عين القلب تراها صامتة كطفلة لا تكبر ... تراها، أيضا، منطوية على ذاتها وكأنها تخفي سرا غائرا لا يكترث بالحاضر ولا بالمستقبل. إنها الفنانة الفطرية والعصامية كنزة المكدسني (تعيش وتعمل بين المغرب وهولندا)، هذه المبدعة الواثقة من خصوصية تجربتها التشكيلية وأصالتها على نحو يذكرنا بثقة الفنانين العفويين وبرهانهم على « المحلية الكونية ». هاهي تطالعنا من جديد بأعمالها الفنية التي سيحتضنها رواق «Chez l'artiste» بالدار البيضاء ما بين 10 و 20 يناير 2013 تحت عنوان «عين القلب» في تجربة جديدة مستوحاة من التجربة و التأمل العميقين: تجربة قوامها البحث الدؤوب و الإحساس الروحي. خارج مدارات اللغات الصباغية المتداولة و بعيدا عن دروب المسالك الأكاديمية المطروقة، آمنت كنزة ببلاغة الألوان البهية وقدرتها الخارقة على التقاط الأساسي و الحميمي داخل مملكة فيوضاتها الذاتية، وتحليقاتها الباطنية. عوالم غرائبية وموحية، هي عوالم هذه الفنانة ذات البوح الشهرزادي الذي يذكر بمسلسلات الحس الطفولي للتعبير التلقائي، ويستدعي تداعيات التحدي الاجتماعي من أجل تأكيد الذات، وترميم جراحاتها في ضيافة غربة اختيارية بهولندا ستتوج بتراكم إبداعي نوعي، وبحضور اعتباري لافت يستمد نسغه الحيوي من خصوصية أعمالها التلقائية. عندما تسألها عن مدرسة تكوينها الصباغي، تجيبك بملامحها الباسمة : « إنها طبيعة المغرب التي ارتسمت في وجداني، وملكت خيالي وجسمي، وسكنت أحلامي الصغيرة والكبيرة. هذه هي مدرستي الأولى التي ارتوت بمعين الصوفية، والبساطة الوجودية في رحاب أجواء القطب مولاي عبد السلام بن مشيش بجبل العلم. فهنا، تعلمت أبجدية التلقائية الشعبية، وبراءة الإبداع على طريفة الأطفال، وفناني الإبداع الخام والمستقل. ». من سجلات الحياة اليومية بكل تفاصيلها ومشاهدها الطريفة، تنهل كنزة أصول إبداعها المتجدد في المكان والزمان، ناسجة بحسها المرهف خيوط سيرتها الذاتية التي آثرت أن تدبجها بلغة اللون والشكل بدل لغة الخطاب والإنشاء المحبوكين. في حمأة التجديد، كنزة كتب لها أن تبدع مثلما تتنفس الصعداء. فهي ترصد بعين المؤرخة الشعبية مباهج الحياة اليومية في أسلوب تصويري يزاوج بين الخلفيات المشهدية التعبيرية، والمناظر الواقعية الانطباعية. إنها تحب ما تصوره، وتصور ما تحبه. فهي تحتفي بالحرية شكلا، وأداة، ورؤية. ما تقدمه هذه الفنانة هو، بلا ريب، شيء من سلطة اللون بكل عوالمه السحرية الباذخة. إنها تنصت، بعمق، لمكنونات دواخلها الطفولية واثقة من موهبتها و ملكتها الابداعية الصامتة. بيدين كريمتين تداعب اللوحة كما تداعب أمواج البحر، أحيانا، صخور المتأملين. لا تعرف الهوادة و الاستكانة. تراها عصية عن الفهم و التأويل. لا شيء يشد انتباهها سوى هذه العين الباطنية التي وسمها العارفون و الجوانيون ب «عين القلب»: هذا مصدر إلهامها الذي ينتشلها من أوحال الدروب المطروقة. لا تقلد إلا ذاتها في مصالحة مع طفولتها البصرية