أساليب كثيرة وطرائق متعددة تتيح إمكان توصيف المشهد اللغوي في بلادنا، والوقوف عند نقط قواه وضعفه، وتقييم السياسة اللغوية المتبعة، بكلفها وفوائدها المادية وغير المادية، بناء على الأهداف المرسومة لها والنتائج المتوقعة. ومع أني أميل إلى الاعتقاد الموضوعي بأن «الكأس» اللغوي المغربي ليس فارغا بأتمه، فإن الوضع لا يبعث على الاطمئنان لأسباب لا تكاد تعد، ليس أقلها عدم عناية أصحاب القرار بهذا الملف الحيوي الملح والشائك، والانتقال إلى تطبيق النصوص التشريعية والمرجعية من أجل الشروع في تلمس الحلول، وتدارك الأضرار الناجمة عن تردد القرار وضعفه، وتغيير الحكامة اللغوية، إقامة التخطيط الجيد، الخ. وقد ارتأيت، تيسيرا وتقريبا للتوصيف، أن أجمل الكلام اليوم في 10 مفاهيم-أعراض لنقاش الشأن اللغوي المغربي، وآثرت البدء بالعورات والعقبات، وهي كثيرة، وغلبت على المحاسن والفتوحات، التي تتبخر في الغوغاء. الدائمة والمستمرة،والتي تتحمل مسؤوليتها النخبة الثقافية والسياسية والإعلامية، الخ، التي لا تقيم نقاشا مواطنا ووطنيا مسؤولا، ولا تساعد بعضها في توضيح الرؤى، بصفة موضوعية، عوض تكريس الفئوية والمصالح واحتكار الفوائد، أو تنوير المواطنين بتشخيص التحديات المعقدة التي تسم الشأن اللغوي اليوم في مختلف أقطار وبقاع القارة، بما في ذلك نسبية الحلول الممكنة وارتباطها بالتوافق والتراضي المسؤول، إلى غير ذلك.فهذه الدخلات المُجْمِلة أعدها جزءا من مسرد ضروري لإغناء النقاش وتأطيره، قد تنضاف إليها المزيد منالدخلات. وهي مُعَرَّفة بإيجاز كبير، يتسع إلى مزيد من التدقيق لاحقا. 1. اللادمقراطية اللغوية وتجلياتها كثيرة. منها ما سبق أن سميته بممارسة الحكام للحجر اللغوي على المواطنين، عوض اعتبارهم راشدين، واتخاذ قرارات «أبراجية» من فوق، في السر، دون أن يكون لها تبريرمقنع، وكأن مسألة اللغة مسألة «أسرار دولة»، لا يمكن أن تتاح المعلومات حولها حتى للمواطن الخبير، ناهيك عن المواطن العادي، أو يمكن أن تفوض فيها ملفات حساسة لجماعة ذات مصالح، لتحتكر الاقتراح والقرار فيها. فلا يمكن أن تحتكر القرار، مثلا، جماعة فرنكوفونية بمصالح فردية أو «لوبوية» (نسبة إلى «لوبي») معروفة أو غير معروفة. أيمكن، مثلا، أن يجرأ شخص على رفع مذكرة إلى الملك وهو يعرف أن أفكاره لا تتبناها إلا أقلية (حتى ولو احتسبنا الأجانب أمثال آلان بنطوليلة ودومينيك كوبي، و»وليداتهم» الذين يدافعون بغوغائية وهيستيرية عن العامية)؟ أو أن يخرج شخص آخر ليدعي أن الأحزاب «مزبلة»، الخ؟ أليس هذا قتل للدمقراطية، وللسياسية، ولآلياتها المتعارف عليها دوليا؟ وما معنى هذا الكلام، هل يريد هؤلاء الناس أن يتحول الملك إلى حاكم مستبد، خلافا لما ينص عليه الدستور، ويستفرد بقرارات لا يُستشار في أمرها المواطنون؟ وما الذي يضمن للاستبداد النجاح؟ أم إن الصواب يكمن في المشورة والدمقراطية اللغوية؟ إن استطلاع هسبريس للرأي حول استعمال العامية في التعليم، مثلا، يبين أن 81،77%من المستجوبين يعارضون هذا التوجه. وهناك أسئلة تشغل بال المواطنين يمكن أن تطرح في استطلاعات أو في استفتاء عام، أذكر منها على سبيل المثال، لا الحصر: - هل المغاربة يرغبون في كتابة المازيغية بتفناغ، أم بالحرف العربي؟ - هل يقبل المغاربة أن تدرس العلوم الإنسانية والإجتماعية والعلوم الدقيقة ابتداء من الثانوي-التأهيلي وفي الجامعة بثلاث لغات تتوزع الوقت المدرسي (تكون هي العربية والفرنسية والإنجليزية)، أم إنهم يفضلون نظاما ثلاثيا آخر، على غرار ما ذكر في الميثاق؟ - ما هو نمط الترسيم الثنائي الذي ينص عليه الدستور بصدد اللسانيين العربي والمازيغي، وهل الترسيم يكون تمايزيا différencié أم متطابقا، ترابيا أم شخصانيا؟وكيف ذلك؟ وهناك أسئلة تطرح بالنسبة للتنوع داخل لساني الهوية، وتوجهات أو آليات تدبيره. وهنا لا بد من العناية بآراء الأقليات فيما يخص التنوع اللغوي المازيغي، بما فيه تشلحيت وتاريفيت وتمازيغت، والتنوع اللغوي العربي، بما فيه عاميات الشمال والعامية الحسانية.وما يجدر الإشارة إليه هنا هو إقصاء الدولة لعدد من الأصوات التي لا تزكي سياستها اللغوية، وتهميشهم، واعتمادها على اللوبيهات الاحتكارية، في معارضة تامة لمبادئ الدمقراطية. 2. التطبيع اللغوي-الثقافي هناك صيع مختلفة لما أسميه «التطبيع اللغوي» بالمغرب. هناك أولاالتطبيع مع ما سبق أن ورد من أفكار وإيديولوجيات لغوية استعمارية تعود إلى عهد ليوطي بالأساس، أو قبل هذا العهد إلى ما حدث في مصر مع المستعربين أمثال شبيتا وويلكوكس. وأساس هذه بخس اللغة العربية والحضارة العربية، أومحاولة فصل العروبة عن المزوغة، أو فصل المغرب عن الإسلام، أو فصل مصر أو لبنان أو المغرب عن العروبة، الخ. فما عبر عنه فرانك سلامة مؤخرا من إرادة «لَبْنَنة» ثقافة لبنان ولغتها أو «فَيْنَقتها»، امتدادا لتفكير أستاذه سعيد عقل، أو ما عبر عنه قبله سلامة موسى في دعوته للعامية المصرية، واستقلالية ثقافة مصر أو «فرعنتها»، وادعاء موت العربية الفصيحة، ليس إلا صدى للاستدلال الكولونيالي في القرن التاسع عشر (بل قبل ذلك) لمن كانوا يريدون توزيع العرب إلى قُطريات غير مرتبطة بلحام اللغة. وهذا التطبيع لآن امتدادلأفكار برنار لويس المتطرفة أو غيره من أعداء العروبة والإسلام، الذين يعتبرون العربية لغة ميتة، والإسلام عدوا للحضارة الإنسانية، وقد وضعوا خرائط لتفتيت العالم العربي إلى أقاليم صغيرة، الخ. وليس غريبا أن يوازي هذا التطبيع اللغوي-الثقافيالتطبيع مع الدولة الصهيونية،الذي ندد به جل اليهود الأحرار، كما نددوا بإديولوجيتها العنصرية أكثر وأحسن مما ندد بذلك العرب أو المسلمون. ولن ينفع المطبعون في هذا الباب ما يقدمونه من احتجاج واه لتغطية جرائم ضد الإنسانية. وهناك تطبيع من طبيعة ثالثة، وهو التطبيع مع الفرنكوفونية الإقصائية المنغلقة، الذي يمنح اللغة والثقافة الفرنسية المكانة الاعتبارية الاحتكارية، والامتيازات الحصرية، ضدا على المصالح والفوائد الفردية والجماعية التي تتيحها ألسن الهوية ولغات انفتاح أخرى للمواطنين، الخ. 3. عداء التعدد اللغوي anti-multilingualism رغم إقرار التعدد اللغوي والثقافي في الدستور، ورفع شعاره من قبل عدد من الفاعلين السياسيين والثقافيين، فإن هذا المفهوم وما يتطلبه من شروط التطبيق، وتغيير المواقف والسلوكات اللغوية والثقافية، لم يستوعب بعد حتى في صيغته المعتدلة. فالتصور السائد يبدو التعدد فيه وكأنه يعني تعدد الأحاديات اللغوية أو الثقافية «المُعَلَّبة»، بمعنى أن كل لغة ستستقل بمتكلميها وبفضائها، سواء كان ذلك الفضاء ذهنيا (أي في الدماغ)، أو جغرافيا-ترابيا. والحال أن اللغات المتعددة في المغرب ستتساكن وتتقاسم نفس المنطقة (عموما) في الدماغ، وستتساكن كذلك على نفس التراب أو الأرض تقريبا. وتعجب أن تجد أناسا يتكلمون عن التعدد اللغوي وهم يقصدون به اللغة الفرنسية فقط، دون غيرها، كما حدث في نزاع مشكل دفتر تحملات الفضائيات العمومية، ويتزعمون بخس اللغة العربية، الخ.