نستعير هذا العنوان من محمد عابد الجابري لأنه، ينعش الذات الباحثة، أكثر مما يضعها في ركن من أركان المكتبة الجامعية،فالخاتمة هي بداية البحث. ذلك أن الذي يعتبر نهاية واكتمال بحثه،يدخل ضمن وهم متسع للتأويل. هكذا اخترنا هذا العنوان لا لمحو أوهامنا فحسب،بل لإيقاظ الحياة فيها،أي إشعال فتيل البحث والاجتهاد في سبيل المشاركة مع المفكرين العرب المعاصرين في أسئلتهم وقلقهم المعرفي،المؤسس على الالتزام بقضايا الأمة العربية. إن الإحساس بالظلم والمهانة والتأخر وما إلى ذلك،هو الذي جعل مفكرنا يطرح مطلبه الإيديولوجي بشكل واضح في مشروعه النقدي والبنيوي لثقافتنا العربية. وهذا ما توضحه قولته: "والتحيز للديمقراطية في الدراسات التراثية يمكن أن يتخذ أحد سبيلين: إما إبراز "الوجوه المشرقة" والتنويه بها والعمل على تلميعها بمختلف الوسائل... وإما تعرية الاستبداد بالكشف عن مرتكزاته الإيديولوجية (الاجتماعية واللاهوتية والفلسفية).وقد اخترنا هذا السبيل الأخير لأنه أكثر جدوى. إن الوعي بضرورة الديمقراطية يجب أن يمر عبر الوعي بأصول الاستبداد ومرتكزاته"1. لا تتأتى الديمقراطية إلا بتعرية الاستبداد العربي،.كأن تفكيكه ونقده هو القاعدة التي نبني عليها الديمقراطية.نحن إذن أمام جدلية الهدم والبناء. فالجابري لا يستعمل النقد في سبيل الهدم،وإنما هو وسيلة للبناء،مثلما تضعنا هذه الفقرة الواضحة في تماس مع إشكالية "التراث والحداثة". إذا كانت العقلانية والديمقراطية مطلبان إيديولوجيان للجابري،- إن لم نقل المثقفين العرب- فهما لن يتحصلا إلا من داخل التراث، ليس من حيث الأخذ بما تشير إليه في تراثنا العربي، بل في تعرية وفضح ما يعوقها للظهور في مجالنا السياسي العربي. إن القضايا التي طرقناها في هذا البحث كثيرة وهامة،وقد ربطناها بمفكرين آخرين ساهموا بطريقة جادة في بلورة مفهوم الدولة عند المسلمين. وهي إشكالية تم طرحها بطرائق تفيد المعرفة،أكثر مما تبتغي الإيديولوجيا،وهذا ما نتلمسه في العودة للمرحلة المؤسسة للدولة في الإسلام. المرحلة النبوية التي شكلت سؤالا هاما عند الجابري وجعيط وبلقزيز ورضوان السيد،وكأنها الإطار العام الذي أثث المخيال الاجتماعي العربي. صحيح أن هناك فروقات بينهم في المنطلقات والنتائج،ولكن التقاءهم في قضية رئيسة،وهي اقتحام المقدس الديني وطرحه كسؤال فكري،يروم الدقة العلمية مثلما يشتغل وفق مناهج علمية حديثة؛ بمعنى إن وضع المنطلق الرئيس في بناء الدولة عند المسلمين لم يكن بدافع تحزبي أو إيديولوجي مبتذل بل من أجل تحريره من المحافظين الذين يمتلكونه. إن التحرير يحيل إلى معركة لازال فتيلها مشتعلا إلى اليوم،كما يشير إلى معركة حامية الوطيس داخل المكتبات وخارجها. وهذه هي العلاقة الفارقة في الاشتغال العلمي لهؤلاء المفكرين. إن تعرية الاستبداد ليس مطلبا للجابري فحسب،بل هو الفتيل المضمر الذي دفع المفكرين الآخرين إلى الاهتمام بهذه المرحلة رغبة في تنقيتها من الغبار الذي يعمي العيون، ويبني العتمات والظلام... رغبة ترمي كل واحد منهم لصنع أسلحته/مفاهيمه للدخول إلى هذه المعركة. ليس سهلا أن نعتبر هذه المعركة بسيطة،أو بالأحرى متاحة للجميع،إنها تنم عن جهد مضاعف لقراءة المكتبة التراثية،أو على الأقل الكنوز التي تزخر بها،وهي لا تحسب بمئات الآلاف من الصفحات وإنما بكيفية قراءتها.