الحروب المعاصرة التي نشهدها منذ ثلاثة عقود على الأقل بدأت برفع شعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان في وجه الأنظمة الشمولية، وتحولت بالتدريج من محاصرة المد الشيوعي إلى مواجهة الإرهاب والتطرف، وفي طيهما امتلاك السلاح النووي والكيماوي والجرثومي وما شابه، في حين يظل الدافع أمراً آخر، بحكم الغريزة ربّما. 1. يظلّ الدافع أمراً آخر باستمرار. أمر ندركه ولا نُدركه. ندركه ايديولوجيا أحياناً ولا ندركه، في الغالب، استراتيجياً أو اقتصادياً أو ثقافياً، ولا نزداد، في ظل الخراب التي تُعمّده هذه الحروب، سوى إمعاناً في التّيه والعماء عندما يتأكد لنا، بين حرب وحرب، أن الوجود على وجه البسيطة يتطلب الكثير من التضحية بالإنسان لصالح العدم. كلّ حرب تستدعي العودة إلى الصّفر، إلى البداية، إلى »الأصل«، إلى البدائية وإلى القتل والموت، إلى التراجيدْيا، إلى الظلام والسّديم، الغطاء الجوي الفعلي الذي يعمّ ويترك الكائنات تهيم على وجهها وتقتاتُ على الدّم، كما كانت الحروب تفعل دائماً عندما تقلّب صفحات التاريخ وتقرأ عن هذه الحروب في كتب التاريخ وفي كتب موازية لها أو نشاهدها في السينما: «طروادة»، «المجالد»، »مملكة السماء»، »القلب الشجاع«، »آخر ساموراي«، »الراقص (الرقص) مع الذئاب«، والقائمة طويلة. في الحروب القديمة كانت الجيوش تواجه الجيوش وتفنى عن آخرها. بعض هذه الجيوش يخرج منتصراً، جيوش أخرى تتكدس وتموت جوعاً ولا ينجو إلا القليل من الجند. الإنسان هو »المادة« الأساس لشن الحروب، الأسلحة تتغير بحسب تقدم »العلم« و »الحضارة« و »النظرية« و »الاقتصاد« و »التجارة«، تجارة الأسلحة بالخصوص، سراً وعلانية حسب منظومة »اقتصاد السوق« التي يتوفر فيها كل شيء، من الأحذية وعلب الشكولاطة حتى برامج التّسليح النووي، تخصيب اليورانيوم وكمسودة لفرض الذات وإذكاء الرغبة في نزعة الاستعلاء والتشدد والإيمان بسلطان القوة ضداً على ما تقترحه الشرائع الكونية: نبذ القتل، وتقترحه مؤسسات المراقبة التي تدعي أنها وُجدت للتقليص من مسافات الصراع والتنابذ، لكنها، وهي تزعم ذلك، لا تملك اليد الطولى لإلغاء الحروب أو الحد منها قليلاً. إنها تقف »مكتوفة الأيدي« وتردّد باستمرار »العين بصيرة واليد قصيرة«، بينما الحروب تشتعل وتستعد ويشتد »أوارُها«، هكذا، ببساطة، بكل بساطة، بكل البساطة المتذاكية التي أعقبت نهاية الحرب العالمية الثانية وسكن فيها طائر العنقاء مبنى الأممالمتحدة مفرّخاً طيوراً أخرى تطير، وهي من صُلبه، في اتجاه أي مكانٍ تريده، من أجل حروب صغيرة أو كبيرة، ربّما من أجل معارك تدور وتدور وتدور، بلا معنى، معارك مثل التي لا تتوقف في افريقيا مثلا، وسنظل مادام أنها منذورة للاّمعنى وهي تقاوم من أجل أن تشد إليها أنظار العالم لمجرّد الفُرجة أو لغاية دفينة هي التّمسك بلُغز الوجود الذي يهددها ويقض مضْجع كرادلتها المتعطشين لرؤية الموت والدم ونشيد الكورس (الجوقة) في التراجيديا، في انتظار الكسب والتعويض، الكسب المادي تحديداً، أما »التعويض«، فقد يسْمح المقام ويساعد على اقتفاء أثر لا وعي بعيد الفور ومرتحلٍ لا تكفي في حصر تمثّلاته تخريجاتُ فرويد ومن معه أو يدور في فلكه، لأن الحروب التي تُدار لا يخوضها الغُرماء لصالحهم فقط، بل يمكن أن تكون حروباً بالنّيابة مما يقوّي شوكة ورأسمال الارتزاق والاسترزاق في قرار الفعل. 