المعذبون كان قسم المستعجلات فارغا بعد الظهيرة إلا من بعض الحالات العرضية، جلست رفقة زملائي نتجاذب أطراف الحديث، نتكلم عن ذكريات خلت، وعن أحداث مضحكة، وأحلام منتظرة. لوهلة قصيرة شرد ذهني، وسرح بالي أتذكر أفواجا من الناس، تلك الأفواج التي تلتقي بها عيناي كل صباح عندما أذهب إلى المستشفى، أناس في أعينهم البؤس وفي ملامحهم حزن دفين تخفيه ابتسامة من أجل الحياة. فتيات وفتيان يستيقظون في الفجر للعمل في الحقول، للبحث عن قوت قد يأتي أو لا يأتي. شباب في عمر الزهور... ظروف قاسية.. وعود... أحلام ... وسط هذه المتاهة من الكلمات أيقظني من سرحاني صوت أحد الزملاء قال: « اليوم قد نخرج باكرا إذا بقي الحال على ما هو عليه الآن ». فردت إحدى الزميلات قائلة: «ربما يكون الهدوء الذي يسبق العاصفة ، لذا تريثوا قليلا ». وبالفعل كانت العاصفة، انفتح الباب لتدخل أفواج من رجال الوقاية المدنية، كل اثنين يقومان بدفع شخص ما أن يضعاه حتى يأتيان بآخر، وهكذا حتى بلغ العدد 10 أشخاص ما بين شاب وشابة. كانوا كلهم شبابا في عمر الزهور أعمارهم تتراوح بين20 و 26 سنة. لكن مظهرهم وتقاسيم وجوههم كانت توحي لي كأنهم عجائز في الستين أو السبعين من أعمارهم. إنهم عمال الحقول، انقلبت بهم شاحنة النقل في طريق عودتهم إلى ديارهم. الديار التي ربما يصلونها أحياء أو يعودون في كفن لا قدر الله. كانت جل إصاباتهم في الرأس، مع كسور بليغة في الأطراف. رائحة دم تزكم الأنوف، وفي المكان رائحة جلد احترق بفعل الشمس، جلد لم تعرف له مستحضرات التجميل الحديثة أي طريق. وملامح وجوه الفتيان تخبئ وسامة نادرة محاها الزمن القاسي. اضطررنا إلى حلق رؤوسهن ورؤوسهم، لأن الإصابات كانت بليغة جدا. قالت لي صديقتي: أنظر إلى شعرهن، إن أسنان المشط لم تداعبه منذ زمن طويل، قلت: ربما كان المشط يداعب خصلات شعرها عندما كانت صغيرة، عندما كانت تلعب في البيدر، عندما كانت تلاحق الدجاج، عندما كانت تبلله في الساقية لتتباهى بسواده أمام الفتيات الصغيرات أمثالها. أما الآن فقد ضاع كل شيء ... فجأة علا في قاعة العلاج صوت أُم مفجوعة على ابنتها، وكانت تصرخ قائلة : لعن الله الفقر ...أَكُلّ هذا من أجل 40 أو 50 درهما في اليوم ؟؟؟». نعم ما بين 40 أو50 درهما هو الأجر اليومي لهؤلاء الناس، بدون أي تأمين إجباري أو تغطية صحية، 40 درهما ربما تغطي مصروف اليوم أو لا تغطيه أبدا. كالورود في أعياد الميلاد، هؤلاء من جعلوا الأمل أفسح مجالا للعيش، هؤلاء هم المطرودون من زمن الأحلام .... ولن تنتهي أحزانهم هنا مهما كتبت لأن اللائحة طويلة جدا ..... الطبيب: ع . ز صراع الحياة والموت .. كانت الساعة تشير إلى الثامنة ليلا من مساء السبت .. المكان: مستعجلات المستشفى الجامعي ... ينسحب فريق النهار من أطباء و ممرضين وحراس لينضم «جنود» الليل .. بين حوادث السير .. و المشادة الكلامية غالبا ما تختم بشجار، وعراك حاد .. حوادث سرقة .. صراع بين رجال الشرطة و «شفار» من شباب المغرب .. شباب غيبت المخدرات عقولهم .. ناهيك عن المشاكل الصحية الحادة الفجائية و غيرها... يجد الطبيب نفسه مضطرا لتحديد الحالات الأكثر خطورة.. بغية تسريع الفحص والكشف.. وهو الأمر الذي لا يفهمه عادة المرضى و ذووهم .. لتسمع كلمات من قبيل: «هداك بنادم و هذا ترميوه فالزبل » .. «هداك عارفينو و هذا يموت» .. « واش هاد السبيطار فيه غي طبيب واحد» .. و ألفاظ السب و الشتم التي لم أسمع لها مثيلا من قبل.. قرب الباب .. تتداول جمل من قبيل «سير حتى تقيد و اجي».. «سير حتى تخلص و اجي» .. إجراءات إدارية ضرورية قبل رؤية الطبيب.. تنهك