كلُّ منْ زار عاصمة دُكّالة، إلاّ وسأله الأصْدقاء بعد العودة: «واشْ شفْتي عبْد الله؟» إنّه محطّة رئيسيّة هناكَ لسياسيّين وإعْلاميين وأدباء. هناك أنْجبته المدينة منْ رَحِمِ شواطئها وكَرَمها وحسْن ضيافتها. لا بدّ من لقاء الرّجل، ولا ندم... ابنُ الحاجّة التي في البال ذكْريات وذاكرة والْتزام وأصالة ومعاصرة... وقفَ وهو حديث السنّ أمام الأمْواج، وهو مسْكون بهواجس الأسْئلة، أسئلة الكيْنونة التي بدأت تكبُر، ويكبُر معها إلى أنْ تجاوزتْ قامته مترا، وعقله مشحون بالصّدق والالتزام: قالتْ له الحاجّة: نريدكَ دكتورا، وامتلأتْ عيناه بدموع: سأتمتّع، سأتألّم، سأصير رجلا يتعقّب الجمالَ في الأعمال. كان هذا في زمن كانت فيه الأحلامُ مستحيلة، وبقي طفْلا هادئا يتسكّع ويلهو بين الدروب الملتوية بمدينة الجديدة الغالية: إنه الصّديق عبد الله بلعبّاس الذي انْساق منذ بداية البدايات مع تيّار النضال الهادئ، وما يزال فخورا بكوْنه من مناصري التغيير الهادئ... أدْرك بقناعة واقتناع أنْ لا حزب غير حزب «الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية» يرضي طموحه وآماله... ألمْ أقلْ منذ البدْء إنه مسكون بهواجس الصّراعات الإيديولوجية. نعمْ، اختار حزب المهدي وعمر وعبد الرحيم، وما زال مُخلصا ووفيّا. لقد وصل إلى مستويات الوعي الحاصل لهذا الأمر... وهو فخور... إنه أصيب بشوْكة النّضال لتتحوّل الشوكة إلى ورْدة، أو بتعبير دقيق: «أنا ماشي من هادوكْ اللّي ما يقطْفوشْ الوَرْدة غيرْ لا كانْ ما فيها شوُكْ». يتخطّى الصعاب وهو مؤمن بالذاتية والموضوعية، بالمسْؤولية وبالمروءة... بالهزْل والجدّ وبأدْنى الشروط الموضوعية للحياة الإنسانية الكريمة... صحيح بأنَّ حكايته مع الممارسة السياسية تظهر وتختفي ، كما هو شأن ثعلب محمد زفزاف، وصحيح أيضا أنه ما تحدّث قطّ أمامنا عن اعتقاله لأنه بكلّ بساطة يعتبره واجبا كواجب النضال النبيل... أما الإنْصاف أو التعْويض، فلا تسلْه أرجوك! أمْر لا يهمّه والحالة هذه. إن صديقنا لا ينظر إلى الوراء، ولا تستهويه الحكايات الإنسانية التي تصف الأمجاد والبطولات، الأحلامُ شيء والأوْهام شيء آخر... تساؤلاته في الحديث المُسْترسل مشروعة ومرجعياته متعدّدة، ومقارباته للواقع والأشْياء دقيقة... يحبّ الفلسفة ويعيشُ السّياسة، ويلامسُ فيهما نصفَ الكأس المملوءة، ويترك النصف الفارغة لمحترفي الأساليب السّوْداوية والثرْثرة الزّائدة... وحين يداهمُه الحزن يبحث عن بهْجة في رواية، أو أُلْفة في ديوان شعريّ لمحمود درويش الذي قال :» البحرُ غربتنا ودهشتنا». ينعزل عبد الله وحده أحيانا أمام الأمواج العاتية، ويتذكّر أيام الطفولة وأيام النضال في سنوات إلقاء القبْض خلال جنون الليْل، وينظرُ إلى نفسه بنوْع من الزّهوّ لأنه عاشَ التفاصيل بلْ كانَ جزْءا منها... إنه أيضا فنّان بحسّ فنّيّ يرسم اللوحات ويسطّر البورْتريهات لفنانين وأدباء... ما أجمل بعضها! معارفه متعدّدة كتعدّد مواهبه