نعلن في تصدير هذه المحاولة أنها خاضعة لمنهج المحاولة والخطأ (كارل بوبر في منطق البحث العلمي)، ولا تدعي لنفسهاالقدرة على الإلمام بجميع جوانب الموضوع،لأن تتبع اليومي قد يفلح فيه الإعلامي، أماالتحليل فيقتضي فاصلا زمنيا بين الحدث السياسي وتداعياته. و عليه، فإن تجربة حزب العدالة و التنمية في تدبير الشأن العام تدفعنا إلى إبداء الملاحظات التالية: أولا: جاءت التجربة الحالية نتيجة تفاعل الشعب المغربي مع ما اصطلح عليه ب « الربيع العربي» كتعبير عن ما يسمى ب «الاحتجاجات المضادة للنظام» ، أو «أعمال الشغب المحلي» ، مما سمح بوصول جزء من الحركة الإسلامية المغربية -ممثلة في حزب العدالة و التنمية- إلى الحكومة ، على أساس نتائج الانتخابات التشريعية السابقة لأوانها يوم 25 نونبر. وبذلك وضع المواطن المغربي آماله في هذه التجربة من أجل جعل المغرب استثناء في التعاطي مع الديمقراطيةوالتنمية والإصلاح و الاستقرار... من خلال ذلك فإن موضوع الربح و الخسارة يمكن قياسه من خلال مكسبين أساسيين ، يتعلق الأول ب « الإصلاح» ضد الإفساد و الثاني ب» الاستقرار» ضد «التغيير الجذري» أو «الفوضى» . مما يدفعنا إلى طرح الأسئلة التالية : هل انتصرت القرارات السياسية التي اتخذت في عهد حزب العدالة و التنمية للإصلاح أم غلب عليها هاجس المحافظة؟ هل الاستقرار كأهم مكسب سياسي يمكن أن ينسب إلى فاعل واحد أم هو نتاج تضافر إرادات مجموعة من الفاعلين ؟ ثانيا: قراءة بعض القرارات السياسية تدفعنا إلى القول بغلبة هاجس المحافظة على الإصلاح و من الأمثلة على ذلك نورد ما يلي: 1- على مستوى محاربة اقتصاد الريع: اعتمدت الحكومة مقاربة فضح المستفيدين إعلاميا دون محاسبة القائمين عليه، مما يعنيه ذلك من محافظة على الوضع القائم بما يترتب عنه من استمرار الإفلات من المحاسبة؛ ذلك أن « الفضح» يمكن أن تتكفل به و سائل الإعلام دون عناء الحكومة التي يقع على عاتقها اتخاذ التدابير الملائمة. هنا يبقى السؤال عالقا بخصوص قدرة التدابير المزمع اعتمادها مستقبلا على وضع حد له, خاصة في ضوء تصريح بعض رموز الحزب باستفادة هذا القطاع من حماية سياسية, و هل تعويض أصحاب هذه الامتيازات في حالة التخلي عنها يمكن أن يساهم في القضاء على الريع ؟ 2- استمرارية السياسات العامة: تضمن البرنامج الحكومي عدة سياسات عامة تعتبر امتدادا للسياسات المعلن عنها من قبل الحكومات السابقة. فبغض النظر عن جوانبها الإيجابية المتعلقة بضمان الاستمرارية, إلا أن فيها جوانب سلبية ترتبط بحدود القدرة على المبادرة ، و حتى في القطاعات التي حاولت أن تخالف السياسات السابقة لقيت نقدا واسعا و المثال على ذلك قطاع الإعلام ( نزع ملف دفاتر التحملات من وزير الاتصال) و قطاع التعليم ( عودة التكنقراط) علما أن فرانسيس فوكاياما - مثلا- في كتاب « بناء الدولة» ذهب إلى أن التكنقراطي يمكن أن يتحمل مسؤولية قطاع تقني مثل المالية لكن التعليم كقطاع اجتماعي لا بد من دور الفاعل السياسي. 