سعيد عاهد صوت ثقافي غني و عميق؛ و قلم رصين و متعدد، يتميز بحضور فعال داخل المشهد الإبداعي المغربي. و من غير شك أن هذا الحضور ينوسم بانسياب سلس؛ و ترحال مدهش في ممارسة لذة الكتابة بكل ألق و توهج، شعرا، و نثرا و ترجمة. و لربما سيدرك قراءه، كما متتبعو أعماله، خاصة خلال السنوات الأخيرة انعطاف كتاباته، و نزوعها صوب منحى بعينه آثر أن ينعته ب «المحكيات». المحكيات من حكى يحكي حكاية فهو حاك. و حكى الأمر رواه، و قصه برواية أو حديث. و بهذا المعنى تضحى المحكيات رواية لأخبار ولت؛ و قصا لما حدث وولى من أخبار السلف و الماضي ... وكهذا الحكي هو ما يسعنا قراءته في العملين المتواليين لسعيد عاهد : «قصة حب دكالية» ثم «الفتان» موضوع نظرنا في هذا العمل.(2) ليست المرويات حكيا للإمتاع و المؤانسة كما قد يتبادر إلى العقلية المهادنة و القنوعة؛ بحسبان أنها (=المرويات) مفتاح من المفاتيح الأساسية التي تفيدنا في الاقتراب أكثر من التضاريس العميقة للمجتمعات؛ ومن تفهم بنياتها الذهنية إلى جانب التحليل الطبقي، و تفكيك تمظهرات السلطة و تجلياتها المختلفة (=بالمعنى الفيبيري). فالشعوب تتستر خلف مروباتها، و تثوي داخل محكياتها الشفوية و المكتوبة على السواء (3). و تأسيسا على هذا يغدو القص المتواتر واليوتوبيات، والاستيهامات (...) حمالة لأفكار ، ولتضمينات متنوعة ، ولترسانة رمزية كثيفة ، ولأشكال تعبيرية مختلفة يقطن فيها الوجود الإنساني، من ثمة يستوجب الأمر استثارتها من خلال تقليب طبقاتها الدلالية العميقة بما هي مسرد يفيض بتصورات حول التاريخ، والمجتمع، والمصير، والشخوص وإن بطرق ملتوية، وغير صريحة في كثير من الأحايين. واعتبارا لذلك نسأل : من هي الشخصية التي حكي عنها بين ثنايا هذا العمل ؟ عن هذا السؤال يجيب سعيد عاهد قائلا : »يجدر التنبيه إلى أن هذا الكتاب ليس بحثا تاريخيا أكاديميا، بل هو عبارة عن انتقاء وتجميع وترجمة لمقالات وكتابات أجنبية معاصرة ل »بوحمارة« تحكي عنه من وجهة نظر أصحابها، وتصف لحظات فتنته.« (4) ومع أنه كتب الكثير عن بوحمارة فإن قصة هذا الرجل تظل مثار فضول معرفي، ومن ذلك أن الحافظة الشعبية المغربية طفقت تستحضره كرديف للفوضى، والاضطراب، والفتنة والفساد. إن العوام متى شاهدوا فعلا شاذا في الشارع يقولون: »كاين بوحمارة في الزنقة« ، وبعضهم متى لمح سلوكا مخلا بالآداب العامة علق بهذه العبارة :» هاذي شوهة ديال بوحمارة «، أو » غادين يطوفوه فحال بوحمارة« (قصة الضب في فاس مثلا ) ، حتى الشخص المغربي، عندما تلحقه إهانة معينة، أو إذلال ما، قد ينتفض في وجه محتقره مستنكرا بهذه الصيغة اللغوية: »واش أنا قاتل ليك بوحمارة !! «. كان هذا بعض مما طفق متداولا من لدن العامة حول بوحمارة، فمن يكون هذا الأخير ؟ وقبل هذا وذاك، ما هو المساق الذي تشكلت ضمنه، وفي خضمه هذه الشخصية، حتى طفت على السطح الأحداث ؟ -(1)- تخضع الظواهر الإنسانية لديناميات داخلية وخارجية تتداخل فيما بينها وتتشابك؛ لذلك تضمن مؤلف »الفتان « مقتطفات عديدة من كتابات مهمة، كما لتقارير، ونشرات استخباراتية دقيقة، ومفصلة لأجانب تناولوا بين طياتها قتامة الوضع الداخلي في مغرب تلك الفترة جراء القلاقل ، والاضطرابات التي يمكن ردها إلى : -*- تداعيات احتلال الجزائر سنة 1830؛ ومستتبعات هزيمة المغرب في منازلة ايسلي في 1844، ومترتبات اتفاقية لالامغنية، ونتائج حرب تطوان في 1859-1860، ثم البدايات الأولى للدراسات النسقية حول المغرب ، بين سنتي 1904 و 