وأنا أقرأ الخاتمة التي أنهى بها فريدريك جامسون، المؤلَّف الجماعي الهام حول العلاقة بين السياسة والاستيتيقا، الصادر عن دار النشر فيرسو نيويورك سنة 1977، استوقفني كثيرا تعبير «الجمهور الغائب». تعبير لخص به جامسون بشكل مكثف نقد الواقعيين (من لوكاتش الى بريخت) لمعارضيهم الحداثيين على امتداد عقود، ابتداء من عشرينيات القرن الماضي، والذين كانوا قد جعلوا من النص المفتوح واللوحة المفتوحة، ومن التجريد، أساسا لرؤية استيتيقية جديدة بمقتضاها يكون العمل الفني تعبيرا عن نوازع العوالم الداخلية للفنانين والكتاب والمبدعين أكثر من كونه صورة انعكاسية للعالم الخارجي. الاستيتيقا القائمة على جعل النصوص أو اللوحات أو العروض المسرحية، تعبيرا عن الذوات الداخلية، وحدها كانت، حسبما ذكر جامسون، قد وصلت الى ذروتها حينما أصبح التجريد قيمة فنية جمالية في حد ذاته، فانقطعت الصلة بالجمهور وبالعالم الخارجي ثم بالواقع، واقع الناس وواقع الاشياء المحيطة بهم. وضمن هذا الذوق الاستيتيقي الحداثي كان من الطبيعي، بل ومن المحتم على وجه الدقة، أن يغيب الجمهور وان يلغى أصلا من دائرة اهتمام الفنانين والمبدعين وأن تتحول عوالم الفنانين الى فضاءات مغلقة على ذاتها، وألا يتم الحوار حينما يتم إلا بين نخبة المبدعين، لا يستطيع ان يقترب منه إلا من أوتي حكمة من حكم التجريد. تعبير الجمهور الغائب الذي جرى ذكره في مجال الاستيتيقا من طرف جامسون، أجده ينطبق تماما على المجال السياسي عندنا حينما نفكر في جماهيرية السياسة عندنا. فلقد أصبح تقلص جمهور السياسة مقاسا بتراجع أعداد المنخرطين والمواكبين والمهتمين باللعبة السياسية، أحد السمات المميزة للوضع العام منذ سنوات غير قليلة. وهذا التقلص في جماهيرية السياسة وصل اليوم الى مدى لم يعد فيه مفهوم العزوف كافيا لتوصيفه أو تفسيره. تبدو مجريات اللعبة السياسية عندنا أشبه ما تكون بمباراة مملة في كرة القدم في ملعب يتسع لعشرات الآلاف من المتفرجين، لكن ثقل المباراة ومللها وخواء الرهان المطروح جعل المدرجات فارغة إلا من بعض المجموعات الصغيرة ، تتابع تحركات اللاعبين دون حماس أو اقتناع بما يقومون به داخل الملعب هي مباراة في غياب الجمهور مع كل ما ينتج عنها من تداعيات على مستوى قيمة المباراة وقيمة اللعب. الحداثيون المناهضون للواقعيين في مجال الآداب والفنون، والذين قارعهم على صعيد الفلسفة الاستيتيقية جورج لوكاتش وبرتولد بريخت، كانوا قد بلوروا نظريات ورؤى جديدة في مجال الاستيتيقا قدموها بشجاعة وبالمكتوب للقراء المتتبعين، وكانت تلك النظريات والرؤى محور سجالات في الساحة الفنية، فتحت وعي النقاد على جدلية الذاتي والموضوعي، والفردي والجماعي في دنيا الابداع الفني. ترى ما الذي يقدمه المسؤولون عندنا عن جعل السياسة تمارس في غياب الجمهور من رؤى أو تصورات؟ الحداثيون المناهضون للواقعيين والذين تحدث عنهم جامسون أداروا ظهورهم للواقع الخارجي وللتقليد الأرسطي الكانطي في مجال الاستيتيقا، معوضين مهمة التلقي على الجمهور العريض، لكنهم في المقابل أنتجوا أعمالا لا يمكن الطعن في قيمتها الفنية والجمالية، أو في قابليتها لكي تصنف كإبداعات. ترى ما الذي قدمه للسياسة ولربيرتوار السياسة في بلادنا أولئك المسؤولون عن جعل السياسة تمارس في غياب الجمهور؟. المؤكد على كل حال ان السياسة في بلادنا لن تستعيد عافيتها إذا لم تستعد جمهورها، كيف؟ ذلك هو السؤال.