2 ما الذي يوجّه كفّة الحروب «العربية» في كل هذا المتاه؟ نسميها عربية لأنها، أولا، تدور وتُدار في خريطة يقيم فيها عربٌ، ولأنها في الغالب، ثانياً، تقع وتحدث وتنمو وتتنامى بين عرب ضد عرب رغم كل ما يقال بأنها حروب ضد آخر، ضد آخرين من منظور التمسك بحق تبرير الوازع السياسي و/ أو «الثقافي» و «الديني»، ولأنها، ثالثاً، حروب تحمل في ثناياها دائماً ما يجعل إبدال «العروبة»، بكل حمولاته ومحمولاته، قابلا للتراجع وإفساح المكان لبلوى «التعرّب»، أي تفضيل الغريزة القصوى على الجِبِلّة المسلم بها في الكراريس وجوازات السّفر إمعاناً في لاجدوى الهوية المرتجلة، لأن العرب، الآن تحديداً، وربّما منذ زمن ليس بيسير، لم يعودوا، كما تصوروا أنهم »كانوا«، قادرين على تحمل عروبتهم بنفس السّهولة التي كانت متوفرة في عوالم سابقة. لا يتعلق الأمر ب «تراجع»«أو ب «فقدان»، بل بسقوط في شرك نصبوه لأنفسهم في التاريخ المعاصر، خاصة على مستوى السياسة أو على مستوى «المجال السياسي»، المستوى المادي الوحيد الذي يتحكم في معادلة القوة الضعف. هذا الشرك هو شرك «غواية الهُوية» وعشق السّيمولاكر في المرايا ونبذ التراب والماء والهواء والاختناق داخل سراديب المطبخ الطيني من أجل الخبز والجنس وحدهما وإقصاء المعرفة بالذات وردْم مسارات العقلانية في تراثهم العلمي المكتوب ومكاسبهم الحضارية التي تراكمت، ولا يمكن إنقاذ ماء الوجه وما يتبقى بمجن ثقافة المطبخ الطيني لمواجهة ثقافة العيادة ومطابخ العوْلمة الآخذة في نشر كلّ ما لذ وطاب من رغد العيش أزمنة يُعرَف، كما يُجهل، ما تُنميه وما تُنمِّيه (بضم التاء وفتح النّون وتشديد الميم) من أدوات ووسائل وبرامج ومشاريع ومسوّغات وتفويضات وتكييفات هي أصلاً »أسلحة« لحروب معاصرة وعصْرية، بل »حدَاثية«، تحدثُ بموازاة الحروب المبرمجة سياسياً وعسكرياً وثقافياً. العرب ردّدوا دائماً ويرددون دوماً قولتهم »»حرب لا ناقة لنا فيها ولا جمل«« من باب القناعة والتملّص والهروب إلى الأمام والخلف معاً، بينما نرى ونسمع ونقرأ، منذ أمدٍ بعيد، أن الحروب التي تدور وتُدار حرب للعرب فيها كل »النّوق« وكل »الجمال« تركت لترعى ولتكن ناقة صالح أو ناقة البسوس، لا يهمّ، ثمود أو بكر وتغلب، لا يهم، ما يهمّ هو تراجيديا السّديم، هو المَهْمَهُ وهو الضّنى في امتلاك شربة ما وكسرة خبز بالنسبة إلى من يُسقط في أيديهم كل مرة تشتعل الحرب هنا أو هناك أولئك الذين لا ناقة لهم ولا جمل بالفعل خارج اللّعبة، أولئك الذين تحملهم الحروب ما لا يطاق من ويلات الجوع والسغب والعراء والتيه، من نساء وأطفال وشيوخ وعجزة ومقعدين، محرومين من كل شيء حتى مما كان يُقدم لهم على طبقٍ من قمع ومنع ومصادرة وحصد للرّقاب وكبت للنّفس. بدأوا فلسطينيين وصاروا عراقيين وها