يحاول أوليفيي نوفوه» في هذا الكتاب الصادر عن دار «لاديكوفيرت» ( ماي 2013 ) تحت عنوان «سياسات المتفرج..رهانات المسرح السياسي، اليوم» رسْم حدود ما أسماه ب «مسرح الكفاءة» (*).. فبرفضه لأي إجراء استيطيقي أو ديداكتيكي، قد يعمل هذا الفن على تحريك أكثر من سيرورة للتحرر وقد يتيح للجمهور تملك حياته من جديد.. ويؤكد المؤلف الذي استمد مادة كتابه هذا من أعمال مخرجين مسرحيين ومن الفكر النقدي لفلاسفة من مثل «دانييل بنسعيد» (1946 ? 2010 ) و»جاك رانسيير» و»فريديريك جامسون»، على أن المسرح، في علاقته بالمتفرج، يتيح بصيصا من حرية محتمَلة.. وفي مستهل حوار أجراه معه «جان بيرنبوم» ونشرته جريدة «لوموند» ( 05 يوليوز 2013 ) يشرح «أليفيي نوفوه» معنى وصفه المسرح السياسي بكونه ليس خطابا نضاليا بل مسرحا يمارس تأثيرا تحرريا على الجمهور.. ويطرح فرضية مفادها أن السياسة في المسرح تكمن، في نهاية المطاف، في التصور الضمني والصريح الذي يقترحه العرض عن المُتفرٍج..كما إن وضع السؤال حول المكانة الفريدة التي يبنيها لنا ويخصنا بها العرض ( المسرحي ) ومشروعه السياسي إزاء المتفرجين، يُشكّل إمكانية تنير الطريق داخل قارة المسرح السياسي الشاسعة.. هكذا إذاً، تراهن أعمال عديدة على تحسيسنا وإيقاظنا وتثقيفنا وتجنيدنا.. من هنا تجِبُ، في حقبتنا التاريخية هذه، مساءلة فحوى مثلِ هذه المشاريع المُتاخمة لما يُنظم الليبرالية الجديدة وطريقتها في التعامل السيئ مع الأفراد كما لو كانوا أشخاصا غير راشدين.. وعلى أثَر العمل الذي قام به الفيلسوف «جاك رانسيير» في كتابه «المتفرج المُحَرَّر» ( منشورات «لافابريك»، 2008 ) يبدو ل «أوليفيي نوفوه» أن هناك مسرحًا فريدًا ترتسم معالمه ولا ينشُد استباق الأحداث فيما يخص التأثيرات السياسية التي سيُنتجها رغم اشتغاله، بدون توقف، على مادة نقدية.. هكذا تُولد إمكانية علاقةٍ متحررة وتجربةٌ نادرةٌ بُغيَة عدم التواجد تحت سيطرة التدبير والبرمجة وسوء المعاملة (...).. وفي موضوع علاقة المسرح بالسياسة، يُسَلِّمُ الفيلسوف»ألان باديو» بكون هذه الأخيرة تُشكِل مادة مدهشة للفن الدرامي؛ لكنه لا يُخفي شكوكه إزاء مسرح «سياسي» حين يقول، في كتاب صادر عن «فلاماريون» تحت عنوان «مديح في المسرح»، بأن مهمة المسرح تكمن في استحواذه على الصورة الإنسانية في بُعدها النوعي والشامل وكذلك في التمظهرات السياسية التي تتضمنها هذه الصورة دون أن يبقى سجينا لها.. يردُّ «أوليفيي نوفوه» على هذا الموقف مُعتبِرًا بأن الفنانين والمُنظرين - بشكل أخطر- يُنتجون، في أحيان كثيرة، تعاريف يُقصد منها حَصْرَ المسرح في متابعة مهمة وحيدة.. والأمر، بطبيعة الحال، لا يتعلق بإجبار المسرح على فعل السياسة، فهناك أعمال (مسرحية) عديدة لا تجعل من السياسة