يعتبر الكثيرون ممن حاورناهم حول الظاهرة ، أن دفن أموات المسلمين على مقربة من الشارع العام بفاس تقليعة جديدة ترسخت لدى بعض الساكنة المتوسطة الدخل والتعليم والمعرفة ، ونمت في مناطق محددة خاصة ما يصطلح عليه بأحزمة البؤس ، وذلك على خلفية معتقد تكريم الميت بعد دفنه وإيلائه الدرجة الرفيعة بعد انتقاله إلى الدار الآخرة ، تخريجة «الدفن العالي » بفاس موضة جديدة تنضاف إلى قائمة الأساطير والمعتقدات التي نمت في الآونة الأخيرة وتغذت على إيقاع الأزمة التي يعيشها المواطن المغربي في ظل ارتفاع الأسعار وانخفاض القدرة الشرائية . شرعنة السيبة .. السرعة القصوى فبعد الانتهاء من مسطرة التمليك الفعلي خارج القانون لمساحات عريضة من الشارع العام حيث لم يعد الجدل دائرا حولها ، سواء من قبل المقاهي التي اغتصبت ممرات الراجلين وتمددت دون وجه حق أربع مرات حجمها الحقيقي بعد أن مهد تغاضي السلطات عن شرعنة السيبة وتبويء احتلال الملك العمومي من قبل الفراشة وسطو المقاهي على أكبر أجزائه، مرتبة البطولة . و فيما أجهزت الحدائق المربوطة والمعلقة التي ابتكرها بعض ساكنة الاحياء للسطو على مئات الأمتار المربعة من المساحات المجاورة لمحلات سكناهم، وذلك تحت مبررات مختلفة ، انتقلت آلية السطو واحتلال كل ماهو في ملك العموم إلى سرعتها القصوى من ما هو عمومي «دنيوي» إلى ماهو خصوصي «الدار الآخرة» ! قبور بيضاء تتسلق الإسفلت يشاهد الزائر لمنطقة المرينيين ، خصوصا المنطقة المحاذية لأكبر فندق مصنف بالجهة، من جهة الشمال في اتجاه المدينة العتيقة، مقبرتين لدفن أموات المسلمين ، اللافت للانتباه أنها مقابر تعاني إهمالا فاق كل التصورات على جميع المستويات، فبعد أن أضحت مرتعا للمتسكعين والمتسولين ، تحولت إلى مطرح لتكديس النفايات الصلبة وملفوظات البناء العشوائي فضلا عن نمو الأعشاب الطفيلية .. ذلك أن بعض القبور البيضاء الحديثة العهد بالمقبرة تسلقت المنحدر في تحد فوضوي صارخ تاركة الفراغ أسفل المقبرة حتى كادت تلامس الشارع الرئيسي المعبد الذي يربط المدينة العتيقة بمنطقة المرينيين ! يحدث الدفن غير بعيد عن الشارع من غير حسيب أو رقيب ، فمن المسؤول ياترى عن هذه الفوضى في الدفن ؟ ولماذا لم يفكر القائمون على الشأن الديني بمنع الدفن على جانب الطرقات؟ إن إقامة سور كبير على غرار سور مقبرة باب الفتوح لحماية مقابر المسلمين من عبث العابثين وضمان الحد الأدنى من الكرامة لميت قد كانت حياته غير كريمة في ظل الارتباك الاجتماعي والسوسيوثقافي السائد، بات أمرا لا يقبل التسويف ولا المماطلة ! ألم يكن من المفروض أن تتدخل الجهات الوصية على أموات المسلمين لتحدد مستويات الدفن وأبعادها التي تراعي حرمة الميت وكرامة الحي حتى لا تترك العملية لبعض التفسيرات الخرافية التي لا وجود لها سوى في أذهان المرضى والجهلة . لقد بات على الجهات الوصية الآن ، قبل أي