صديقات وأصدقاء الفلسفة، كل عام وأنتم أحباء للتأمل وللتساؤل؛ في عيد محبة الحكمة الذي بإمكانه أن يبعدكم عن صقيع الشتاء وعن انحطاط روح الأمة واقترابها من الانهيار، بفعل تهميش الحكماء أهل الفكر والأرواح العلمية التي تشعل نار الثورات العلمية وتخيف الأرواح الميكانيكية وتمنح القوة للفضلاء أهل الأخلاق والسياسة الفاضلة، وليس السياسة الجاهلة، أي سياسة الأعشاب الضارة، بلغة الفارابي، التي تمنع الزرع من النمو ويستعملها الفلاح لتزريب حقله. مرحبا بكم في عيد الفلسفة، عيد الروح عندما تحقق عظمتها بمجرد تحقيقها للوعي الذاتي «كما في يوم عيد»، حيث يصبح الإنسان شغوفا بالابتهاج، يشبه ذلك الفلاح الذي اشترى حذاء جميلا كالأطفال في يوم العيد، لكن العاصفة أدخلت الرعب إلى قلبه وبات مندهشا، تائها بين الابتهاج والرعب. جاء في قصيدة الشاعر هولدرلين: «بعد نهاية ليلة سهاد، تستيقظ الطبيعة مندهشة أمام ضوء النهار، يخرج ذلك الفلاح السعيد بلباسه الأنيق، لباس العيد، على الرغم من أن الزمن قد علمه كيف ينتظر ويكتم آلامه الناعمة، يتفقد محصوله في يوم مقدس، تفتح فيه السماء أبوابها وتستجيب لدعاء الفقراء. هكذا يخرج الفلاح إلى عراء الحقول في هذا الصباح، ويمشي على التراب بحذائه الجديد، ويطمئن على حالة الثمار، لأن العاصفة قد هبت البارحة، وتركت رعبها في ذهنه، ولذلك استيقظ مضطربا، ولم ينعم بهدايا العيد، ما دامت العاصفة قد هددت بإفساد المحصول، «ويذكر الرعد الذي يتباعد صداه تدريجيا بلحظات الرعب التي انقضت، لكنه يجد أن العاصفة لم تفسد ما جناه الحقل». أما الفيلسوف، فإنه يتساءل قائلا: أفما بلغتْ أنفَك رائحة المجازر حيث تنحر الأفكار ومطاعم السوقة حيث تباع بأبخس الأثمان؟ أفما ترى أبخرة العقول المضحاة تتصاعد منتشرة كالدخان فوق هذه البلاد؟ أفما تلوح لك الأرواح معلقة معروضة كأنها قطعة ثوب بالية، فإذا هي تنقلب صحفا تنشر بين الناس؟ لا بد للفلسفة أن تعود مشرقة كشمس جديدة ورائعة تحفزنا على القول إن عصرنا عصر عظيم، لأننا أصبحنا نملك فيه الحرية والفكر، وقد نبعث برسالة محبة إلى فلاسفتنا الذين قاموا بترميم روح العظمة من ابن رشد إلى الجابري وجمال الدين العلوي ونقول لهم انعموا بالطمأنينة والسكينة في البرزخ، لأن دعوتكم قد حققت غايتها، حيث أصبحت محبة الحكمة كإنارة مشعة في الغرابة، تبعد الفكر عن إقامته الطويلة في الضباب، وربما تلقي به في دهشة الوجود من أجل أن يلتحم من جديد بالعقل ويؤسس الاتجاه العقلاني، المتنور الذي يقود البلاد نحو بر السعادة والأمان. الواقع أننا لا نريد أن نرمي بكم في أعماق التشاؤم ونحكم عليكم بالإقامة البعيدة عن الأمل، ويكبر في قلوبكم الفشل، مما يدفعكم إلى ترك البلاد بين أيدي أعداء النزعة الإنسانية الذين يروجون للخرافة والفكر التوكلي، وأيضا بين أيدي الأرواح الميكانيكية، من مهندسين وتكنوقراط، الذين ماتت في قلوبهم العواطف والوجدان وأصبح الإنسان عندهم مجرد رقم في معادلة اقتصادية ونفيعة، وحكموا على الأمة بالانهيار. نعم، إن الفيلسوف يعيش في المنزلة بين المنزلتين، فلا هو يطمئن على نفسه من الخرافيين الذين يكرهون العقل ويحقدون على براءة محبة الحكمة ويسعون إلى اغتيالها من خلال اغتيال الحكماء، كما أنه بعيد عن الأمان عندما يوضع مصيره تحت سلطة الأرواح الميكانيكية التي أصبحت تسير البلاد وتتحكم في العباد، فهل بإمكاننا أن نصل إلى تمزيق الحجاب عن السر الذي يجعل السلطة تختار هذه الآلات المتنفسة لتسيير مؤسسات الدولة؟ بل كيف يمكن للرعاع أن يتحكموا في العلماء والمفكرين والمبدعين؟ هل لأنها تفتقر إلى الرؤية في الرؤيا، ومع ذلك تستثمر من تحكمهم كبضائع قابلة للتصدير؟ بإمكان الوضع الذي وصلنا إليه أن يجيب عن هذه الأسئلة العميقة التي جعلت بلادنا تعيش بدون طبقة وسطى حقيقية تحافظ على توازن المجتمع عندما تقوم بدور الحكم العادل بين المجتمع السياسي والمجتمع المدني، ذلك أن المجتمع العلمي هو الذي يحافظ على التوازن والتناغم بين هذين المجتمعين، لأنه حين ينهار المجتمع المدني العلمي يفتح المجال أمام الصراع بين الطبقة الحاكمة والطبقة المحكومة، أي بين الميسورين والمعوزين، لأن الأولى تمتلك الخيرات وتتجبر بالعنف والثانية محرومة من وسائل العيش، يكبر في قلبها البغض والحسد ثم تنتفض، فإذا كانت تنتمي إلى حزب سياسي حقيقي أو نقابة قوية، فإن انتفاضتها تسمى إضرابا، أو احتجاجا، ولعل هذا ما يحافظ على الديمقراطية ويمنحها مناعة ضد أعدائها؛ أما إذا كانت الأحزاب ضعيفة وفقدت شرعيتها، فإن تلك الانتفاضات تقود البلاد إلى ثورات، كما يقع الآن في العالم العربي. إن ما يريده الفلاسفة الآن هو إعادة صياغة السؤال الراهن انطلاقا من أدوات عقلانية بعدما تحطمت تلك الأدوات الخرافية والميكانيكية ولن يكون هذا السؤال سوى: أيُّ مستقبل ينتظر البلاد في غياب الفكر الفلسفي والروح العلمية؟ وهل ستظل الأمور تكرر نفسها مع هذه الأجساد التي تحركها اللذة البهائمية مما يحرمها من النور الإلهي، أي من نور العقل الفعال؟ ومتى سيأتي ذلك اليوم الذي سنستيقظ فيه على أشعة شروق شمس الحرية والفكر؟ لكن حراس الليل أعداء النور... ليس بإمكانهم أن يحرمونا من رائحة خبز الفجر، ولا متعة ساعة ضياء الشمس في سجونهم.. نحن عشاق الحرية، ثوار الأمل، هدام العدمية.