هذا المؤلف ليس سيرة حقيقية وكفى، إنه كذلك دريعة اتخذناها للحديث ليس على السي بوكماخ فقط ، ولكن عن كل أولئك البوكماخيين الذين تفانوا في تعليم أبناء هذا الوطن، دون انتظار مقابل أو مكافأة؛ كتلك التي منحت للمقاومين؛ ومع ذلك فالمدرسون يعتبرون مقاومين، يطاردون الجهل داخل المدن وفي بقاع نائية من هذا البلد، دون المطالبة بتعويضات النقل ، أو بسيارات الخدمة التي يتبختر داخلها العديد من أطر الجماعات والعمالات والمقاطعات، مع أن أغلبيتهم لم يتجاوز مستواها الثقافي الثانوي، إضافة إلى أن سيارات الخدمة لا تخدم إلا مصالحهم الخاصة. هذا المؤلف ليس سيرة فقط ? كنت أقول ? وإنما مطية للوقوف على مواضيع وقضايا، يظن أصحابها أن التاريخ غفل عنها، فقط لأنها تربوية وليست سياسية. و أؤكد أن هذا المؤلف لا يمثل ربما إلا وجها من الوجوه العديدة لحياة السي أحمد بوكماخ، نظرا لغياب المراجع ولرفض من يتوفرون على البعض منها بمحيطه القريب، لمدنا بها، رغم إصرارنا ومحاولاتنا المتكررة للحصول عليها؛ الشيء الذي قد يكون السبب في سقوطنا في بعض الهفوات. نرجو من القارئ الكريم أن يغفرها لنا إن هي وجدت . وتعتبر سلسلة إقرأ طوباوية نظرا لما بثه الأستاذ أحمد من أفكار تصب كلها في اتجاه تعليم القراءة وتحبيبها للتلاميذ لأن حسب رأيه، دور المدرسة ليس تعليم القراءة والكتابة ومساعدة المرء على النجاح في الإمتحانات لاكتساب شهادات . وإنما زرع بدور حب القراءة ليستمر التلميذ في القراءة بعد مغادرته كراسي الفصل . فلنستمع إلى الأستاذ بوكماخ وهو يتكلم في مقدمته للكتاب الرابع لقسم المتوسط الأول . ص. 2 : « سألت تلميذا في الصيف الماضي: ماذا قرأت من كتب أو مجلات ؟ فقال لي : أنا لا أطالع غير الكتب المدرسية، لأني أريد أن أنجح في الإمتحان ، وأكون الأول في ترتيب قسمي . هذا التلميذ يا أصدقائي الصغار جاهل وإن كان متعلما في مدرسة . أمي وإن كان الأول في ترتيب قسمه. فإن التلميذ الذي لا يقرأ إلا الكتب المدرسية لا يمكن أن تزيد معارفه شيئا على معارف حامل الفأس الأمي ، الذي لم يدخل مدرسة ولم يتلق العلم عن معلم. وسيظل طول عمره أبله، ناقص عقل ، ضيق الأفق ، لا يحسن رأيا ولا عملا ولا فهما للحياة .» القراءة التي ظل الأستاذ بوكماخ ينادي بتحبيبها لأجيال ما بعد الإستقلال، على طول صفحات السلسلة والتي كان على الدوام يخصص لها بعض القصص في آخر المؤلف، و لو مترجمة ( عنزة السيد سوغان مثلا ) ؛ هذا الحب للقراءة الذي ابتليت به جل البلدان المتقدمة فكان لها عكازا اتكأت عليه للسير على طريق التقدم العلمي والتكنولوجي والفني؛ هذا الحب للقراءة ? أقول ? لم يتحقق حتى بعد ما ينيف على خمسين سنة من الإستقلال. ليس تحبيب القراءة هو الذي يعتبر طوباويا ، وإنما المناداة بالقراءة في وقت أنيطت فيه المسؤولية بفريقين من المسؤولين، يتصارعان فقط على توجيه السياسة التعليمية الوجهة المناسبة لمصالحهم؛ الأول فرنكوفوني يحلم بتمديد استعماري لغوي، والثاني معرب متشبع بأفكار مشرقية. وكلاهما متزمت وأناني، يفكر في مصالحه الطبقية أو الإثنية أو السياسية أكثر مما يفكر في مصالح هذا الوطن. ولقد سبق وقلت أن سلسلة إقرأ سابقة لأوانها؛ والدليل بسيط، يتمثل في ملاحظتين؛ أولاهما أن كتب إقرأ لازالت تحتفظ بمكانة محترمة على قائمة المبيعات من الكتب المدرسية، رغم مرور العديد من السنين على تسريحها من العمل؛ وذلك بشهادة مدير دار النشر «الشروق» (الحبوس الدارالبيضاء ) الذي لا زال يسهر على إعادة طبعها . والملاحظة