ما هي القضية الأدبية التي يمكن اعتبارها القضية المركزية للدخول الثقافي والفكري والأدبي بالمغرب؟. وما هو الكتاب الحدث (رواية، شعرا، فلسفة، علم اجتماع) الذي يمكن اعتباره كتاب الموسم، المميز للدخول الثقافي الجديد مغربيا؟. للأسف، لاشئ. فقط الفراغ المطلق. هل لأن النخبة المغربية المبدعة صامت عن الكتابة والنشر؟. الواقع أن الأمر أكثر تعقيدا، لأن الإصدارات متحققة بهذا الشكل أو ذاك، بهذا الجهد الفردي للكتاب والمبدعين (وعلى حساب مسؤولياتهم الحياتية الإجتماعية) أو ذاك. لكنها تبقى إصدارات فقيرة مظلومة في حقها التواصلي، وليست هناك آلية تداولية تحول تلك المنتجات إلى سلعة محققة للإغراء، جالبة للإهتمام. نعم محققة للإغراء، لأنه لم نستوعب بعد، أن طبيعة المجتمعات المدينية الحديثة، مختلفة عن طبيعة المجتمعات التقليدية البسيطة، وأنها تفرض إلزاما خلق آلية تواصلية تنبه وتخبر وتغري المستهلك بالمنتوج الفكري والأدبي.. مثلا، هل سبق ورأينا إشهارا تلفزيا واحدا عن كتاب أو ديوان أو رواية أو مسرحية في المغرب؟. الجواب تعرفونه. وهذا إنما يترجم غياب رؤية متكاملة لمعنى صناعة الإنتاج الثقافي مغربيا. إن من مسؤوليات الحكومة (كوحدة تدبيرية متكاملة الأدرع والمسؤوليات والإمكانيات)، أن لا توفر فقط الأمن والغداء، بل أساسا أن تجعل المغربي متصالحا مع ذاته فكريا وثقافيا، منتميا لزمنه العالمي. وهذا لا يمكن أن يتحقق بدون رؤية استراتيجية شمولية للشأن الثقافي. ولعل من مسؤولية وزارة مثل وزارة الثقافة، هي أن تكون ناظمة مشاريع، وقائدة أوركسترا، تنبش عن كل الأطراف المتعالقة مع الإنتاج الثقافي والفكري والأدبي والفني المغربي، وأن تزواج بين الإمكانيات هنا وهناك (سواء في القطاع العام أو في القطاع الخاص. سواء داخل المغرب أو بالعلاقة مع ممكنات التعاون الدولية)، من أجل سلاسة في العزف المنتج لسلاسة المشهد الثقافي المغربي. وهذا لن يتحقق أكيد، بدون القناعة أن الشأن الثقافي صناعة بكل معاني الصناعة ضمن بنية منطق السوق في المجتمعات الديمقراطية المدينية الحديثة. بدون ذلك، سيبقى اليباب الذي نعايشه مغربيا على المستوى الثقافي والفكري ساريا متواصلا. ولعل أخطر ما يمكن أن يسمعه المرء من جواب في باب مماثل هو ذلك الجواب الذي قد يقول: «بقيت لنا فقط الثقافة. نحن نواجه مشكلات عويصة للموازنة المالية والإقتصادية في البلد وأنت تتحدث عن الثقافة».. مثل هذا الكلام خطير جدا، حتى لا يقول المرء، إنه جواب كسول وبليد، لأن الثقافة هي أداة التنمية الحاسمة لبناء الروح، وهي رأسمال لا يقدر بثمن. ولمن يريد الدليل، لن نحيله على الترسانة الهائلة المعتمدة في واشنطن ولندن وروما وباريس ومدريد وبرلين وأنقرة وطوكيو، بل سنحيله فقط على القاهرة. نعم القاهرة. إن الثروة الكبرى لمصر خلال السبعين سنة الماضية، لم تكن بترولا ولا غازا (مثل أغلب بلدان الخليج والسودان وليبيا والجزائر) ولا سلاحا نوويا (مثل إسرائيل وباكستان)، بل كانت قوتها كامنة في منتوجها الثقافي والفني والإعلامي، الذي جعل مصر تصبح مرجعا يصنع المعاني عند كل ناطق بلغة الضاد. بل أكثر من ذلك، لقد حولت اللهجة المصرية المحلية إلى ما يشبه اللغة العربية الرسمية الموحدة عمليا اليوم للعرب تواصليا. وهذا انتصار باهر. لقد انتصرت أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وعبد الحليم حافظ والشيخ إمام وسيد درويش وعبد الرحمان الأبنودي وأحمد فؤاد نجم وأمل دنقل ونجيب سرور وعادل إمام وطه حسين ومحمود عباس العقاد ومحمد منذور وصلاح أبوسيف ويوسف شاهين ويوسف وهبي ..... إلخ، على كل ثروات البترول والغاز، لأنها ببساطة كانت تخلق معنى حياة فكريا وروحيا ووجدانيا وسلوكيا. وفي الصراع بين المعاني السياسية، زمن الحرب الباردة، بين قاهرة جمال عبدالناصر وخليج آل سعود، انتصرت القاهرة بإنتاجها للمعاني عبر الثقافة على كل ترسانة الرأسمال الذي وفره البترول والغاز. مغربيا، آن الأوان أن ننتبه أن الكثير من النزول في روح الإنتماء ل «تامغربيت» آت من غياب سياسة عمومية استراتيجية للشأن الثقافي. والفقر الضاج في هذا الموسم مثل مواسم سابقة، يعود إلى غياب صناعة ثقافية متكاملة الأضلع، وأن الجفاف الذي بدأ يطل على الأرض ببلادنا بعد أن غاب المطر طيلة شهري شتنبر وأكتوبر، ليس شيئا أمام الجفاف الروحي الذي يتسبب فيه اليباب الثقافي الضاج مع كل بداية «دخول ثقافي وفكري وأدبي مغربي».