1905، ذات الأهداف الاستعلاماتية والغايات الكولونيالية. -*- وفاة الوصي والصدر الأعظم باحماد صاحب » السياسة القبلية«. -*- اصطراع القوى العظمى لتلك الآونة ( = فرنسا وألمانيا وانجلترا) حول احتلال المغرب ، وهو اصطراع أفضى في نهاية المطاف إلى عقد مؤتمر الجزيرة الخضراء سنة 1906. -*- تفاقم ظاهرة الحمايات الأجنبية (=أهل البصبور). -*- ضعف المخزن المركزي بفعل التناحر الداخلي في مجموع الإيالة الشريفة الشيء الذي أسهم في إذكاء مطامع ومطامح زعامات محلية قوية مثل أحمد الريسوني في الشمال ( ص: 89-90)، وبوعمامة البوشيخي في الشرق. إلا أن أخطرها كانت حركة الروكي بوحمارة في تازة وأحوازها. -(2)- بوحمارة هو » الجيلالي بن إدريس الزرهوني اليوسفي، يبلغ من العمر حوالي أربعين سنة ، وينحدر من قرية أولاد يوسف في منطقة زرهون . سبق له أن درس في سلك الطلبة المهندسين، وصار بعد ذلك كاتبا لمولاي عمر ، أخ السلطان ....« (ص:42). ومن المعلوم أن الألقاب الكثيرة التي نعت بها فلازمته كالدعي، والفتان، والروكي، والقائم، ومول الساعة، والمارق، والمنتفض، وبوكاتشيف (5) هي كلها لذات الشخص : الجيلالي الزرهوني الذي عمل على : -*- اهتبال ظروف الارتباك ، والاضطراب بفعل السيبة مما يسر له التسكع في الأسواق المحيطة بوازان للاستخبار عن أحوال المخزن؛ وجس نبضه بالعاصمة فاس من جهة، وتوقا لتنفيذ مشروعه الرامي إلى بناء مشروعية جديدة من جهة ثانية. -*- انتحاله المغرض لاسم مولاي محمد، صنو السلطان عبد العزيز، في أفق شرعنة مطالبته بالعرش بكل الوسائل المادية والرمزية (ص: 79). -*- اعتباره السلطان عبد العزيز خارجا عن الدين، والتقاليد المغربية الأصيلة بالنظر إلى علاقاته الحميمية مع الروميين، وتجاهله لرعاياه (ص : 34-35). تلك كانت بعض المعالم الأساسية لشخصية الروكي بوحمارة الملغزة بكل المقاييس. هذه الشخصية التي دشنت بدايتها دعية فآلت إلى نهاية «شكسبيرية» بدء من 22 غشت 1909، وهو يوم اعتقالها من قبل المحلة الحفيظية، إلى غاية يوم الخميس 09 شتنبر 1909، وهو تاريخ إعدامها بفاس وإحراق جثتها »حتى يكف شبح صاحبها عن قض مضجعه (= السلطان عبد الحفيظ)، وحتى لا يستمر في منازعته حول عرش الإيالة الشريفة، بعد أن خاصم سلفه في الحكم مولاي عبد العزيز هو الآخر« (ص : 4) لتنتهي بذلك حكاية تمرد فلاحي une révolte paysanne تاركة للمؤرخين الحق في بناء السؤالات الممكنة قصد المزيد من البحث والاستقصاء ، وللقراء تثمين فضيلتي الاجتهاد والصبر اللذين تجشمهما مُوقع الكتاب المبدع الخلوق والهادئ سعيد عاهد % . * باحث بالمركز العلمي العربي للدراسات و الأبحاث الإنسانية - (الرباط)- - هوامش : 1) عاهد (سعيد) : 2013، الفتان، محكيات من سيرة الروكي بوحمارة لصحفيين وكتاب غربيين معاصرين له، مطبعة دار النشر المغربية، الطبعة الأولى ، الدارالبيضاء ، المغرب ، 207 صفحة. 2) عاهد (سعيد) : 2007، قصة حب دكالية، محكيات ، منشورات اتحاد كتاب المغرب ، الطبعة الاولى ، 77 صفحة. 3) سعيد (إدوارد) 1997، الثقافة والأمبريالية، نقله إلى العربية وقدم له : كمال أبوديب ، دار الآداب الطبعة الأولى ، بيروت ، لبنان ، ص : 58. cf : Balandier (Georges) : 1957, Afrique ambiguë, Plon, Presses Pocket, Paris , pp :28-29. 4) عاهد (سعيد) : 2013، ص : 5. 5) عياش (جرمان) : (د.ت) : أصول حرب الريف ، ترجمة محمد الأمين البزاز وعبد العزيز التمسماني خلوق، الشركة المغربية المتحدة، الرباط، المغرب ، ص : 129.