الثانية أن جميع من حاول التأليف المدرسي بعد بوكماخ ، لم يستطع إخفاء السير على خطاه ( أنظر مقدمات المؤلفات ثم الألوان )؛ سواء منهم من تخفى لأكل نصيبه من الكعكة وراء تسمية «مجموعة من المربين « أو من تسلحوا بنياشينهم الرتبية (مفتشين رئيسيين ، مفتشين جهويين وما جاورهم)، ليحصلوا على بطاقة بيضاء تسهل عليهم خوض معركة التأليف المدرسي؛ تلك المعركة التي حمي وطيسها خلال الثمانينات، بعد فتح الباب للمقاولة التعليمية من مؤسسات فاخرة وكتب مدرسية محضرة في ثلاثة أشهر كما تحضر كتب « تعليم اللغات في 3 أيام.» لن يختلف مدرسان حول كون سلسلة إقرأ رائدة بل وسابقة لأوانها في العديد من وجوهها؛ ونذكر من بين الكثير من الأمثلة، فيما يخص المواضيع، الإهتمام بالطبيعة والبادية. فإذا قمنا بإحصاء طفيف حول المواضيع المتناولة بسلسلة إقرأ، سنلاحظ أن الأرياف بفصولها وأشجارها ووديانها وصياديها وحيواناتها وقناصيهم، تحظى بحصة الأسد في تغطية صفحات السلسلة . من، غير أحرضان، كان يهتم خلال الستينيات والسبعينيات بالبادية ؟ إلا أن الفرق بين الرجلين، هو أن أحرضان جعل من اهتمامه بالبادية مطية لتحقيق أهداف سياسوية؛ في حين أن بوكماخ كان يهدف إلى جعل أبناء المغاربة يستأنسون بما أصبح اليوم يسمى البيئة. ولقد انتظرنا الألفية الثالثة كما أسلفت الذكر، لنرى وسائل الإعلام تلتفت أخيرا لتوعية الفلاح ومساعدته على حلول بعض من مشاكله القطاعية. وبعد هذه الملاحظات التي صبت تقريبا جميعها في إبراز الوجوه الإيجابية لسلسلة إقرأ، إنني أتساءل، وقد يتساءل الكثير معي، وخصوصا من بني جيلي، كيف أمكن لمدرس بالمدارس الخاصة، والذي لم يستفد أبدا من أي تكوين تربوي رسمي ، أي بمدارس المعلمين العمومية، كيف أمكن له أن يؤلف سلسلة، استطاعت، بفضل منهجيتها ومضامينها، أن تشق طريقها بكل تبات، لما يزيد على أربعين سنة، ولا زالت بعض من جمال قافلتها تتابع السير رغم نباح كلاب من حولها ؟ تبدو الإجابة صعبة على هذا التساءل ، ولكن إذا عدنا لكتاب جون جيمس ديمس ، المعنون بحركة المدارس الحرة بالمغرب ما بين 1919 و 1970? في صفحته 110 بالفقرة الأخيرة سنقرأ: « لعبت المدارس الحرة دورا مهما،غير متوقع ، في تخطيط الوزارة غداة الإستقلال. فأولا اعتبرت أحسن المدارس الحرة في عهد الحماية نموذجا للمدارس العمومية في المغرب المستقل. ولا زال محمد الفاسي ، وزير التعليم من 1955 إلى 1958، يتذكر بأن الوزارة، في تخطيطها للمدارس العمومية الجديدة، كانت تستحضر في ذهنها، خاصة مؤسسة امحمد كسوس، لأحمد بلفريج بالرباط، بصفتها مدرسة ذات تعليم مزدوج من مستوى رفيع .» وإذا علمنا أن الأستاذ بوكماخ فضل في بداية الإستقلال الإنخراط في سلك التعليم بذل الهروب إلى قطاعات أخرى مربحة ماديا، في وقت كانت فيه المناصب تهدى، لأنه كان توفر على مشروع تربوي كما سيتجلى على مرور السنين، سنفهم أن مؤلفا من هذه الطينة لا يمكن أن يتعب نفسه سدى. أريد أن أضيف شيئا إلى شهادة جون جيمس ديمس، لتكملة الجواب على السؤال المطروح. ولم أقف على هذه الحقيقة إلا خلال حضوري أول ندوة أقيمت لتكريم الأستاذ بوكماخ بمدينة طنجة يومي الأول والثاني من يونيو لسنة 2012. علم الحضور، وباندهاش كبير، أنه كان ممنوعا على رجال التعليم العمومي محاولة تأليف الكتب المدرسية... لماذا ؟ الجواب لا يعلمه إلا المسؤولون حينئذ عن الشأن التعليمي ؛ إلا أن قرارا كهذا يقول الكثير عن العقلية التي أنيطت بها آنذاك مسؤولية السهر على تنشئة أبناء المغاربة .