وقع مؤخرا الناقد الفني والباحث الجمالي عبد الله الشيخ برواق»عين القلب» بسيدي رحال كتابا خاصا عن تجربة الفنانة كنزة المكداسني يحمل عنوان « كنزة المكداسني: عين القلب (تأملات جمالية) » ،وذلك بحضور عدد من النقاد والباحثين والإعلاميين. قراءات نقدية باطنية عميقة، استطاعت تفكيك أعمال هذه المبدعة، تفكيك حضرت فيه قيمة إبداعية جعلتنا نتساءل أين التشكيلي وأين النقدي في هذا العمل؟ إذا كانت الفنانة كنزة في أعمالها الفطرية الآتية من ذاكرتها المغربية والإنسانية الفردية و/أو الجماعية الطفولية والشعبية، فإن الباحث هنا استطاع أن ينحت لوحاته النقدية الفنية الممتعة. إننا هنا أمام رؤية معرفية، هادمة للحدود الفاصلة بين الخطابات الإبداعية. كتابة على هامش كتابة، رؤية جمالية على هامش رؤية جمالية أخرى. شطحات صوفية مولودة من رحم أعمال كنزة، تولد شطحات صوفية معرفية مولودة من ذاكرة هذا الباحث/الناقد/الإعلامي، الذي يلامس خفايا الأشياء ببصمته الفنية والجمالية. أن تكتب عما كتبه الدكتور عبد الله الشيخ، وعن المبدعة كنزة، معناه، أنك أمام لوحة مولودة من رحم لوحة أخرى. القاسم المشترك بين العملين، متعة التلقي...متعة البحث عن كتابة ثالثة على هامش الكتابتين الأوليتين...أي كتابة كنزة بجمالية ألوانها وبعدها الفطري العميق، الممسك بسر من أسرار فهم خوالج النفس... وكتابة الأكاديمي الدكتور عبد الله الشيخ. هنا يصبح مقدم الكتاب في حالة»تلبس» فني، أي أنه مطالب هو الآخر أن يركب سفينة هذه الرؤية الإبداعية. إن المتأمل للوحات كنزة، من الممكن أن يشعر بنوع من»الطمأنينة»، طمأنينة العين والقلب... تشعر وكأنك تداعب قطعة فنية بريئة، حالمة بزمن آخر، زمن تتناغم فيه الأشكال والألوان... تناغم ينهض على سر ما... سر يجعلك تنحني للأيادي، بل للقلب الذي بصم وأبدع هنا. هنا مكمن جزء من هذا السر الذي وهب للمبدعة كنزة، سر نلامسه في مسار هذه الفنانة/الإنسانة... مسار سيقول قوله عبر سؤال نقدي مستقبلي عميق، مفاده كيف تناغم هذه الفنانة مكونات ومواد قصيدتها التشكيلية/الإبداعية الساحرة للعين والقلب؟. ولعل ما قام به الدكتور عبد الله الشيخ المواكب لسؤال التشكيل المغربي من زاوية أكاديمية، هو عمل استباقي لما ستؤول إليه أعمال المبدعة الجميلة كنزة، والتي تشكل بجانب أعمال فنية تشكيلية مغربية أخرى دبلوماسية ثقافية، و فنية، و جمالية مفيدة لمغرب تمتد لوحته التشكيلية الكبرى من سماء طنجة العالية وإلى حدود حبيبات رمل طاهرة، وعاشقة، ومتيمة بصحرائه.. »: بدوره،كتب الناقد الفني و الباحث الجمالي ابراهيم الحَيْسن لم تتأثر الفنانة كنزة المكداسني بظروف الغربة التي عاشتها بالديار الهولندية لسنوات، حيث ظلت وفية لجذورها وأصولها المغربية التي تشع عطاء وتبرق نبلاً، وقد تجسَّد ذلك في لوحاتها وتصاويرها التي تنفذها بعفوية وتلقائية تمتد لبساطتها وتواضعها. هكذا انطلقت الفنانة كنزة في الرسم والتصوير بحس وجداني وبمشاعر حيَّة وكأنها تكتب سيرة ذاتية بلغة الألوان الممزوجة بالحنين والشجن. تتأرجح أعمالها الصباغية بين الواقعية الفطرية والتعبيرية اللونية، وهي طافحة بالكثير من المعاني والدلالات الأيقونية المستعارة من الخبرة الذاتية ومن التجربة الفردية في الحياة..