هَمًّا، لكنها، مع ذلك، تبقى أخّاذة وذات جوهر؛ فالأمر يتعلق بالتفكير فيما قد يُنتجه الجمع بين المسرح والسياسة، بدون تجاهل أن للمسرح إمكانيات أخرى غير هذا المزيج المُعَقّد.. وفي هذا الصدد، من جهة أخرى، فإن مسرحيات «ألان باديو» ترسم لنفسها كمهمة، تحقيقَ آثار سياسية على المتفرج وخلقَ «طاقة» أو «كفاءة» عبر تقديم بعض الشخوص «البروليتارية» كمثال يُحتدى به (...).. رغم اعتماد «أوليفيي نوفوه» مبدأ مفاده أن لكل سياسة هدف تحرري كمنطلق لكتابه، فهو لا ينفي، في معرض جوابه عن سؤال في الموضوع، وجودَ مسرحٍ سياسيٍ لا يجعل من التحرر هدفا له، لأنه، بشكل ضمني أو صريح، مسرحٌ محافظ ورجعي .. ويؤكد أيضا على اختياره الاهتمامَ بالسياسة منخرطة في أفق تحرري وضد تذويبها فيما هو اجتماعي أو أخلاقي وإلغائها بما هو اقتصادي أو طيولوجي، محاولاً إعطاءها (السياسة) تعريفا تحديديا، أو - بالأحرى - وضْعَ تصوّر لخصوصيتها وللحركة الخاصة بها مُقتفيًا في ذلك أثر الفيلسوف والمناضل «دانيال بنسعيد».. في الواقع، وفي أغلب الأحيان، يُضيف المؤلِّف، إن عبارة «مسرح سياسي» لا يلعب بداخلها مصطلح «سياسي» إلاّ دور عنصر ديكور أو هو تقريبا، بدون أهمية تُذكَر حتى ولو كان استعماله مصدر إرباك وانزعاج .. هكذا، ومن بين كل ما يُعتبَر مسرحا تقدُّميا يتمُ فيه المزج بين السياسة والبيداغوجيا، فإن هذا المسرح (السياسي) يضطلع بمهمة منحِ المتفرجِ المعرفة التي تنقصه من أجل أن يصبح، كما لم يكن قط، فردا معنِيًا ومُهتمّا .. « إن آليَةً مثل هذه، تُقدِّس الوعي، لهيَ، علاوة على ذلك، مَحَطّ ريبة وشك.. أليْست إرادة تحرير شخص ما، بشكل أو بآخر، افتراضٌ مسبق لتوريطه وإبقائه تحت الوصاية ؟ «.. من جهة أخرى،وفي موضوع الدور الذي يلعبه الضحك في المسرح،يقول «أوليفيي نوفوه» بأنه بالموازاة مع جانب كبير من هذا المسرح السياسي المتمسك بتسجيل كل مآسي العالم والبكاء على غياب الحلول والمخارج، برزت في السنوات الأخيرة دعوة تزعم بأن من واجب المسرح النقدي إثارة الضحك كترياق مناسب ضد حالة الاكتئاب المعمم؛ إلاّ أن هذا الضحك سرعان ما يتحوّل في كثير من الأحيان إلى قهقهات هازئة بما أنه يقترح علينا أن نضحك من ضعفنا وعجزنا.. لكن، ومع ذلك،فإن بعض المسرحيين يعمدون - بشكل مخالف - إلى استعمال الضحك كأداة من أجل تعبئة الجمهور وخلخلته، مثل ما يفعل «بونوا لامبير» الذي خصص له هذا الكتاب عددا من أجمل صفحاته.. فأعمال هذا المخرج المسرحي، ومعه المؤلف «جان- شارل ماسيرا»، تشير إلى إمكانية أخرى أكثر حرية للضحك إذ أن الشخوص في مسرحياتهما تخلق لنفسها على الركح منافذ للهروب من داخل وضعية معقدة نعيشها نحن كذلك وتصنع من أقل شيء فرصة للتحرر . Théâtre de la compétence (* بتصرف عن جريدة «لوموند»