لم أجد غير الوجود تائها في متاهات الزمان الذي يمزق الأشياء ويرمي بها في العدم الذي يفتح الباب أمام المرأى العاشق للمطلق. هاهنا تكبر الدهشة في القلب الذي أضناه الانتظار والشوق إلى الأحباء الذين يتساقطون قطعة ثم قطعة في أروقة الذاكرة ،حيث تصيغ أسئلتها في عمق الحنين إلى الماضي، باعتباره مشتركا بين الإنسانية أما الحاضر فقد أصبح ملكا لروما التي توزع بطاقات المنفى على الفلاسفة والشعراء. هكذا قلت لروما، هل تتذكري أولئك الأحباء الذين عاشوا زمن منفاهم هنا، ثم ماتوا هناك، غرباء عن أوطانهم مثل تلك الطيور المهاجرة التي يحاصرها الموت في اللامكان وتستسلم لقدرها؟ هل تتذكرين شاعرا فلسطينيا اسمه محمود درويش وجد نفسه ذات يوم ملقى في جسدك الناعم الذي قرأ عليه قصيدة أحمد العربي المحاصر بين الحجر والزعتر مخاطبا نفسه بعمق إنساني؟، قائلا: «كم أنت جميل في المنفى، وكم أنت رائع بدون وطن تحمل قصائدك وترحل.» ربما تكون هذه الإشراقات وهذه الكشوفات منبثقة عن لذة التقلب ومتعة الحيرة باعتبارها أعراضا لأصحاب القلوب اللطيفة الذين يتحول عندهم المكان إلى مكانة تفجر ينبوع الوجدان والعواطف. فما أحلى أن تجد نفسك في روما متسللا كاللصوص في جنح الظلام، وأنت تحمل معك بعض الأوراق مكتوبة بألفاظ تعتز بها شعوب منغمسة في ربيع الثورات، بيد أنك مضطرا لترجمتها من أجل تعميم لهيب أشواقها إلى الحرية والكرامة والديمقراطية، وبعبارة أخرى هل يمكن ترجمة الثورات العربية إلى أسئلة كونية يفهمها الجميع؟. كانت الرحلة إلى مدينة بولونيا محفوفة بالابتهاج، لأنه لأول مرة ستعتز الذات بنفسها بعدما أصبح بإمكانها الحديث عن الحق في الحق الذي تم اعتقاله لسنوات في سجون الاستبداد، لكن بأي معنى يمكن الكلام عن التحولات السياسية وآفاق الديمقراطية مع العلم أنها شاخت عند الإيطاليين، ولم تعد تثير فضولهم؟. لقد تأخر التاريخ كثيرا في سفره من شمال البحر المتوسط إلى جنوبه، ولعل محاضرة كاتب الدولة في شؤون الهجرة والجالية الإيطالي، أكدت على أهمية تصدير الديمقراطية ملفوفة في هبة التنمية الاقتصادية، إذ لا ازدهار اقتصادي بدون تنمية ديمقراطية، نعم إن إيطاليا قامت بصياغة دستورها منذ مائة وخمسين سنة ثم استفادت من مشروع مرشان، وها هي الآن أصبحت فضاء مفتوحا أمام الذين حرموا في أوطانهم من الحق في الحق، ولعل هذا بالذات ما جعلني أشعر بالخجل عندما أخذت الكلمة لأتحدث عن إشكالية الدستور المغربي ومدى تلبيته لتطلعات الشباب، ذلك أن غاية الثورات العربية لا يمكنها أن تتجاوز صياغة دساتير حداثية ديمقراطية، لأنها الأرض الصلبة لكل تغيير سياسي، وربما يكون المغرب جزءا لا يتجزأ من هذه الثورات، ولذلك جاءت إصلاحات الدستور محتشمة تتقاسمها الحداثة والتقليد الوسطوي، ومع ذلك قلت كلمتي وتحطمت، ولعل قول الحقيقة لم يعجب قنصل المغرب وأعوانه مما دفعه إلى حرماني من المشاركة في ندوة أخرى، وضعا شرطه إما ..وإما! يا للغربة من هذه الديمقراطية التي يسيرها الاستبداد، إذ أن إصلاح الدستور لا قيمة له بدون هدم العقلية الوسطوية التي ستطبق هذا الدستور في الواقع. إن ما يطلبه المغاربة هو الأمل، بيد أن هيجان البحر قد أبعده إلى الضفة الأخرى. التي تمنحنا الحق في المنفى مع شاعر الشعراء الذي مات فيها .. من أي بلد أنت؟ :هكذا خاطبتني روما فأجبتها بلغة الشعراء: أنا من بلد شمسه لا تغيب، وأرضه يتقاسمها بحران؛ متوسطي وأطلنتي، بيد أن الإنسان فيه يعيش لحظات الغروب والاحتراق من شدة الانتظار إلى درجة أنه لم يعد بإمكانه أن ينتظر، فمنذ سقوط الأندلس وهذه البلاد تنتقل في دائرة الانتقال، مغلقة وشرسة يحرصها أعداء النزعة الإنسانية الذين يعتبرون الثروة والسلطة مقياس الوجود. ويهملون طباعهم وأخلاقهم ويتبرأون من الثقافة والفكر، بل ويكرهون كل من يتعاطى لهذه الصنائع والفنون. ثم قاطعتني روما مندهشة،وهل يفرحون بأرواحهم، أم بأجسادهم فقط؛ وهل أن سعادتهم تشبه سعادتنا؟ وهل جئت إلى هنا هربا من كآبتهم؟ وهل أنت متأكد بأنك ستعود إليهم ولا يجهزون عليك إلى حدود القتل ،كما وقع لذلك الذي خرج من الكهف الأفلاطوني، ولما عاد تم قتله؟. هذا المساء قررت أن لا أجيب عن أسئلة روما،لأنني كنت مع ابن رشد نتجول في تلك الأماكن التي ظلت مخلصة للرشدية، ومكنت من نشر العقلانية الأرسطية في مدرسة بادوفا، هذه المدرسة العظيمة التي انطلقت منها شرارة النهضة الأوربية،التي حرمنا منها في ذلك اليوم الذي حمل فيه جثمان الفيلسوف والفلسفة على ظهر دابة: الفيلسوف يوازن الفلسفة، ولم تتوقف هذه الدابة إلى أن وصلت إلى هنا، حيث أقف ومعي ابن رشد الذي فقد حركة الجسد واحتفظ بأبدية الروح، لأنه أكل من شجرة المعرفة ليس من شجرة الحياة، هكذا حكم عليه بالنزول إلى المنفى الأبدي. هل تسمح لي أيها الحكيم بأن أنطق بأسئلة مضطربة حملتها معي من بلاد حرمتك من الإقامة فيها سواء كنت حيا أو ميتا، وأخشى أن أقلب عليك نفس الأحزان و نفس القلق، وبخاصة ونحن سويان في المنفى والمحبة؟ كان تأمل الحكيم أقوى من إجابته، لأن شراسة الزمان قد علمته حكمة الإنصات إلى نداء الوجود والابتهاج بمعاشرة الحكماء ومتعة الإقامة في جمهورية العباقرة التي تخلو من الشر والرداءة، لأن سكانها أفاضل وأخيار، لا يحتاجون إلى أطباء وقضاة إذ لا مشاجرة ولا تشاكس بينهم، والحمية فن للحياة. لكن بمجرد ما شعر الحكيم بحيرتي، وعدم قدرتي على الانتظار، ذلك لأنني انتظرت طويلا، قال لي، لقد جئت من أرض ولدت فيها، ومت فيها، ولذلك أنا أحمل معي قطعة منها تؤنسني في غربتي وتعيد إلي ذكرياتي المرتبطة بمرحلة الشباب عندما أكلت من شجرة المعرفة وتم طردي، وتدمير هذه الشجرة حتى لا تنبت ثانية،بيد أنني أستغرب كيف استطاعت أن تنبت من جديد وتأكل أنت منها ثم تلتحق بي وتكسر هبة الصمت ونعمة السكينة، وقد لا أخطئ إذا قلت بأنك عاشق أسير في المنفى، لا وطن لك إلا وطن الفلاسفة تطاردك اللعنة كما طاردتني من قبلك. فلتكن الشجاعة، والحكمة والعشق رفاقك في الطريق. وليس بإمكانك أن تهرب من قدرك، إذ لا أحد من الحكماء تمكن من الهروب من قدره، وبخاصة بعدما تحكمت الحكمة في وجوده، وحولته إلى حطام تتلاعب به أمواج البحر. خذ حقيبتك واهرب من روما، وإلا حولتك إلى اسم بلا معنى، إشارة بسيطة على التاريخ، مهاجر أتعبه السفر. وبدأ يبحث عن مائدة في مساء شتائي، يلمع فوقها الخبز والدفء والشراب والحنين إلى الأحباء والوطن قبل أن يمزقهم الزمان. ويرمي بهم في جحيم العدم. وفي الصباح سألتني مضيفة الطائرة قائلة: من أي بلاد أنت؟، فقلت لها: أنا ذاهب إليه وربما أجده قد رحل هو الآخر؟.