المتجددة، هذه الطفولة المتشربة بماء الثقافة الشعبية، و الهوامش الطبيعية التي لا ينضب معينها. شاعرة التفاصيل اليومية الصغيرة، هي كنزة و صاحبة مقامات تشكيلية ذات أجنحة ملائكية : إنها ترى ما تحب، و ترسم ما تراه في صمت رهيب شبيه بصمت الناسكين المتعبدين. ببوحها البصري، تعيد المتلقي الرائي إلى الانساني فيه، أقصد الطبيعي الذي تندمل معه كل الجراحات المادية منها و الرمزية. لقد أدركت هذه الفنانة ذات الأصول الصوفية الشعبية بأن اليد التي ترسم هي امتداد روحي للقلب و للبصيرة. هنا، تكمن أصالتها و سر عفويتها. فبعيدا عن كل نزعة إرادية لتنظيم فضاء اللوحة و تقنينه، تجدها تمارس، عن وعي أو بدون وعي، حالات من الجذب اللوني ذات الإشراقات المتوهجة كأشعة شمس تأبى الأفول. في حضرة أعمالها الإبداعية، يتصالح المتلقي الجمالي مع إحساسه و فكره، تاركا العنان لمخيلته المجنحة لكي تسبر أغوار عالم عجائبي يعز عن الوصف و التأويل. كم تستوقفنا حياة الأشكال المتماهية مع الألوان البهية في رحلة ليست ككل الرحلات! في كل لوحة هناك تناسق و تناظر. هناك أشياء أخرى على الناظر أن يتمثل معانيها الخفية. بساطة الأشكال و المشاهد لا تعني بالضرورة سطحيتها... هنا، يجدر بنا أن نتحدث عن العمق: عمق البساطة التي افتقدها زمننا الموحش تحت ذريعة التقدم المادي. حين زرت محترفها بفضاء سيدي رحال ذات يوم مشرق، تأكد لي أن هذه الفنانة امرأة استثنائية بكل المقاييس. امرأة تعشق الأرض التي تربت في أحضانها. نظام عرض لوحاتها ذات الأحجام المختلفة... طقوس محاورتها لجسد اللوحة... كل شيء يبدو غريبا غرابة الكائنات التي تسكن عوالم فضاءاتها البصرية خارج كل استنساخ أو انتحال... لا شيء منذور للفراغ واللامعنى... كلماتها الشذرية معادل للوحاتها ذات المفاتيح السرية... كنزة امرأة عرفت كيف تختزل المسافات، و تستحضر الجوهري في كياناتها الإبداعية، منتصرة لسلطة الأنوثة السرمدية... يا لها من ألفة خفية تدب في تضاعيف كل لوحة... فالفنانة كنزة رحالة في جوهرها لا تعرف الإقامة... لوحاتها إبحار في إبحار ... سفر افتراضي في أزمنة الماضي و الحاضر قصد تعميق الإحساس في إنسانيتنا المهددة، واضعة إياها في بؤرة القيم الجميلة و النبيلة. إننا في حضرة «مهد الأزمنة» لا كهفها... أزمنة خارجية مشرعة على الأزمنة الداخلية في غمرة ربيع المخيلة الذي لا ينقطع... ما علينا إلا أن نمتطي صهوة الذاكرة الجماعية لكي نسترجع معها، في حنين عنفواني، ذكرياتنا التي تنزاح عن النسيان و المحو. كنزة واحدة من جيل الفنانين الذين عرفوا كيف يجعلون من إقامتهم الاختيارية داخل الديار الغربية مصدر ثراء و نضج تجربتهم البصرية بكل عوالمها و أجوائها الغرائبية. كطائر الفينق الذي ينبعث من رماده، تراها روحا نابضة مفعمة بعبق الحنين إلى الماضي، نمنمتها يد الفنانة بكبرياء المتواضعين، لا بادعاء المتهافتين. شكرا للفنانة كنزة لأن مزلاج الذاكرة لم يعد مستعصيا على الفتح.