3- تعتبر السياسة المالية للحكومة محكا حقيقيا لقياس قدرة الحكومة على الابتكار و البحث عن الموارد الجديدة و عقلنة النفقات : لكن يلاحظ على مستوى البحث عن الموارد الضرورية لتغطية النفقات أن الحكومة حافظت على نفس المصادر، و هي : الضرائب ( ما مصير توصيات المناظرة الوطنية ؟) و الاقتراض (حسب بعض أعضاء لجنة المالية في مجلس المستشارين يوم الاثنين 2 دجنبر 2013: اقترضت الحكومة في عهد بنكيران في ظرف سنتين ما اقترضته الحكومات السابقة في عشر سنوات). و أضافت عليها الزيادة في أسعار المحروقات و اعتماد نظام المقايسة مما من شأنه أن يغل يد المواطن المغربي ، يضاف إلى ذلك لجوءها إلى تغيير أسعار الضريبة على القيمة المضافة مما يبين عدم قدرتها على مواجهة الشركات أو أصحاب الثروات. و على مستوى الميزانية تعاملت الحكومة مع تعديلات المعارضة بنفس الأسلوب السابق و هو اللجوء إلى الفصل 77 من الدستور الحالي ( يقابله الفصل 51 من دستور 1996)، مما يحد من مبدأ الاختصاص الحصري للبرلمان في قانون المالية ليحل محله مبدأ توزيع الاختصاص بين الحكومة و البرلمان مع غلبة الأولى. 4- اصطدمت مبادرات الإصلاح المعلن عنها من طرف الحكومة برفض الفاعلين الأساسيين بدعوى عدم إشراكهم ، نورد هنا على سبيل الذكر: إصلاح العدالة و الحوار الوطني حول المجتمع المدني. وأدت بعض مشاريع القوانين إلى خروج فئات تتضارب مصالحها إلى الشارع كما هو الحال في الجدل المثار بين العدول و الموثقين ، من جهة، و وكلاء الأعمال ،من جهة أخرى ( بخصوص الاعتراف القانوني بالمحررات الثابتة التاريخ ) . يضاف إلى ذلك احتجاج البحارة ضد اعتماد المراقبة بالأقمار الاصطناعية بدعوى عدم مشاركتهم في الحوار قبل اعتماد هذه الآلية للمراقبة. و هذه الأمثلة تبين عدم اعتماد آلية الحوار و التشاور من طرف الحكومة مع الفاعلين الأساسيين في بعض القطاعات . يضاف إلى ذلك تجميد الحوار الاجتماعي مع النقابات مما من شأنه أن يمس مستقبلا بالاستقرار الاجتماعي، لأن الحكومة لا يمكن أن تعول على ربط الأجرة بالعمل و اللجوء إلى الاقتطاع كحل لوقف شوكة النقابات ، فهذه التدابير قد ينتج عنها القضاء على العمل النقابي و فتح المجال واسعا أمام اللاتنظيم و الفوضى في مجموعة من القطاعات. ثالثا: على مستوى إصلاح أعطاب الفعل السياسي : يلاحظ على المبادرات السياسية إحياءها لمجموعة من تجليات «درجة الصفر في السياسة»، نورد من بينها: 1- عودة التكنقراط إلى الحكومة بقوة : فبعد أن استبشر المغاربة خيرا بتحمل المسؤولية السياسية من طرف السياسيين، الذين ذهبوا لصناديق الاقتراع من أجل انتخابهم و تمثيلهم، يصطدمون بعودة قوية للتكنقراط مع ما يوازي ذلك من «نفي للسياسة». 2- غموض التحالفات السياسية: رسخت التجربة الحكومية في نسختها الثانية أمراض السياسة في المغرب و خاصة تلك المتعلقة بغلبة المصلحة على المبادئ و من تجلياتها غموض التحالفات. فماذا يجمع بين العدالة و التنمية و التجمع الوطني للأحرار غير المصلحة الظرفية الزائلة؟ و ما ذا يجمع بين العدالة و التنمية و التقدم و الاشتراكية؟ و هل السياسة - بما تعنيه من »إدارة الشّؤون المشتركة بمقتضى الحكمة« ( على حد تعبير عبد الرحمان الكواكبي)- تقاس بما هو ظرفي؟ 3- على مستوى الخطاب السياسي: تلعب اللغة دورا مهما في الحقل السياسي بما تحيل إليه من سلطة للفاعل السياسي باعتباره، حسب عبارة بيير بورديو، ,ناطقا باللسان ، أي أن كلامه يكتف الرأسمال الرمزي الذي وفرته الجماعة التي فوضت إليه الكلام ووكلت إليه أمر النطق باسمها و أسندت إليه السلطة . هنا يطرح السؤال: هل حزب العدالة و التنمية فوض لأمينه العام الحديث بذلك الأسلوب؟ و هل المغاربة منحوه هذه السلطة للحديث باسمهم كرئيس للحكومة بلسان يعكس نواياه الشخصية؟ و من جهة ثانية، لم يستطع الفاعل السياسي أن يتجاوز الغموض و خطاب التلميح عوض التصريح: فقد طغى على الخطاب السياسي منذ وصول العدالة و التنمية إلى الحكومة خطاب يلمح أكثر مما يصرح، مما يفتح المجال أمام تضارب التأويلات مع ما يترتب عن ذلك من ربط الفشل بأطراف يمكن لكل واحد أن يحددها حسب أغراضه و أهوائه : فمن المقصود ب» العفاريت « أو « التماسيح» أو « اتركوهم يشتغلون»...؟ و ختاما نخلص إلى ما يلي: يدور الصراع السياسي - أو التدافع السياسي السلمي- في الحقل السياسي بين عدة قوى تتباين رؤاها للماضي و للحاضر و للمستقبل. و على أساس هذه الرؤى تختلف طبيعة الحلول التي تقترحها - للقضايا السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية (...)- بين المحافظة أو الإصلاح أو التغيير الجدري. و يتميز الفعل السياسي (الخطاب والممارسة) للقوى المحافظة بدفاعه عن المحافظة على الوضع القائم، و لأجل هذه الغاية يرتمي في أحضان التقليد، و ينادي بالاستقرار، و بالتوازن و النظام. و على عكس هذا النمط يسعى دعاة الإصلاح إلى التغيير التدرجي و التطوري، الذي يهدف إلى إحداث تغيير في شكل النظام القائم دون زواله. و على خلافهما يرنو الفاعل الثوري إلى تغيير جذري للنظام القائم وبناء نظام جديد بأسس جديدة و قيم مغايرة. و عليه، يطرح السؤال: أين يمكن تصنيف الفعل السياسي لحزب العدالة و التنمية؟ هل ضمن المحافظة أم الإصلاح أم الثورة؟ منذ البداية نبعد الاتجاه الثالث لأن الحزب يعلن صراحة تبنيه لأطروحة « الإصلاح في ظل الاستقرار»، كما عبر عن ذلك في « مشروع أطروحة المؤتمر السابع»، و في « البرنامج الحكومي». ومن خلال الملاحظة الشكلية الأولية لهذه الأطروحة-» الإصلاح في ظل الاستقرار»- نقف عند مفهومي « الإصلاح» ( يحيل إلى التغيير) و « الاستقرار»( يحيل إلى المحافظة). مع ترجيح كفة الاستقرار . هنا يطرح السؤال: هل يتعلق الأمر بتناقض أم بإرادة سياسية بينة؟ و هل يمكن لمن يدافع عن المحافظة سياسيا أن ينجح في أن يكون إصلاحيا على المستويين الاقتصادي و الاجتماعي؟ * أستاذ العلوم السياسية