واهتماماته، ودائما بقي الرّجل ودودا هادئا وما بدّل تبديلا. وإنْ نسيت لا أنْسى حبّه وعشْقه لرياضة كرة القدم، هذا الحبّ لا يوازيه إلاّ حبّ فريق الدفاع الجديدي الذي تابعه، ويعرف كلّ شاذة وفادّة من الشياظمي إلى الرياحي، وهذه شهادة أدْلى بها مؤخّرا اللاعب صاحب الإصابة التاريخية أحمد بابا في مجمع بالجديدة وسط العارفين بخبايا الأمور. بلْ أكثر من هذا، كان عبد الله سيقودُ بنجاح طريقه في اللعبة لوْلا أنّ السياسة راودته عن نفسه، ودخلها عاشقا مُغرما متأكّدا بأنه لنْ يعْرف بعد رحيل العمْر بأنّه كان يُطاردُ خيْطَ دخان... اللقاء كان بمثابة عرس أدبي حضرته أسماء صحفية من مختلف المنابر الاعلامية وطنيا وجهويا وأطره الأستاذ عصمة عبد العالي والذي كعادته أسهب في التقديم والقراءة بحيث نقل الحضور الى العوالم الخفية المتسترة بين السطور قبل أن يأخذ الكلمة الكاتب سعيد عاهد الذي لم يكتف بتقديم ملخص للمنتوج الأدبي التأريخي بل غاص في أدق التفاصيل وبين الحين والآخر يقوم بإحالة الحضور على ما رافق اعداده لهذا المؤلف الذي سيغني بلا شك المكتبة العربية . كتاب «الفتان» صادر عن منشورات الإتحاد الإشتراكي وهو يقع في 207 صفحة من الحجم المتوسط وهو كتاب عن محكيات من سيرة الروكي بوحمارة للصحفيين و كتاب غربيين معاصرين له. الكاتب سعيد عاهد وفي خلاصة حديثه عن مؤلفه أضاف قائلا: مع مطلع يوم الخميس 9 شتنبر 1909 الموافق للثالث و العشرين من شهر شعبان من عام 1327 ، تم إعدام الجلالي بن عبد السلام اليوسفي الزرهوني ، المشهور في مغرب مطلع القرن العشرين بكنية «بوحمارة « و بلقب «الروكي». اضطر يومها السلطان مولاي عبد الحفيظ إلى إصدار أوامره المطاعة بإعدام «الفتان» رميا بالرصاص في مشور بلاطه العامر بفاس ، و هي التعليمات التي نفدتها على التو مجموعة من العبيد . لم يكن حينها أمام السلطان خيار أخر غير ألأمر باستعمال البنادق ، خاصة بعد رفض الأسود التي تم إيداع بوحمارة في قفصها المعروض في ساحة البلاط الشريف ، التهام هدا الأخير و إزهاق روحه ن مكتفية بمداق لحم و شحم أحد دراعيه فقط و لأن بوحمارة كان شخصية ملغزة ، تعددت الروايات بالنسبة للطلقات النارية التي خلصت المخزن نهائيا من وجع الرأس الذي سببه الفتان طيلة سبع سنوات هكذا ، تقول رواية مغايرة ،فالذي كلف بطي صفحة «القائم» نهائيا كان شخصية سامية في دواليب الدولة الحفيضية. وحسب هده الرواية الثانية زج بالجيلالي بن عبد السلام الزرهوني ، الذي كان معروفا كدلك بامتلاك قدرات سحرية في قفص أسد بحديقة الوحوش بالبلاط ، و هي الحديقة التي كانت تضم ما سبق و جلبه الوزير المهدي المنبهي إلى مولاي عبد العزيز من بريطانيا من أسود و فهود و نمور . لم يفترس الأسد ضيف قفصه ، و اكتفى بتوجيه ضربة يتيمة إلى أحد كتفيه بإحدى قوائمه . و مع إصرار الأسد على عدم افتراس الثائر ، صاح مولاي عبد الحفيظ في جلسائه لأن الرجل ساحر بالفعل ، ليأمر في اللحظة ذاتها القائد مبارك السوسي