وبالنسبة للتعليم، على الخصوص، ليس هناك تفكير جدي، إلى الآن، في إحلال الإنجليزية المكانة اللائقة بها، ناهيك عن العربية، ثم أين الإسبانية والبرتغالية والألمانية، الخ. وهناك طبعا مكانة اللغة الرسمية الثانية، المازيغية، التي تحتاج إلى موقعة لائقة بها في المشهد. ولأن اللغات كثيرة ومتنوعة، ولأن تعليمها الناجح يحتاج إلى بيداغوجية جديدة تأخذ بعين الاعتبار مناهج تعليمية اللغات المتجددةdidactics ، عبرالكفايات المتعددة والعَبْرية transversal، ولأن أي لغة في هذا التعلم المتعدد قد تُفْتَقَد بعد تعلمها، أو تضْعُف بحكم التنافس على الفضاء في الدماغ أو في التراب، فإننا نحتاج إلى أن نجيب جديا وبالتوافق على السؤال التالي:كم من اللغات نستطيع تعليمها لتلاميذنا بنجاح، دون أن يؤدي ذلك إلى فقدانها أو إضعافها، أو خلق اضطرابات في التعلم، والتأثير سلبا على التعلمات الأخرى؟ 4. التقليدانية القاتلة وعداء الفكر النقدي والابتكار والتطور ليس سرا أن نقول إن أعداء اللغة العربية الأولين هم من أرادوا تحنيطها من المعربين وغير المعربين، وحصروها في قوالب مسكوكة مكرورة ومبتذلة، لا تنم عن قدرتها على ركوب الحياة، بالمفردات والمفاهيم الجديدة، والتراكيب والمعاني الجديدة، وأساليب التعليم والتعلم الجديدة، وركوب تداخل الثقافات والفلسفات والتحاليل التي تسير بسرعة، ولا تقبل التردد في إرادة التجديد والمواكبة. وأنا أول من عانى من التراثانيين التقليدانيين، الذين يريدون أن يجدوا كل فكرة لسانية وكل منهج لساني أو علمي في التراث العربي القديم، فأفسدوا على الناس فهم التراث وفهم اللسانيات الحديثة في نفس الوقت، ومضمون الثورة اللسانية، وفوائد تطبيق اللسانيات على اللغة العربية تطبيقا ناجعا، ودراسة مختلف مشاكلها من منظور العلوم اللسانية المقارنة المتعددة والمختلفة، بما فيها العلوم النفسية والسوسيولوجية والسياسية والبيئية والتربوية والحاسوبية، وأخذ العلم من منابعه الأصلية في جامعات الغرب المتميزة التي تدرس اللسانيات بجدية، الخ. وهذا خلاف أوضاعالتقليدانيين الذين يدعون أنهم لسانيون لمجرد أنهم درسوا سيبويه أو الجرجاني أوقرأوا مقدمات مبسطة في اللسانيات، وهم مسؤولون عن الخلط، ووضع اللسانيات المتردي في العالم العربي، وعدم استفادة اللغة العربية من هذه العلوم لإصلاح شؤونها ونواقصها. فإصلاح نظام اللغة العربية وأساليب تعلمها، ومعجمها، ونحوها، وضرورة تلقيحها بالعاميات، ونقلها إلى لغة تواصل طيعة جذابة، الخ، كلها أمور مطروحة بإلحاح على أي مخطط للنهوض باللغة العربية، وإشاعتها،ولن ينفعها في هذا التقليدانيون المتحجرون، الذين يمضون وقتهم في تصحيح أخطاء المتكلمين الإعرابية، في حين أن الإعراب يمكن الاستغناء عنه، أو يدرسون قواعد التوكيد أو الإعلال المعقدة، وينسون تدريس لغة الحياة الفصيحة. إن اللغة العربية لا تحتاج فقط إلى أن تصبح لغة العلوم والتقنيات، ولكنها تحتاج كذلك إلى أن تكون معبرة عن أنواع المأكل والمشرب والموسيقى والرسم، الخ. وهي تحتاج كذلك إلى أن تكون اللغة المعبرة عن أي مفاهيم معرفية وثقافية جديدة، دون أن يكون المتكلم مكبوحا بما يكبل تفكيره، أو ما يريد التعبير عنه. وليس غياب الفكر العلمي والنقدي وابتكار الحلول الجديدة مقصورا على فئة المعربين التقليدانبيين وحسب، بل