فالجابري مثلا ?كما أسلفنا ذكره- على وعي بهذا المأزق المنهجي والنظري الأوليين، ذلك أن ما يهمه في قراءته للتراث ليس النتائج التي خلص إليها الفقيه،والمتكلم،والمتصوف،والفيلسوف،والبلاغي،والشاعر...وإنما الكيفية التي كتب بها هؤلاء كتبهم،أو بالأحرى الطريقة الاستدلالية التي عالجوا بها مواضيعهم. فهو مثلا لا تهمه لغة النفري والحلاج والتوحيدي،كما قام بذلك أدونيس. وإنما ما يجمع هؤلاء على مستوى الكيفية التي يفكرون بها،كأن الاهتمام باللغة لا يفيد العمق الذي يريد تفكيكه،وإن كانت اللغة بوابة الفكر،بل أكثر من ذلك هي الفكر ذاته. نحن إذن أمام السطحي والعميق،الصريح والضمني،الظاهر والباطن،وهي التي شكلت العتبة الأولى في قراءته للتراث العربي الإسلامي، يقول الجابري " دائما أزيل المعطيات السطحية التي علمتني التجربة أنها إنما تعطي شيئا آخر،وأبحث عن هذا الشيء. طبعا لا أعتقد أنني أصيب الحقيقة إصابة تامة،ولكن على كل حال لدي قناعة شخصية هي ضرورة البحث في الباطن،دون أن يكون الإنسان باطنيا بالطبع.فالمهم هو أن نبحث عن الصياغة العقلانية لهذا الباطن،حتى لا نعطيه صيغة لاعقلانية،ونذهب مع الباطنية في متاهتها"2. ها هنا يظهر لنا الوضوح المنهجي والرؤيوي لمفكرنا،وهي العلامة التي تحيل إلى عنوان كتابه- موضوع دراستنا- في صيغة المحددات والتجليات.فهو من جهة يضبط محددات السياسة في الإسلام تحديدا عقلانيا،ومن جهة أخرى يتابع تجلياتها في الواقع. نحن -إذن- في خضم خلاصة ممكنة لما حددناه سالفا،لكن ماذا تفيد إعادة تركيب ما توصلنا إليه؟.هل ستضيء خاتمتنا أم أنها ستغلقها؟، ونحن لا نريد إغلاقها بقدر ما نريد فتح نوافذ أخرى لهذا الموضوع؛ بمعنى كيف نعطي لأسئلتنا جسورا لطرق موضوعات ما انفك الفكر العربي المعاصر مشتغلا بها،كعلاقة السياسي بالديني،والماضي بالحاضر،والأنا بالآخر... وهي موضوعات تندفع بقوة أمام المشتغل بالفكر العربي المعاصر.صحيح أننا اعتمدنا على أربعة مفكرين اشتغلوا على موضوعة "السياسة" في التراث العربي،وصحيح كذلك أننا لم نقارن بينهم،كأن المقارنة طريق لإغلاق الأسئلة،وإخماد المعركة- إن جاز التعبير- لكن بالمقابل وضعنا المرايا كي نرى بها صورهم باختلاف مقارباتهم، ولعل انعكاس المرايا يكون سبيلا لفتح الطريق نحو ذلك. نعتقد أن المقارنة تفيد انكسار المرايا،ونحن لا نريد منها سوى أن تكون بوصلة لقياس حدود هؤلاء المفكرين،كل واحد على حدة،أو فيما بينهم. معروف أن الجابري لم يرد- بشكل صريح- على منتقديه بل يعتبر أن بناء صرحه الفكري لا يتأتى إلا بإشراك باحثين آخرين في الموضوعات التي دشنها. ولأن الأمر كذلك فهشام جعيط مثلا ينطلق من قاعدة نظرية ومنهجية وعلمية مغايرة لمفكرنا،سواء في فهمه للتراث أوالتاريخ... فهو من جهة يعتبر المرويات والتواريخ والسير ككتب لم تكتب إلا بعد مائة سنة من رحيل مؤسس الدولة في الإسلام. إذن،فهي لا تمثل عنده وثيقة تاريخية،بينما يفكر الجابري من مرجع آخر فلسفي،مؤسس على المساءلة،والنقد،والتحليل،وليس على مرجع تاريخي يفيد التدقيق في الخبر وما إلى ذلك... إن كل واحد من هؤلاء المفكرين (الجابري،هشام جعيط، عبد الإله بلقزيز،رضوان السيد وعبد الله العروي) يقارب موضوعة الدولة انطلاقا من المرجع النظري والإيديولوجي الذي يؤسس عليه قراءته. وهم بذلك حققوا لحظة مهمة لإظهار هذه الموضوعة في راهننا العربي كأن "الدولة" أو "السياسة" هي أم المشاكل عندنا. إنها البنية العميقة في تأخرنا التاريخي. إن طرحها كسؤال معرفي هو علامة كبيرة في خلق المستقبل،أو على الأقل النظر إليه كحاجة ملحة؛بمعنى أن طرحها بشكل مغاير لما تم طرحه في القرن التاسع عشر،بل وفي ما بعده، إنما هو طرح لا يبتغي التأريخ فقط وإنما خلخلة القداسة التي تغلف تراثنا العربي الإسلامي،أليست هذه الخلخلة فتيلا لثورة ثقافية تهم جميع الاجتهادات في سبيل مستقبل عربي،تكون الديمقراطية والعقلانية قاعدته وإطاره العام كما يرى الجابري. لقد علمتنا مصاحبة الجابري مجموعة من الكيفيات البنيوية والتي مارسها في قراءته للتراث العربي؛من قبيل أطروحة رؤيته الفكرية،التي تبتدئ في المقدمات المراد بناء قضاياه على أساسها، كما يظهر الوضوح في اللغة التي يكتب بها،لأنها تحمل خطابا للعموم وليس للمختصين فحسب،لكن إذا كان الخطاب الفكري للجابري مطروحا في الطرقات،فإن عملية تلقيه تختلف عن أسئلة قارئه. لقد أشرنا إلى ذلك في بداية علاقتنا بالجابري،وإذا كان يتسم بهذه القيم،فإن ما شدد عليه هو وضوح رؤيته الإستراتيجية،كما وضوح مشروعه النقدي للعقل العربي،الذي يعتبره منطلقا نحو المستقبل، ولعل ما خلص إليه في "العقل السياسي العربي" هو ضرورة القطع مع الأحكام السلطانية التي ما انفكت تتجلى في مجالنا السياسي الراهن. ثمة قضايا ألمحت إليها،دون تركيز النظر فيها،وقد كنت أود الاشتغال عليها، إلا أن زمن القراءة لم يسعفني،لكن لا يعني ذلك محوها من دائرة اهتمامي،بقدر ما سأحاول- قدر الإمكان- الاشتغال عليها. تلك هي موضوعة "تلقي فكر الجابري"،لأن مسألة التلقي لا تحيل إلى زواياها المرجعية. بل إلى الكيفية التي تلقى بها القراء كتبه. إن كتب الجابري شكلت دائما حدثا ثقافيا،بل سأقول إن كتابته بجريدتي "الشرق الأوسط" و"الاتحاد الاشتراكي" في شهر رمضان أضافت لهما مبيعات مضاعفة. هنا تظهر قيمة الرجل؛ أي الاهتمام العمومي بما ينتجه،وهذه قيمة قل نظيرها في ثقافتنا العربية.. إنه لا يخاطب المتخصصين فحسب بل ينزع بهاجس نضالي على ململة الأفكار،ومقاومة التحديات واشتراكه في جميع القضايا التي تهم الوطن العربي. إن تلقي كتب مفكرنا تغري الباحث النظر إليها وهذا يغرينا أكثر، وهو ما سنحاول القيام به مستقبلا. 1 محمد عابد الجابري: "العقل السياسي العربي"، دار النشر المغربية، البيضاء.1990 ص: 396. 2 محمد عابد الجابري: "مسار كاتب"، حوار: مجلة الكرمل، ع 11 1984، ص: 156. (انتهى)