نهائية، عندما تنضج شروط ذلك على المدى البعيد. 6 دور الوعي الحقوقي، وطبيعته، في تحديد الأولوية. ذلك أن وعي الأفراد، والجماعات، والشعوب، بحقوقها الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والمدنية، والسياسية، ليس مسالة سهلة، وخاصة، إذا كان ذلك الوعي بمرجعية المواثيق الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان العامة، والخاصة؛ بل لا بد، ومن أجل أن يوجد ذلك الوعي، من بذل مجهود كبير من الشخصيات، والجمعيات المهتمة بحقوق الإنسان، من أجل التعريف بحقوق الإنسان، وبمرجعيتها الدولية، وبضرورة أن تصير تلك المرجعية مصدرا للتشريع، حتى تصير القوانين الوطنية في خدمة تمتيع جميع أفراد الشعب، بجميع الحقوق. ومعلوم أن الوعي الحقوقي، عندما يتجذر في واقع معين، يصير التنوير مهيمنا فيه، وتتراجع الظلامية إلى الوراء، لتصير بذلك الأولوية للتنوير. أما عندما يتراجع الوعي الحقوقي إلى الوراء، ليحل محله اللاوعي بالحقوق الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والمدنية، والسياسية، فإن ذوي الحقوق، أفرادا، وجماعات، وشعوبا، يصيرون فاقدين للوعي بحقوقهم، التي تصير مهضومة، ليتحول الواقع إلى مجال لانتشار الظلامية بكل تلاوينها، والتي تتحول إلى هدف في حد ذاته. ولذلك فعمل الشخصيات، والجمعيات الحقوقية، من أجل التعريف بحقوق الإنسان، كما هي في المواثيق الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان، وإشاعتها بين الأفراد، والجماعات، والشعوب، من أجل امتلاك الوعي بها، والانخراط في النضال من أجل تحقيقها، يبقى مرتكزا أساسيا لتجذر التنوير، وتقدمه، وتطوره في الواقع، إلى أن يصير من سماته المميزة له. وهكذا يتبين أن الشروط الموضوعية القائمة في الواقع، تصير في مظاهرها المختلفة، هي التي تحدد: هل تكون الأولوية للظلامية أو للتنوير؟ خلاصة عامة: وفي ختام هذه الأرضية، نجمل القول بأن الظلامية ستبقى مطروحة في الميدان في المغرب، مادامت لم تنجز نهضة حقيقية: اقتصادية، واجتماعية، وثقافية، ومدنية، وسياسية، ومادامت المسلمات التي ننطلق منها، في تفكيرنا اليومي، ذات بعد غيبي، أو ديني، ومادام الأمل، في المستقبل، رهينا بصياغة الغيب، أو الدين لذلك الأمل، وما دمنا لم نقم بانجاز ثورة تربوية / تعليمية، وإعلامية، وثقافية، تحيل الانطلاق من الغيب، ومن الدين، إلى التاريخ، وتجعل الواقع المادي هو المنطلق الواقعي، والعلمي، لما ننتجه من أفكار لا تكون إلا علمية، ولا يكون فعلها في الواقع إلا تنويريا، لجعل المجتمع يرى حقيقة واقعه، حتى يمتلك وعيه به، من أجل الانخراط في عملية التغيير الشامل لأوضاعه الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والمدنية، والسياسية إلى الأحسن. وفي علاقة الظلامية، والتنوير نجد: 1) اختلاف المنطلقات، والمرجعيات. 2) اختلاف تصور الواقع في الظلامية، وفي التنوير. 3) اختلاف مسار الظلامية عن مسار التنوير. 4) اختلاف الشروط الموضوعية الداعمة، أو المعرقلة للظلامية، أو التنوير. 5) اختلاف النتائج المترتبة عن الظلامية، أو التنوير. واعتبارنا وقوف المنطلقات الدينية وراء نمو الظلامية لا ينفي: 1) اعتبار دين معين دينا تنويريا، في مرحلة، وفي مكان ظهوره، باعتباره جاء ليغير واقعا معينا، ليتحول بعد ذلك إلى منطلق للظلامية، عندما تتم أدلجته. 2) اعتبار احترام المعتقدات الدينية، وحريتها، ما لم تتأدلج، قوة مادية قائمة في الواقع، لا تعرقل عملية التنوير الممارسة فيه. 3) تحول التجارب الدينية المتنورة، التي عرفتها مراحل تاريخية معينة، إلى تجاوب تاريخية، لا يعتبر العمل على تكرارها إلا ممارسة ظلامية. 4) أن ضمان استمرار المعتقدات القائمة في المجتمعات البشرية، يقتضي تجسيد تلك المعتقدات، وإبعادها عن الصراع القائم في الواقع، باعتباره صراعا طبقيا. 5) أن أشكال الغيب الأخرى، التي تنطلق منها الظلامية، يجب أن تدخل في ذمة التاريخ. ونفس الاعتبار لا يمكن أن يقف إلا وراء: 1) تسييد المنطلقات المنتجة للتنوير في مستوياته المختلفة. 2) تطور المنطلقات، بصيرورتها منطلقات مادية صرفة، منتجة لتنوير متقدم، ومتطور. 3) تحول المنطقات المادية إلى منطلقات عليمة منتجة للتنوير العلمي. وكيفما كان الأمر فإن العلاقة بين الظلامية، والتنوير، ستبقى قائمة على التناقض، وأن الشروط الموضوعية القائمة في واقع معين، ستكون هي المحددة لأيهما تكون الأولوية: هل تكون للظلامية؟ أم تكون للتنوير؟ وأن انتشار الوعي الطبقي في صفوف العمال، وباقي الأجراء، وسائر الكادحين، لا يمكن ان يصير إلا دعامة أساسية للتنوير في صفوف العمال، وباقي الأجراء، وسائر الكادحين، وان دور الأحزاب اليسارية، والنقابات، والجمعيات الحقوقية في بث التنوير في المجتمع، وفي نشر كل أشكال الوعي، تبقى مسالة أساسية، في مواجهة التغلغل الظلامي في الواقع. فهل نتحرك جميعا من أجل مواجهة الظلامية؟ هل يتحول كل واحد منا إلى مصدر للتنوير؟ بقلم: محمد الحنفي الرباط في: 4/06/2011