مواضيعها عديدة ومتنوعة كحياتها تغترفها من قاع المجتمع وتعكس في عموميتها التمسك بالمنابع والتربة والوفاء لذكريات الصبوات والطفولة. من يقرأ هذه الأعمال التي تنجزها هذه الفنانة الحالمة ذات الأصول الشمالية سيجد نفسه، ولا شك، أمام تجربة صباغية تبوح بكل شيء وتخفي كل شيء في آن، ياللمفارقة!! تجربة منطلقها الحياة، وذات مسار طويل يرسم في سيرورته ومتوالياته نوعاً من الاحتفاء بالذات عن طريق الذات. من ثم، أمست لرسوماتها صلة بالفن الخام Art Brut القائم على التصوير الذهني المتحرُّر من النظم والقواعد المدرسية والقائم على عدم «الاعتراف» بالحقائق المرئية، حيث عفوية الإبداع وبراءة التصوير وطراوة الألوان وقوَّة التبصيم. بهذا، تمثل هذه الرسومات الوفاء للفن الخالص والبكر المنسوب ظهوره للفنان الفرنسي جان دوبوفِّيه Jean Dubuffet (1945) الذي عرّفه بكونه «نتاج مجموعة من الناس العصاميين، مما يجعل نتاجها، من كافة الجوانب، يمثِّل شخصيات مبدعيه، ولا تخضع هذه المجموعة لقواعد الفن المعروفة ولأسسه، وللتيارات والنزعات الفنية السائدة». لم تنسخ الفنانة كنزة أية تجربة صباغية سبقتها، إذ ظلت أصيلة ووفية لنهجها وأسلوبها التلويني الشخصي الذي ينمو فيها ومعها كلما قرَّرت أن ترسم وتصبغ داخل مشغلها الذي ينبت وسط فضاء سيدي رحال وقد تحوَّل إلى خيمة واسعة تتسع لكل الزوار، لاسيما الأطفال المولعين بالرسم وعوالمه، حيث يجدون فيه ما يشفي غليلهم ويشبع فضولهم واندفاعهم التلقائي والطبيعي لتعلم الفن وممارسته. الفنانة كنزة بثقافتها البصرية التي راكمتها من خلال زياراتها للعديد من المتاحف والمكتبات الأوروبية شقت طريقاً آخر موازياً لفنها هدفه نقل تجربتها للأطفال الباحثين باستمرار عن من يصغي إليهم ويفتح أمامهم مساحات واسعة للتفكير والتخييل وممارسة الحق في الحلم والإبداع، وهذه واحدة من الرسائل النبيلة التي يقوم عليها الفن الحقيقي، وليس المزيَّف الذي لا محتوى له..ولا معنى له.. إبداع الفنانة كنزة كحياتها..وحياتها هي فنها المطبوع بقوة التعبير وبلاغة الفن في حدود أبعاده الإنسانية. فبرؤية فنية خالصة مليئة بالحب والدهشة والضياء ترسم لوحات لا تخلو من فعالية طيفية مفعمة بصدق المشاعر، وتتعايش فيها الألوان الدافئة والألوان الباردة محدثة بذلك نوعاً من الكتابة الوجدانية النابعة من عين القلب. من عين القلب تبدأ الفكرة بالانتقال التدريجي من الرؤية إلى الرؤيا لتجد صداها داخل مساحة الفن، ومن عين القلب ينشأ الفن وينمو، الفن الصادق والأصيل الذي يمثل في لوحات الفنانة كنزة أبعادا جمالية خاصة تتمثل في القيمة التعبيرية والحدسية للمفردة اللونية في حدود طبيعتها وطراوتها ووضعها الخالص. ولأن الألوان تمنحنا الحق في الحلم والحياة، فإن الفنانة كنزة تستعمل اللون كقيمة حسية للتواصل والتخاطب والحوار، وكثيرا ما تتملكها الألوان على غرار ما استنتجها بول كلي P. Klee. المادة اللونية، إذن، هي لعبتها وأفقها الجمالي الذي يمنحها الإمكانيات الكاملة لشغل المساحات والكتل بسحنات تعبيرية عالية وتحويلها إلى رؤية ذاتية عابقة بالمشاعر والأحاسيس. يشتغل اللون في لوحاتها الصباغية كخطاب طيفي تقوى تعبيريته على رمزيته..ورمزيته على تعبيريته بالشكل الذي يَشُدُّ المتلقي نحو عوالم ذاتية تدفع إلى تفحص بناءاتها وإنشاءاتها المؤسسة على تضاد شكلي ولوني (ضوئي) مفعم بالعديد من المعاني والدلالات القزحية الكثيرة.. إنها لغة صباغية تعبيرية تمتح خصوصياتها من عمق الذاكرة الطفولية الملأى بالفضول والطموح والرغبة في الاكتشاف..لتظل بذلك حاملاً بصريا ينطق بحقائق متوارية خلف التشكيل والتكوين والتوليف. أليست الألوان أصوات تسمعها العيون؟، كما يقول أحد نقاد الفن.. هي هكذا لوحات الفنانة كنزة المكداسني تعبيرات فطرية حرة، غير مؤطرة، تشبيهية وتجريدية تحكي تجربة ذاتية لا يمكن ولوجها والإحساس بها سوى عن طريق لغات خاصة تنهض عليها، وأقصد بذلك لغات الباطن والداخل، أي عين العقل التي هي رهان هذه التجربة الصباغية المفتوحة على تعدد القراءات والتأويلات..