بتصفيته بمسدسه بمجرد إخراجه من قفص الوحش . و هو ما حدث بالفعل ، إذ وجه القائد فوهة سلاحه ، الذي كان من نوع موزير ، إلى رأس الفتان و أنهى « أسطورته « بعد تطاير دماء جمجمته المهشمة . و تضيف ذات الرواية بأن قرار الإعدام كان قد اتخذ ليلة تنفيذه ، خلال اجتماع سري ترأسه السلطان و حضره عدد من القواد المتمتعين بثقة مولاي عبد الحفيظ. وسواء صدقت الرواية الأولى أو الثانية فالمؤكد أن «القائم» ظل حبيس قفص في فاس ، و أنه عرض على الملإ طيلة أيام حتى يتأكد الجميع بأنه ليس مولاي امحمد الذي سبق لبوحمارة المطالبة بالعرش باسمه بل إن مولاي عبد الحفيظ . حسب كل الروايات . سيأمر بإحراق الجثة لتستحيل رمادا بعد صب الغاز عليها ، حتى يكف شبح صاحبها عن قض مضجعه، وحتى لا يستمر في منازعته حول عرش الإيالة الشريفة، بعد أن خاصم سلفه في الحكم مولاي عبد العزيز هو الأخر. و سواء أعدم الجيلالي بن عبد السلام اليوسفي الزرهوني برصاص بنادق عبيد مولاي عبد الحفيظ أو برصاص من مسدس القائد مبارك السوسي أياما معدودة قبيل حلول خريف عام 1909، فإنه انتفض في البدء ضد مولاي عبد العزيز و أعلن الثورة ضد المخزن العزيزي في خريف 1902، زاعما عند انطلاق الشرارات الأولى ل «فتنته» بأنه مولاي امحمد صنو السلطان، و الابن الأكبر للحسن الأول المتفي في 1894 وأن الحاجب القوي باحماد هو من نحاه عن العرش لفائدة أخيه الأصغر، وأن له الأحقية شرعيا في خلافة والده خاصة بعد تأكد «شخصيا « من موالاة مولاي عبد العزيز للكفار والنصارى، و من إرادته استيراد عاداتهم و طبائعهم و سلوكاتهم و أنساق حكمهم إلى المغرب. وبينما كانت جموع المغاربة تتابع أصداء أصداء ما يقوم به الروكي عبر الروايات الشفوية ، أو عبر ما يردده « البراحون « أو ما يتسلل إلى علمهم من مضمون الإرساليات المخزنية حول «فتنة بوحمارة» اكتشف الرأي العام الأوروبي وجود الرجل ، و علم ببعض أخباره عن طريق الجرائد الإسبانية و البريطانية و الألمانية و الفرنسية ، ثم اهتم بالتفاصيل المحيطة بسيرته و مساره و مطالبه بشغف عبر ما نشرته الصحافة و المجلات الأوروبية ، رغم ما اكتنف مقالاتها من تضارب و تناقضات ، شغف لم يكن يعادله سوى حجم أطماع حكومات القارة العتيقة الرامية إلى احتلال المغرب . وردت الإشارات الأولى إلى شق بوحمارة عصا طاعة السلطان مولاي عبد العزيز بقوة الحديد و النار في الصحافة الأوربية ابتداء من نونبر 1902 ، لتستمر متبعة مغامراته إعلاميا إلى حين إعدامه ، مثلما خصص له العديد من الكتاب الغربيين المعاصرين له ، الذين ألفوا كتبا حول المغرب ، صفحات أو فصولا كاملة ضمن مؤلفاتهم. و يجدر التنبيه إلى أن هدا الكتاب ليس بحثا تاريخيا أكاديميا ، بل هو عبارة عن انتقاء و تجميع و ترجمة لمقالات و كتابات أجنبية معاصرة ل «بوحمارة « تحكي عنه من وجهة نظر أصحابها ، و تصف لحظات فتنته مع إضافة إضاءات مغربية حول «الفتان» و ملحق خاص بالصور و الرسوم التشخيصية للفاعلين و للأحداث.