إن الفكر والسلوك الفرنكوفوني الضيف والانغلاقي الذي يسم نخبة النفوذ والمصالح لا يقل كارثية عن السلوك الضيق للمعربين، وكذلك السلوك الفئوي الضيق للأمزوغيين. ونحن بحاجة إلى تغيير تفكيرنا وسلوكاتنا اللغوية والثقافية والسياسية التقليدانية، لا لأن الأمر اختيار أكاديمي أو فلسفي وحسب، بل لأن الأمر سياسي كذلك، وأصبح مصيريا بالنسبة لنا، حتى نصبح مواطنين للقرية الكونية، بمواصفاتها وشروط التواصل فيها، والتميز عبر الابتكار من أجل تطوير الحلول لتحديات التماسك والاختلاف الجديدة.لم يعد إذن الحل هو أن نضع كل فئة في علبة مفصولة ومعزولة، علبة للعروبيين، وعلبة للمزوغيين، وثالثة للفرنكوفونيين، ورابعة للتقليدانيين، وخامسة للمجددين،الخ. إن الإكثار من التعليب لا يحل مشكل التماسك، ويقوي المنازعات، الخ.ونحن اليوم في أمس الحاجة، قبل كل شيء، إلى نشر ثقافة وطنية مشتركة منفتحة، تتماشى ومواصفات ما هو معياري في التداول الكوني، ولا ضير في المحافظة على خصوصيات مغنية، لا معيقة للتنمية والارتقاء. 5. الريع اللغوي واللاعدالة اللغوية للريع اللغوي تمظهرات عديدة، لأن اللغة تمثل مصدرا للعيش لكثير من الناس، بصيغ مختلفة،بما فيها الصيغ الاحتكارية للغة لفائدة فئة دون أخرى. فهذه «الخيرات اللغوية» يستفيد منها أولا مدرسو اللغات، أو الكتاب بلغة معينة، او مسيرو المركز اللغوية، الخ. المشكل أن هؤلاء قد يكونعدد مهم منهم فاسدين أو متهاونين، بحيث قد يتقاضون أجورا لا يؤدون عنها الخدمات المطلوبة. فالمؤسسات اللغوية العربية، مثلا، فيها عدد من الموظفين يستفيدون من تعويضات مالية عن مشاريع وهمية أو غير ذات فائدة، وهناك منهم عدد من الموظفين الأشباح، الخ. وكان معروفا لدى المسؤولين في وزارة التعليم أن معهد التعريب الذي كنت مديرا له ابتداء من سنة 1994 فيه رقم قياسي من الأشباح، ولم يكن عدد العاملين المخلصين لعملهم يصل إلى 20%. وكانت هناك صفقات ريعية مع شركات وهمية، وحسابات بنكية خاصة، الخ. وانظر إلى عدد أساتذة اللغة العربية الذين لا يفكرون في تطوير الأساليب والطرق الجذابة لنشر اللغة العربية، أو مواجهة تحديات استبقائها، الخ. وأما الريع الفرنكوفوني،فأكبر وأمر. تصور أننا زرنا مرة، في إطار اللجنة الخاصة للتربية والتكوين، شركات في البيضاء، وطرحنا عليها السؤال التالي: إذا وجدتم تقنيا له قدرات عالية لإنجاز عمله، مع أن لغته الفرنسية ضعيفة، ووجدتم من هو أقل منه كفاءة ولكنه يجيد الفرنسية أكثر، فمن تفضلون؟ كان الجواب المطرد هو: نفضل من له معرفة أكبر بالفرنسية، ولو بقدرات مهنية أقل. والريع الفرنكوفوني مترسخ في الإشهار وتوزيع الوظائف، الخ. ثم هناك ريع لغوي أمازيغي، بحيث تتوجه إعانات الدولة إلى من يساير خط إدارة المعهد، ولا يستفيد الآخرون غير المدجنين. عدد من الأطر المعربة تُبْعَد من مراكز الإدارة والسلطة والتدبير لمجرد أنها معربة، أو لمجرد أنها لا تتبنى التوجهات المذلة للغة العربية. وعدد من الأطر المعربة تقتات أكثر من إهانة اللغة العربية، وتهميشها، وهي المستعدة، قبل غيرها، للسكوت عما يلحق بها من أضرار. فهذا عين الريع والفساد اللغويين. وهناك كثير ممن يكتب بالعربية، فيستفيد من طاقاتها التعبيرية وانتشارها التواصلي، ولكنه يكتب للإضرار بها وشتمها، مع أنه لم يجدعنها بديلا كمصدر للعيش. فهذا عقوق وريع، الخ، وهو يماشي المأثورة الفرسية On crache dans la soupe!. أضف إلى هذا