ماعدا الأهرامات، قليلةٌ هي الأشياء التي لا تهتز في مصر هذه الأيام .. وقد لا يستطيع أحدٌ حتى أن يقسِم للتأكيد على هدوء النيل .. وحدها »معاهدة السلام« المصرية - الإسرائيلية، كمؤسسة موروثة من عهد أنور السادات (1928 - 1981)، تُفلِت من الثورة الجارية في مصر الآن .. فبعد إبرامها في مارس 1997 بواشنطن، بقيت ثابتة ولم يستطع أحد طرحها للمناقشة، حتى الإخوان المسلمون خلال الشهور التي قضوها في السلطة.. لقد استطاعت وثيقة السلام هذه تغيير وجه الشرق الأوسط ووضعت نهاية لحالة الحرب بين إسرائيل ومصر، البلد الأكثر سكانا والقوة العسكرية الأولى في العالم العربي .. فهي بمثابة وثيقة تأمين ضد تكرار الإشتعالات الكبيرة التي كانت تضع إسرائيل في مواجهة مع الدول العربية المجاورة .. إن الإرث جسيم ومحَط نقاش وأخذ ورد، مثل صاحبه، أنور السادات، الذي خَصَص له «روبير صولي» كتابا تحت عنوان «السادات»( عن منشورات «بيران»- غشت 2013 ) يحكي فيه سيرة حياة رئيس اعتبره خارج المعايير: فهو الذي » حارب من أجل السلام « وتبوأ - فيما يشبه الصُدفة- قمة السلطة على هرم الدولة في شتنبر 1970 ، بعد ما كان مكلفا بمهام رسمية متواضعة كنائب رئيس؛ وذلك إثر أزمة قلبية أودت» بمؤسس الجمهورية المصرية،جمال عبد الناصر « .. لم تكن مصر بخير .. ففي خضم الحرب الباردة المشتدّة آنذاك بين الولاياتالمتحدةالأمريكية والاتحاد السوفيتي كانت مصر في عداد زبناء موسكو ولم تسترد عافيتها بعد من جراء الهزيمة التي مُنيَت بها في حرب الستة أيام ( يونيو 1967 ) أمام إسرائيل .. فالصدمة كانت نفسية وسياسية لأنها أضرّت بتفوق مصر على مستوى العالم العربي وترابية كذلك لأن إسرائيل أصبحت تحتل مجموع شبه جزيرة سيناء.. يحكي مؤلف هذه السيرة (روبير صولي) بأن السادات كان تحت وطأة فكرتين تستبدان به: إخراج مصر من حالة الإحباط واسترجاع سيناء .. ولقد خاطر بدخوله الحرب، الشيء الذي لم يتجرأ على فعله الرئيس اللامع جمال عبد الناصر .. فمصر كانت في حاجة إلى عمل بُطولي أكثر من نصْر طبق الأصول.. وهكذا عبَر الجيش المصري قناة السويس في 6 أكتوبر 1973 ولم يكن مُهِما أن تربح إسرائيل الحرب في نهاية المطاف؛ بل كان رمز الجنود المصريين وهُم يستقرون على الضفة الشرقية للقنال كافيا في عيون السادات لغسل العار، مما دفع بالرئيس للتفكير في أنه أصبح يمتلك ما فيه الكفاية للانخراط في عملية السلام .. هنا أيضا ظهر بأن السادات كان يؤمن بما سُمِّي ب ? البينغ بانغ? السيكولوجي؛ إذ خضع العالم العربي لنوع من الصدمة الكهربائية إثر الزيارة المفاجئة التي قام بها الرئيس المصري للقدس يوم 18 نونبر 1977 دون أن تكون موضوع نقاش .. كانت تلك أول مرة يطأ فيها رئيس دولة عربي أرض إسرائيل منذ إنشاء الدولة اليهودية؛ فأضحى المحظور منتهكا ودفعت مصر الثمن إزاء العالم العربي .. تمَّ توقيع اتفاقية السلام في 1979 بين أنور السادات و مناحيم بيغين بإشراف جيمي كارتر رئيس الولاياتالمتحدةالأمريكية آنذاك ونُسِيَ الفلسطينيون إذْ كانوا الخاسر الأكبر؛ لكن مصر استعادت سيناء طبقا لمبدأ السلام مقابل الأرض.. عبْر طيات الكتاب، من فصل إلى فصل، يسهر مؤلف هذه السيرة على تنقيح الصورة (بورتري) السياسية والسيكولوجية للسادات بالوثائق والشهادات المباشرة .. فالسادات الذي كان باهتا كنائب لرئيس الجمهورية ومُفرطا في مجاملة عبد الناصر، انكشفت صورته كمجازف ورجل يصنع التاريخ وكمَعْلَمة ملئها التناقضات: فرغم ولعه ب كمال أتاتورك، مؤسس تركيا العلمانية، يبقى متديِّنا بشكل عميق وعلى علاقة قديمة بزعماء الإخوان المسلمين؛ وهو رغم تقشفه واكتفائه بحساء الخضر كغذاء، إلاّ إنه يستقل السيارات الفارهة ويعيش حياة الباشوات في القصور؛ ورغم أنه ألّف في شبابه أنشودة على شرف هتلر، استقبله أعضاء البرلمان الإسرائيلي وأدّوا له التحية وهُم قيام؛ وهو أيضا نجم تخاطفته باستمرار شاشات تلفزيون العالم أجمع رغم جنوحه للعزلة والتأمل؛ كما أنه كان يحكم مثل دكتاتور متقلب النزوات رغم افتتانه بالولاياتالمتحدةالأمريكية.. وفي الأخير،اغتيل السادات برصاص الإسلاميين المصريين في 06 أكتوبر 1981 وهو الذي كان يشجع إعادة أسْلمة المجتمع المصري.. مات أنور السادات ولم يحلم قط بمثل هذا السيناريو لحياته؛ فلقد كان يريد، وهو لازال طفلا، أن يصبح ممثلا كوميديا .. ? عن جريدة لوموند (30 غشت 2013)