هم الآن سوريون وغداً يكونون سيكونون سواهم، وكانوا، قبل ذلك بعقود وأزمنة شتى، مدجّنين و »مستعربين« (موزاراب) تحت طائلة «»غِواية الهُوية»«، صكّ العذاب العربي في محن الزمن المطلق، الهولوكوسْت المشرع على الغنيمة في سوق الدلالة الهَمجية وسوق الموت ثم سوق المنْفى، بلا رصيد سوى ذاكرة إقامة تكاد تكاد تكون إجبارية في حِمى مفروض يُسمّى الوطن عادةً وفي نصوص تمجّد طقوس ممارسة الهوية دون تقدير فعلي لقيمتها وجدواها في زمن السلم قبل زمن الحرب: الحربُ تُلغي الوطن وتفترس الهُوية، لكنها، هذه الهُوية، تسكن الذاكرة وتجعل الإنسان حطباً يابساً منذوراً للاحتراق أو التدفئة في زمن التّيه والمنفى ثم الموت إلى ما لا نهاية. 3 حروبٌ كثيرة، حروبٌ بلا معنى، حروبٌ وقائية عن طريق ضربات جراحية، حروبٌ بالنيابة، حروب خرقاء، حروب تقليدية، حروبٌ متطورة: هذه صفات ونعوتٌ وتعبيراتٌ مسكوكة تنحتها اللغة، إلا أن ما لا توفّره اللغة هو ما يظل محلّقاً في سماءات السّديم، في ماهو أبعد من التّنصيص اللغوي الذي يكتفي بحصته من الإنشاء والصّياغة. إنه مرتع الغواية والإغراء بحقّ امتلاك القوة سياسياً عسْكرياً لغرض السيطرة وإرغام الجميع على الخضوع وتقديم فروض الطاعة والولاء في كل لحظة من لحظات تقلّب التاريخ في مرقده وخلل الجغرافيا في خرائطها، أما الإنسان، الكائن المعني بالإقامة فيهما، فليس سوى طحلبٍ طافٍ لصُنع مكانسَ البقايا والرفات. هذا ما تدوّنه سجلاّت الحرب وما تستنسخه وتوزعه ونقبل نحن، من غيابة الزّمن، لنقرأه ونسلّم به ونرسخه في سجلات »»غواية الهوية»«، مصابين بالذهول والسّهو والفقدان، مردّدين ما يفرض من بروتوكولات إباحة ثقافة الحرب، طروادية كانت أو بَسوسية أو مغولية، أممية أو جهوية، لطرفٍ على حساب طرف، لأطراف على حساب طرف، لأطراف على حساب أطراف، أو لمجرّد الحرب، ومنها حروبنا العربية التي لا تنتهي أو أنها تنتهي بهزائم مزمنة وتجعل الأجيال الحالية والأجيال القادمة لا تخرج عن المألوف كالأجيال السابقة: هل الحرب فعلا «يومٌ لنا ويومٌ علينا»، أم أنها مجرد خذروف؟ ما الذي تخبئه «الأيام» (الحروب) العربية وما الذي تخفيه آلة الحرب التي تظل رابضة كأنها حصان طروادة الذي يراقب عن كثب غفلتنا وغفلة الهوية فينا؟ ربّما تكون «الحرب خدعة»، غير أنه ينبغي أن تُحولَ حكمتها من موقع ضفة إلى ضفة هي الخداع بالفعل لا بالمجاز وهذا ما يمنح الوجود مشروعية المقاومة، مقاومة ثقافة الحرب ومقاومة «غِواية الهُوية» في نفس الآن تجنباً لأقلّ الخسارات في تراجيدْيا السّديم، في مساحات الإقامة في التاريخ والجغرافيا التي لا تُقاومُ إلا بالحِرص على قيمة الإنسان وقيمة الوطن وقيمة العقل والحرية وتطويع السياسة وقهر التطرف وقبر الإرهاب، إرهاب الأفراد والإعلام والجماعات، كما إرهاب المنظمات وإرهاب الدول وإرهاب الفكر الشمولي. لأمر ما تقع الحروب. ألأمرٍ ما تقع الحروبُ؟ نعرفُ »الأيْنَ«، لا نعرفُ «المتَى». 4. الحرب أولها جدّ وآخرها هزلٌ ولا مكان فيها للغواية والإغراء: هلْ هَذِهِ هي الدّنْيا؟ الرباط في 2013/9/2