أن تكاثر حماة اللغات ليس إيجابيا بالضرورة، لبروز طبقات من الحماة-الحراميين المصلحيين، الذين لا يتوفقون في الدفاع عن اللغة، وإنما يكثرون من البروز والمبارزات، التي تروم قتل النقاش الهادئ والرصين، واختلاق نزاعات لا فائدة منها. وهؤلاء سواسية في الدفاع عن مصالحهم الريعية، سواء كانوا أمزوغيين، أو أعروبيين، أو فركوفونيون، هدفهم طلب الرزق عبر مناقشة شؤون اللغة، وركوب المصالح الخاصة أو بعض المقاعد أو المراكز، وخدمة أنفسهم عوض خدمة القضايا الشائكة التي تتطلب العمل الدؤوب والإيثار. وأما الظلم اللغوي الأكبر،أو اللاعدالة اللغوية، فأول مصادره نشر نظرة دونية إلى ألسن الهوية بأنواعها، وفتح أبواب الشغل والربح أمام من يعادي لغته، أو لغاته. هو إيديولوجية تفوق لغة الأجنبي على اللغة الوطنية، ومنح المكانة الاعتبارية الأولى للفرنسية، وماعداهامن اللغات تُنَزَّل منزلة أقل، بل تعاني من الاحتقار من المواطنين أنفسهم.حتى عندما تذهب لشراء الخبز من المخبزة، أو وقت ملء البطاقة الأمنية في المطار، أو الشيك في البنك، الخ. ومن يتكلم الفرنسية ينتشي ويستعلي ويتوقح. إنه «يدري»، والذي يتكلم لغةالمواطنة المستضعفة لا يدري. فهذا استهتار بكرامة المواطن، المتجلية في لغة هويته. ويكمن الظلم اللغوي في أشياء أخرى عديدة، مثل الاحتكار اللغوي لصالح فئة دون غيرها، ثم اختيار لغة أو لغات التعليم، ولغة الإشهار، ولغة نشرة الأخبار، الخ. وعموما، فإن الخدمات اللغوية لا تقدم للمواطن باللغة التي يريدها، بل إن المواطن يراد منه أن يخدم اللغات التي يختارها غيره، والتي تمثل مصلحة غيره، لا مصلحته هو. ونخبة النفوذ تفرض الفرنسية لغة للارتقاء الاجتماعي والاستفادة الاقتصادية والسياسية والسلطوية. فمن ذا الذي يجرؤ على التداول مع أصحاب النفوذ بلغة غير لغة موليير، سواء كانت لغة الأمازيغ أو لغة الأعاريب أو لغة المغارب، هذه الألسن البهائمية أو لغات الوحيش؟ ومن يجرؤ على «نَجْلَزة» الخطاب (وعولمته)، والمغاربة «لغتهم» العالمة الراقية و»غنيمتهم» التي مثلت الفرصة التاريخية هي الفرنسية، دون غيرها؟ 6. عداء الشرعية والمرجعيات والتراكم ينطلق النقاش دائما عندنا وكأن فضاءنا الثقافي أرض خلاء، لم يسبق له أن عرف نقاشات ووصل فيها إلى نتائج، وكأن التقدم يمكن أن يحصل بدون تراكم، التراكم على أرض الوطن، ولكن التراكم العالمي الكوني كذلك، وبدون تأطير مفاهيمي وسياسي ثقافي تاريخي علمي، الخ. نعرف، مثلا، أن الدول تحكمها دساتير، تضبط العلائق بين الحكام والمحكومين، وتحصر آليات التمثيلية السياسية ووضع القوانين وتطبيقها، والمرجعيات الثقافية لهوية البلد، الخ. ما يطبع نقاشاتنا أولا هو أنها تضع جانبا الدستور، وكأنه غير موجود، وكأن المناقشين حتى في القنوات العمومية ليسوا «دستورانيين». وهم فعلا ليسوا كذلك، لأن الدساتير المغربية كلها تنص على أن اللغة العربية هي اللغةالرسمية للدولة، ومع ذلك لا يعبأ حتى المسؤولون الحكوميون بهذا. فهذا وزير يقترح الاستعاضة عنها بالفرنسية كلغة عمل، وذاك يشجع الترسيم التدريجي للهجات العربية المغربية من أجل قتلها، والحد من انتشارها وشيوعها، والتشكيك في وضعها الاعتباري، والتشويش على الثقة في إمكاناتها، الخ. كيف يمكن أن نعمل على تربية المغاربة على ثقافة القانون، ونحن ننطلق دائما من نبذ القانون؟ كيف يمكن أن يحترموا القانون، ونحن نعطيكم المثل المنحرف العاصي؟ وعلى مستوى تراكم الإصلاحات والوثائق والتشريعات، من هم كتاب الأمس ومشرعوه، أليسوا ممثلين للدولة وللمواطنين وللعلماء؟ من يا ترى حرر الدستور ومن صادق عليه، ومن يا ترى حرر قانون أكاديمية محمد السادس للغة العربية ومن صادق عليه وأقره، ومن يا ترى حرر ميثاق التربية والتكوين، ومن صادق عليه وأقره؟ الخ. هذه نصوص تشريعية مرجعية بعضها لا يتجاوز عمره سنتين، وأقدمها لم يصل إلى عقد ونصف العقد. أليس إمضاء الوقت في كتابة نصوص وتوصيات جديدة إهدار للوقت والموارد، خصوصا وأننا بلينا بكتابة الوثائق والمواثيق من أجل إيداعها في سلة المهملات مباشرة بعد الاتفاق عيها؟ وأما بصدد التراكمات المعرفية والعلمية والسياسة والثقافية، بما فيها أسئلة الوظائف المختلفة للغات وكيف نلبيها، ومشكل اختيار اللغات واختيار العدد الممكن استيعابه منها، وتداخل اللغات وشروط تكاملها أو تصارعها، ومشاكل الازدواجيات والتعددات (أو الثنائيات) اللغوية، النفسية والاجتماعية والعصابية، الخ، وتاريخها وإمكانات بقائها وتطورها أو موتها، والاختيارات التخطيطية، ومقارنة الأوضاع اللغوية العالمية، ومواقع اللغات في المجرة اللغوية الكونية، وتنافسية اللغات وقوانينها، والحلول السياسية الناجعة التي قدمت أو تقدم لها في البلدان الراقية على أسس علمية وسياسية، الخ. كل ذلكمغيب في النقاش، أو يكاد. 7. عداء الخبرة اللسانية والتعليمية والمعرفة العلمية والعمل من المفارقة أن يتولى أمر نقاش أمور اللغة أناس لا يجدون حاجة إلى مساءلة علماء اللسان عن حلولهم، أو علماء التربية عن حلولهم التربوية والتعليمية، ناهيك عن علماء آخرين يحتم تداخل المعارف خاصة في ميدان اللغة اللجوء إليهم، بما فيهم المختص في اللغويات التاريخية وفلسفة اللغات والعصابيات، الخ. ولا أحد يمكن أن يرغب في حصر نقاش أمور اللغة في المختصين في علوم اللسان المتنوعة وحدهم، لكن هؤلاء لهم الأسبقية على غيرهم في مثل هذا الملف. خذ لك، مثلا، مناقشة موضوع الازدواجية اللغوية، وما فائدة اختيار العامية في السنوات الأولى من التعليم، والتخلي عن اللغة الفصيحة. فأي مشتغل على اللسانيات المجتمعية يعرف خطورة هذا الاقتراح، ويعرف أن معناه الترسيم التدريجي والمعيرة التدريجية للهجة العامية على حساب الفصيحة، من أجل وضعها في الوضع الذي وضعت فيه اللاتينية (الأم) مع اللهجات اللاتينية الرومانية، مما أدى إلى موتها التدريجي. الأمر قدم من السيد عيوش وكأنه أمر تعليمي بسيط، لا أمر اختيار سياسي خطير يؤدي إلى قتل لغة. ورغم نباهة الأستاذ العروي، وما أتى به من شروح مقارنة جميلة، إلا أنه أضفى بعض الغموض على كلامه الواضح عندما استلطف الأمر وقبل بفكرة أنه «يتفق جزئيا» مع السيد عيوش، وأن الفرق بينهما أنه هو يريد إصلاح أمر اللغة العربية بالنزول «من فوق»، بينما يريد السيد عيوش الصعود «من تحت». إن حيلة ادعاء تقارب التحليلين، التي لجأ إليها السيد عيوش، لا يمكن أن تنطلي على لساني مجتمعي عارف بأنواع الازدواجيات وسيروراتها. جوهر المشكل هو أن الازدواجيات في تحولها يمكن أن تهيمن فيها الصيغة «السفلى» (العامية)، أو الصيغة العليا (الفصيحة)، او صيغة ثالثة «وسطى» جديدة. فأيمن هذه الصيغ اتفق عليها المتناظران؟ الجواب بسيط هو أنهما في النهاية لم يتفقا على شيء، ولحسن حظ الأستاذ العروي. ثم هناك نقطة أساسية أخرى، مرتبطة بالنقاش، وهي أن الفصحى ليست أم الدوارج، في الغالب المعروف من التحاليل، بل هي صيعة تجميعية جامعةkoinè طبيعية تولدت عن الدوارج (ذات المكانة الاعتبارية)، ولم يتم إنشاؤها بقرار فوقي للدولة. وفي هذا الإطار، كان ينبغي المقارنة بالازدواجية الأمازيغية الفتية والمخبرية، حتى يعمم النقاش أولا على الحالة المغربية، خصوصا وأن عددا من الأمزوغيين زكوا الطرح العيوشي، ونسوا أو تناسوا أن حل «شفرة أوكام» البتري العيوشي، لو أخذ بجد، سيقطع دابر الأمازيغية المعيارية الناشئة، قبل غيرها. هناك نقط كثيرة حول الازدواجية ومساراتها أثيرها بدقة في كتابي الجديد عن «السياسة اللغوية في البلاد العربية»، ومن ضمنها ما سميته «الازدواجية الترابية»، والذي جعل معظم المحللين الغربيين لا يفهمون لماذا استقرت الازدواجية العربية، ولم تستقر غيرها من الازدواجيات اللغوية، الخ. تهميش الخبرة والمعرفة يتجلى كذلك في طرح المقترح بهدف تعليمي محض، المقصود منه إنجاح التعليم. وهذه قصة كان من الأولى إحضار مختصين في اللسانيات التربوية وتعليميةاللغات (أو ديداكتيك) اللغات لمناقشتها. وهنا يطالعنا بصفة أفظع ضعف مقترح السيد عيوش، لأنه لا يطرح الأمر في إطارتعليمياتي شمولي، تحضر فيه لغات متعددة فيها الفصيحة والفرنسية والمازيغية، الخ إضافة إلى العامية. إن النقاش ضرب بالخبرة والمعرفة عبر الحائط، وبهشاشة كبيرة، وضعف استدلال، وأعطى المثال السيء للمواطن، وهو أنه يمكن أن يخوض في موضوع اللغة ويقترح الحلول أي كان، دون ثقافة لسانية وتربوية محترمة. إن الزمن لم يعد زمن الاقتراحات أو القرارات الفوقية التي لا تبرر. لسنا في عهد أتاتورك، الذي فرض بالقوة توجهاته اللغوية. ولو عاش أتاتورك في تركيا اليوم لما كتبت التركية بالحرف اللاتيني. لقد بزغ في الديمقراطيات المتقدمة الحديثة دور الخبرة في تحديد مسارات النقاش، واستعيض عن الاستبداد بالنقاش السياسي والعلمي المسؤول والمفتوح. إننا بحاجة ماسة إلى الانتقال إلى التطبيق والعمل، وجعل اكتساب الخبرة المتطورة باستمرار، والعمل الدؤوب، ضمن القيم الأساسية التي تسم ديناميتنا المجتمعية. نحتاج إلى الانتقال إلى العمل الجدي والمستمر، لأن الشعارات دون عمل لا يمكن أن تذهب بنا بعيدا. 8. التلويث البيئي برز مفهوم البيئة والبيئيات اللغوية في الأدبيات اللسانية في العقود الأخيرة. وسبق لي في عدة مناسبات وكتابات أن نبهت إلى أن البيئة اللغوية المغربية تعاني من التلوث اللغوي بدرجة غير مقبولة. وهذا التلويث لا يساهم في إنجاح انتشار اللغات وتعلمها، بل هومعيق ومفسد لطبيعة تمثل اللغات التي نريد إتقانها، والاستثمار في تعلمها. إن من أولى شروط إنجاح تعلم اللغة هو وجود الحافز الكافي للتعلم، وكذلكإرادة الاستثمار في هذا التعلم، وفي نفس الوقت وجود بيئة ملائمة وودودة وطبيعية. بمعنى آخر، إن الأصل أن «الأرض بتتكلم عربي»، و»الأرض بتتكلم مازيغي»، والمؤسسات تستعمل اللسانًيْن معا في توافق وتكامل، وبالصيغ المعيارية اللائقة، وبالتنوعات الضرورية، التي لا يمكن أن نسعى إلى نبذها. وما دام الأمر كذلك، فهل يعقل أن يقضي أشخاص أصحاب مصالح أوقاتهم، مهما كان لسانهم، في إذكاء حروب لغوية تشكك في الهوية اللغوية للمغاربة، وتفقدهم الثقة في لغاتهم، أو تشوش عليهم، خدمة لأهداف مركنتيلية لا يجهلها إلا جاهل، أو استفادة من ريع لغوي يعرفه جل الناس؟ وهل يمكن أن ندفع الناس كذلك إلى فقدان الثقة في المدرسة العمومية ولغاتها، وهي التي تسعى إلى تعميم فرص التعليم والارتقاء على جميع الطبقات الاجتماعية، وتعمل على حفظ التماسك المجتمعي؟ أليس وراء الإشهار والإعلان في الفضاء العمومي بلغة هجينة غير راقية، أو في الفضائيات العمومية، إفساد للبيئة العامة التي ينبغي أن تمثل بيئة ارتقاء إضافية للمواطن، عوض النكوص أو الإحباط؟ إن إفساد اللغة إفساد للفكر وللثقافة، علاوة على إفساد التعلمات، وتعكير مردوديتها. 9. إعلام عمومي غير متحرر، متجاوز، وإقصائي إن الإعلام العمومي وفضائياته لم يرق بعد إلى طرح الإشكالات اللغوية بعيدا عن الغوغاء. وهو، أحب أم كره، ما زال غير متحرر من الفكر الفرنكوفوني الإقصائي الطاغي على مفاهيمه وسلوكاته، لكونه وضع بين أياد خفية ذات ثقافة متجاوزة، تتلقى التعليمات، ولا يتسع صدرها لمختلف الآراء والتيارات، ولا تسعى إلى ترقية المواطن. وحصل لي أن سجلت معي عدة شرائط وبرامج تلفزية، وتم حجزها، أذكر منها تسجيلات طويلة مع علي حسن، وفاطمة التواتي، وخديجة كدة، الخ. فالقنوات العمومية ترفض أن يتولى مسؤول عينته الدولة نفسها إعطاء رأيه في واقع اللغة العربية في الأفلام، أو في الإعلام، أو في الإشهار، أو غيره، وفي التعدد اللغوي في المغرب، الخ. وظننت أن العهد انتهى بعد الدستور الجديد،ولكن رقابة الداخلية ما زالت قوية على التلفزة، ولذلك لا أدري كيف تسمح القنواتالعمومية لنفسها بتناسي مشاكل اللغات أو مشاكل التعليم الآن، وتغييب آراء المختصين في العلوم المتصلة بهذه المواضيع، وتكتفي باستدعاء غوغائيين في غالب الأحيان، وكأن الأمر يتعلق بصرع الديكة! وها هي تركز بقدرة قادر على موضوع «الازدواجية اللغوية العربية»، بمتحاورين اثنين، ثبت بالملموس أن النقاش كان سيؤول إلى نتيجة أفضل لو توسع في أبعاد الإصلاح اللغوي المختلفة، وشارك فيه كبار المختصين، خدمة للتداول العمومي للموضوع، وخدمة للإصلاح المأمول في التعليم. كنا نظن أن الدستور الجديد أدخلنا في عهد الشمول والتعدد، وتركنا الإقصاء والأحادية إلى غير رجعة. لكن فضائياتنا العمومية تقطع خيالنا، وتعيدنا إلى واقع المحافظة على «الإرث-الغنيمة»، و»تأمين» الإعلام ! 10. ضعف التخطيط والتقييم والنجاعة والفاعلية ما زلنا في المغرب نتبنى سياسة «ترك الحبل على الغارب» في الشؤون اللغوية، كما في الشؤون الأخرى. فلا سياسة لغوية واضحة وصريحة، بل إن السياسة تكون خفية، كما هو معروف الآن بصدد «رسمية» الفرنسية الخفية (إن لم تكن الفرنكوفونية الضيقة). إن التخطيط الصريح لأجرأة اختياراتنا اللغوية الدستورية ما زال ينقصنا، بل إن الدستور يحول إلى وثيقة «نوايا حسنة»، سواء تعلق الأمر بالعربية، أو بالمازيغية، أو بلغات الانفتاح الأجنبية، الخ. المشكل في الحكامة الخفية أنها غير ديموقراطية وغير شرعية.ولأنها غير صريحة، ولأن المرجعيات التشريعية تعارضها، فإن نجاعتها وفاعليتها غير مضمونتين، بل إن لها عواقب سيئة على التعليم، وعلى التنمية بصفة أعم. إننا نحتاج إلى الانتقال إلى سياسة لغوية واضحة، وتخطيط محكم يحدد الخطوات والمراحل، ويتم تقييم مردوديته وفاعليته في كل مرحلة، ويتيحَ التقييم مجالا للمحاسبة وللتصويب الانتقالي، الخ.إن السياسة غير الصريحة أو الفوقية تعطلان جل آليات الديموقراطية اللغوية التي تهدف إلى إشراك كافة المواطنين في المسؤولية عن اختياراتهم اللغوية، وإمكان تغييرها بالطرق المشروعة. د. عبد القادر الفاسي الفهري، رئيس جمعية اللسانيات بالمغرب، عضو اللجنة الخاصة للتربية والتكوين سابقا