وقت مضى، ألا تكتفي بتقديم تصريح رسمي لدفن مؤدى عنه يكتوي أهل الميت بثمنه الباهظ، بل عليها أن تنتقل إلى الصرامة والمتابعة ومحاسبة كل من أساء التقديرات وتجاوز الأعراف! مبررات «القبر العالي» لدى استفسارنا عن أسباب تفضيل بعض الأسر دفن أمواتها عاليا بدل المساحات المخصصة في الأسفل من المقبرة، كانت الأجوبة غير مقنعة بالمرة ، منهم من قال إنه وفر للميت «شرفة عالية، وهذا أقصى ما يمكن فعله في سبيل راحته الأبدية »! ومنهم من أكد أن المرحوم كان منحدرا في حياته ولم ينعم ولو ...فلم نستبخسه شرفة عالية في مماته؟» ...اللافت للانتباه كذلك أن سيدة مسنة روت ب«إسناد» من «فقيه» دوار القرية التي هجرتها حديثا، مفاده « أن الجسد العالي ومن خلاله الروح العالية أول من تطاله الرحمة لأنه الأقرب إلى الله...» لكن مواطنا أفاد بأن ملكية الأرض محل الدفن قد تكون في ملكية محسنين تبرعوا بها وهي ممتدة وقد تعانق الضفة الأخرى . ما يفيد أن الشارع الرئيسي هو من احتل المقبرة وأن السنوات القادمة ستشهد موته بدوره ! لكن أحدهم كان مقنعا في إجابته ، حيث عزا الدفن في الأعالي تفاديا لانجراف التربة، مضيفا أن هناك من يموت في أعماق البحار وفي أعالي السماوات، فرحمة الله وسعت كل شيء في السماوات والأرض! قريبا من التدبير وبعيدا عن التفسيرات والتمثلات التي قد تقنع ولا تقنع ، وبالنظر إلى المستقبل حيث من المتوقع جدا أن تعرف الطريق توسيعات تستجيب لضرورات المرحلة لفك الضغط عن المحاور والمسالك الاخرى ، فإننا نجد أن من الطبيعي أن يتحمل الأوصياء على الشأن المجتمعي الديني منه على وجه الخصوص بفاس العالمة، كامل المسؤولية في إيلاء الاحترام اللازم لموتى المسلمين من تنظيم وضبط أموات المسلمين . وهو الحد الأدنى لكرامة بعض من افتقد الكرامة الإنسانية حيا وميتا .. حينما استرعى انتباهي بذات المقبرة مشهد عائلة ميت وهم يفاوضون حول المكان الذي يريدون فيه دفن هالكهم ، وكنت اقتنعت لفترة أن الأمر مجرد رد فعل ، لكن عندما تحريت الأمر عن كثب تأكد لي أن المسالة لا تختلف في جوهرها بين ما يحصل هناك في شوارع فاس وحاراتها من مساومات من قبل عناصر محسوبة على السلطات حول احتلال أي ملك عام وخلصت لحظتها إلى ان ما سيدفعه أهل الميت فوق الحساب يحدد «المكان الأعلى والدرجة الرفيعة»! لا يمكن للمرء إلا أن يقف مصدوما أمام هذا الجهل المركب وأمام هذا الصمت المطبق للسلطات أيا كان التبرير الذي تقدمه ، إن «الأحياء الأموات » يصابون بالارتباك ويعتبرون الأمر مسلم دينيا ما يدفعهم الى التفاوض حول المكان الأشد ارتفاعا فيما «الأموات الأحياء» يتألمون في موتهم ، كما تألموا في حياتهم ، هذا هو حال مقابرنا، هذا هو حال موتانا ، وهذا حال إداراتنا التي لم تستوعب إلى حدود اليوم، كيفية تدبير مقابر المسلمين من حيث وضع تصور محكم ومتكامل يدخل في إعداد الفضاء وتأثيث مجاله!