المريض وعائلته نفسيا و صحيا وماديا.. حتى الصحة.. من أعمدة حقوق المواطن.. يجب أن يدفع لها مقابلا في أجمل بلد في العالم.. في غرفة مجاورة.. يعاني الممرضون من كل أشكال العنف النفسي و الجسدي.. في محاولة منهم لتضميد جراحات الوطن التي تنخر عظام الفقراء والمستضعفين منه .. والمساعدة على التئامها بقطوب جراحة مؤلمة.. تأبى إلا أن تترك بصمتها و تأثيرها النفسي للأبد.. بين صراخ أحدهم هنا.. وتألم الآخر هناك.. بين حركات ذهاب و إياب.. تقتحم المستشفى ثلاث سيارات إسعاف في وقت واحد.. يزداد الضغط و تتسارع الخطوات.. يدخل المرضى ثلاثتهم إلى غرفة الإنعاش.. و يعم الصمت.. صراع الحياة والموت ذاك.. من أسوأ ما يمكنك معاينته داخل المستشفى.. يحاول الفريق بذل أقصى جهده لإنقاذ حياة الثلاثة معا.. تتسارع دقات قلوب الأطباء بتسارع دقات قلوب المرضى .. الكل على أعصابه و لا مجال للخطأ.. بعد دقائق يربح أحدهم صراعه مع الموت.. في الوقت الذي يستسلم الآخرون له.. و يفارقون الحياة .. صمت يخيم على المكان .. ودموع صامتة تذرف من أعين متعبة سئمت منظر الموت المؤلم ذاك .. «تفوو على سبيطار» يصرخ أحد الأطباء متذمرا.. بعدما فشل في إنقاذ حياة كما كان قد تعهد بذلك فيما مضى.. أما أكثر من في الفريق حكمة.. أو ربما الذي ألف قلبه منظر الموت ذاك فيتمتم قائلا .. «المكتاب» .. قبل أن ينصرف لإخبار أقرباء المتوفين.. فتتعالى الصرخات مكسرة الصمت، والهمسات والدعاء الذي خيم على المستشفى لمهلة.. حالة المستشفى ليلا.. تجعلك تتساءل فعلا.. هل الأصل في الإنسان شر أم خير؟ من فرط الكآبة و الحزن و البؤس الذي تلاحظه.. و الأنانية التي تظهر حين حلول المصائب.. تفكر جديا في الجواب من زاوية نظر واقعية إنسانية بعيدا عن الأحلام الأفلاطونية.. حالة المستشفى عموما.. كئيبة حد التعب.. غياب المعدات.. قلة عدد الأطباء.. صغر المساحة.. غياب التنظيم.. الخ. يحاول بعض الممرضين الخروج من حالة الكآبة التي يعيشونها.. تتعالى ضحكات بئيسة من إحدى القاعات.. يصرخ مرافق أحد المرضى «واش هذا سبيطار ولا مسرح» .. «وا فين هما الأطباء» .. فيسارع أحدهم ليشرح له أن الطبيب المختص الذي سيعالج المريض لن يحضر حتى الصباح.. و أن حالة المريض مستقرة حاليا.. الساعة تشير إلى الثامنة صباحا.. يغادر «جنود» الليل المستشفى بعيون شاحبة وأجساد مُرهقَة.. بعد ليلة حاول بعضهم خلالها إنقاذ حياة آخرين، معرضين حياتهم للخطر.. في الوقت الذي ترك البعض الآخر الجمل بما حمل، موليا ظهره لكل البؤس المشهود و نام بأحد أركان المستشفى.. يغادر الجميع بحثا عن الحياة.. في محاولة بحث عن توازن لحياتهم النفسية قبل استئناف الحراسة الليلية الموالية.. «م . س » طبيبة متدربة 27 ألفا و326 سريرا بمستشفيات المغرب نبهت الشبكة المغربية للدفاع عن الحق في الصحة في تقرير لها ، إلى تدهور القطاع ومستوى الخدمات به، بعد أن وقفت في تقريرها على أن مستشفيات البلاد تستنزف 70 في المئة من الميزانية المخصصة لوزارة الصحة التي لا تتعدى 5 في المائة، دون تقديم خدمات نوعية في المقابل، مشيرة إلى أنه تظل مساهمة الأسر في تغطية النفقات الصحية تناهز نسبة 54 في المئة. تقرير الشبكة أكد أن المغرب لا يتوفر سوى على 141 مستشفى عموميا لا تتعدى طاقتها الاستيعابية 27 ألفا و326 سريرا، مشددا على أن النقص المسجل في البنيات التحتية وانخفاض عدد المستشفيات مقارنة مع الحاجيات المتزايدة للمواطنين، يساهم في تدني مستوى المردودية، إذ تؤمن المستشفيات العمومية سريرا واحدا فقط لكل ألف نسمة، وهو ما يعتبر بعيدا عن المعايير الدولية المعتمدة..