- 1 - يتميز الدخول التربوي الجديد بالمغرب، بأزمات وإرهاصات و تحديات عديدة و متعددة، لا حصر لها، تتراكم على ساحتها قضايا و مشاكل قد يكون من الصعب على أي كاتب أو محلل تأطيرها في قراءة واحدة، ذلك لأنها تمتد على مساحة شاسعة واسعة، من التعليم الأولي/ التعليم ما قبل التمدرس باشكالاته المترابطة، إلى التعليم الإبتدائي الذي مازال يبحث عن مدرسة وطنية ملائمة تؤطر الأجيال الصاعدة.... ومن هذا الأخير إلى التعليم الثانوي الذي مازال بدوره يبحث عن موقعه وذاتيته في المغرب الجديد، في الوقت الذي أخد فيه العالم الجديد صيغة العولمة، التي تصنع أجيالا ليست فقط مطلة على فضاءات الألفية الثالثة، و لكنها متجدرة في مطامحها المحلية و القومية، انطلاقا من موقعها التاريخي/الحضاري على الأرض. طبعا الأمر هنا، لا يشمل التعليم العالي، الذي يغرق بدوره في مستنقع أسود، لا بداية له و لا نهاية، يواصل منذ سنوات وعقود إنتاج أجيال من العاطلين، الفاشلين، المحبطين بكل اللغات و المناهج و التخصصات. - 2 - في البداية، نحاول الإطلالة في هذا المقال على التعليم القاعدي/التعليم الأولي/ التعليم ما قبل التمدرس، و هو يكتسي صيغة تربوية ضرورية للتنشئة السليمة للأطفال دون السادسة، ( أطفال أربع و خمس سنوات )، حيث تتحول هذه الصيغة من التعليم في عالم اليوم، من الناحيتين التربوية و الدراسية، إلى أساس و مرتكز في حياة هذه الشريحة من الأطفال. إذ في سن الرابعة / الخامسة يتلقوا مبادئ القراءة و الكتابة و الحساب و المحادثة، جنبا إلى جنب، مع الألعاب و التنشيط الفني و الجمالي، و هي المبادئ التي تؤهلهم ولوج أسلاك التعليم الأساسي... و هو ما جعل هذا السلك من التعليم في الدول المتقدمة، لونا من ألوان الخبرات الحيوية، التي تستند في تكوينها و نموها إلى أصول معينة و أسس محددة و مقومات واضحة، و ليس من المحاولات العشوائية أو الأعمال الارتجالية التي لا ترتبط بأية قواعد مضبوطة. التعليم الأولي إذن، يعني في اللغة التربوية، نقل و تناول المعلومات و الخبرات و المهارات ، لمواطن الغد ، في إطار تعليم مدرسي منظم، يلائم و يتقيد بسن هذا المواطن ( أربع / خمس سنوات ) من أجل إعداده للمرحلة اللاحقة، التي نطلق عليها في المغرب، مرحلة التعليم الأساسي، و التي يحددها القانون، بالنسبة للمتلقين في ست سنوات، و هي مرحلة تتطلب قبل كل شيء، أن يكون انخراط التلميذ بها قائما على المرحلة التي قبلها ،( التعليم الأولى / أو التعليم ما قبل المدرسي ) التي تقرر مستقبله، انطلاقا من المهارات المكتسبة التي تفتح مواهبه و شخصيته على المستقبل. - 3 - * يستقطب هذا المدخل المختصر، عدة أسئلة و تساؤلات تتعلق بسلك التعليم الأولي، الذي يفترض بناء على متطلبات العصر العلمية و التقنولوجية و المعرفية، أن يكون قناة لإعداد و هيكلة العنصر الإنساني المنتج و المفكر و المبدع ، ذلك لأن ضمان التعليم لهذا العنصر في سن مبكرة ( سن التعليم الأولى )، هو ما يفي بهذه المتطلبات . فلماذا يغيب هذا السلك من التعليم عن أسلاك التعليم العمومي على عهد الاستقلال؟ لماذا تركته السياسات الحكومية خارج رعايتها المادية... و حتى المعنوية ؟... خارج مناهجها و تخطيطاتها التربوية؟ و هو يحتضن ملايين الأطفال الذين يشكلون وجه مغرب الغد، الذي يوجد في قلب زمن العولمة. و زمن القرية الكونية المكشوفة؟ لماذا حرمت / تحرم هذه السياسيات الملايين من الأطفال، من حقهم الإنساني في تعليم أولي يتلاءم و الخصوصيات الجغرافية و الاجتماعية و الاقتصادية و الثقافية المحلية ، و هو احد العوامل الأساسية لكسب رهان العولمة. و رهان محاربة الأمية، و مواجهة الجهل و الفقر و الجمود و التعصب، و كل مصطلحات « التخلف « في القاموس الإنساني ؟ لماذا حرمت/ تحرم هذه السياسات الأطفال في سن التعليم الأولي من حقهم في التعليم و النمو و التنشئة الاجتماعية المتوازية و المساهمة في بناء شخصيتهم و هويتهم من موقع المشاركة الإيجابية، و ليس من موقع الإديولوجية السياسية، التي ترتكز عليها هذه السياسات. - 4 - إن السياسة التي رسمتها وزارة التربية الوطنية حتى الآن، لتغطية عجزها في احتضان التعليم الأولي، و استيعاب الملايين من أطفاله، هي فتح الباب على مصراعيه « للمستثمرين « الكبار و الصغار، لاستقطاب القادرين على « الدفع « لارواضهم بالمدن... أو ببعضها بأصح تعبير، من أجل تبرير الالتزامات الموقعة مع المنتظم الدولي في قضايا الطفولة و حقوقهما، التي في مقدمتها الحق في التعليم الأولي، خارج أي إستراتيجية، من شأنها حماية الطلائع الأولى من أطفال هذا السلك من الفراغ الأخلاقي و العقائدي، الذي قد يصيبهم في تنشئتهم و إعدادهم للأسلاك اللاحقة من التعليم . إن الوزارة المعنية اليوم، و في نطاق رؤيتها السياسية ترخص بسخاء « للمستثمرين « فتح أرواض للأطفال/ طلائع المستقبل الوطني، في الدور و الحوانيت و العمارات، بوسائل شبه تربوية أو بدونها. و من خلال هؤلاء المستثمرين، ترخص للمربين و المؤطرين، من كل المستويات، الذين لهم تكوين و الذين لا تكوين لهم. و من جانب آخر، ترخص هذه الوزارة، في نطاق التخلص من أعباء هذه الشريحة من المواطنين، الذين يجب الاعتماد عليهم، في صياغة وجه المغرب المستقبلي، لجمعيات بعضها يشتغل على الطفولة، و بعضها الآخر يشتغل على الإحسان، لتفح ارواض و كتاتيب قرآنية، في كل الفضاءات و بأية إمكانيات. في المساجد و الأضرحة و الكتاتيب العتيقة و المنازل و الحوانيت، و غالبيتها يفتقد إلى الشروط الصحية و التربوية الضرورية. و من خلال هذه التراخيص، يتم « توظيف « مربيات و مربين و مؤطرين ، لا علاقة لأغلبهم لا بالتربية و لا بالتأطير . و السؤال : هل يستطيع هذا الصنف من « الاستثمار « في هذا المجال الحيوي/ الخطير، تعويض الدولة في مهامها التربوية بقطاع واسع مثل قطاع التعليم الأولي...؟ هل تستطيع جمعيات المجتمع المدني، المشتغلة على الطفل أو على الإحسان و بعضها يفتقد لأبسط شروط العمل التربوي، تغطية حاجيات هذا القطاع، و تعويض الدولة فيه...؟ في حقيقة الأمر، انه إضافة إلى السلبيات التربوية التي يفرزها موضوع التخلي عن هذا القطاع للخواص و هي عديدة و متنوعة و متداخلة، و تمتد بين التربوي و الإنساني و الحقوقي... فإن عدد المستفدين من « خدمات « المستثمرين و الجمعيات و غيرهما، لا يتجاوز 10% من مجموع أطفال شريحة التعليم الأولي ، من المواطنين الصغار. و لعل أكثر الجوانب حساسية في هذه المسألة، هي : 1 - تعريض مبدأ مجانبة التعليم، الذي يشكل جانبا مهما من إشكالية التربية و التعليم المغربي، إلى مصير مجهول، خاصة في ظل توجهات صندوق النقد الدولي، التي تسعى إلى انتقال المغرب من ثقافة الإتكال على ميزانية الدولة في قطاع التعليم، إلى ثقافة الاعتماد على النفس، و على المبادرة الشخصية للاستثمار و المجتمع المدني... و هي توجهات تتناقض مع واقع المغرب الاقتصادي و الاجتماعي في الزمن الراهن. 2 - وضع حالة التعليم الأولي، في حالة فوضى دائمة، و الحكم عليه مسبقا بالفشل و انعدام المردودية و اللاجدوى. و هو ما يعرض أسلاك التعليم الأخرى، إلى الخطر المحقق. 3 - ضعف المراقبة على هذا القطاع، و عدم تحديد مناهجه التربوية من طرف الوزارة / الوزارات المعنية، و هو ما يؤدي إلى نتائج عكسية : تعويد الأطفال المستفدين على قلتهم، على اشياء لن تفيدهم، و تعويدهم على عادات يصعب علاجها في المرحلة التربوية القادمة . 4 - أداء الأسر المتوسطة و الفقيرة، خاصة منها الواعية بأهمية التعليم الأولي ، فواتير باهظة. لا تتحملها ميزانيتها المحدودة في زمن تدني الطاقة الشرائية للمواطنين، إضافة إلى ما تؤديه هذه الأسر لرسوم التسجيل و التأمين، و لاقتناء لوازم التمدرس، من كتب و دفاتر و أقلام و حقائب لأبنائها في أسلاك التعليم الأخرى . -5 هكذا، يتحول التعليم الأولي، إلى إشكاليات متداخلة و مترابطة على الفضاء التربوي المغربي، و هي إشكالات تجعل منه في نهاية المطاف، تعليما لا يلعب دوره، لا داخل الزمن الراهن و لا خارجه. إن الاتجاه الذي يتحرك في إطاره هذا التعليم/ الأولي المغربي خارج أسلاك التعليم العمومي، لا يمكن أن يؤدي إلى تأهيله و تطوره و تقدمه، لأنه يشكل حلقة منفصلة عن حلقات التعليم المتتابعة الأخرى، و هو ما يفرض على السياسات التعليمية أن تجعل استثمار الدولة في التعليم المتقن و الجيد يبدأ من التعليم الأولي، الذي يضمن التفوق التربوي و الاستمرارية الدراسية لكافة المواطنين، و هو ما يعني أيضا، أن الاتجاه الذي على هذه السياسات التعليمية المغربية، أن تبحث فيه بفعالية، لصالح فئة أطفال التعليم الأولى ، هو إعادة النظر في موقع و دور هؤلاء الأطفال في الراهن و المستقبل، و في معايير اختيار المناهج و المشرفين عليها و الفضاءات و المربين و المكونين. و العمل الجدي و الموضوعي و الإيجابي، على ربطه، لأهميته و خطورته، بتنظيم جديد للمؤسسات، و البحث له عن وسائل جديدة من التمويل، تجعله و التعليم الأساسي في حلقة واحدة، تتمتع بالتعميم و المجانية، و بعدالة المساواة بين كل أطفال الفئة العمرية الأساسية ( أربع/ خمس سنوات ). لترجمة الحق في المواطنة. و ما يتبعها من حقوق على أرض الواقع. إن تأهيل المغرب و تطوره و تقدمه، اضحى مرتبطا و إلى حد بعيد، بضمان هذه الحقوق... و بنجاعة التربية و التعليم، من الروض إلى الجامعة. عن «التحرير» المصرية التي يرأسها.. ابراهيم عيسى!