هذا المؤلف ليس سيرة حقيقية وكفى، إنه كذلك دريعة اتخذناها للحديث ليس على السي بوكماخ فقط ، ولكن عن كل أولئك البوكماخيين الذين تفانوا في تعليم أبناء هذا الوطن، دون انتظار مقابل أو مكافأة؛ كتلك التي منحت للمقاومين؛ ومع ذلك فالمدرسون يعتبرون مقاومين، يطاردون الجهل داخل المدن وفي بقاع نائية من هذا البلد، دون المطالبة بتعويضات النقل ، أو بسيارات الخدمة التي يتبختر داخلها العديد من أطر الجماعات والعمالات والمقاطعات، مع أن أغلبيتهم لم يتجاوز مستواها الثقافي الثانوي، إضافة إلى أن سيارات الخدمة لا تخدم إلا مصالحهم الخاصة. هذا المؤلف ليس سيرة فقط ? كنت أقول ? وإنما مطية للوقوف على مواضيع وقضايا، يظن أصحابها أن التاريخ غفل عنها، فقط لأنها تربوية وليست سياسية. و أؤكد أن هذا المؤلف لا يمثل ربما إلا وجها من الوجوه العديدة لحياة السي أحمد بوكماخ، نظرا لغياب المراجع ولرفض من يتوفرون على البعض منها بمحيطه القريب، لمدنا بها، رغم إصرارنا ومحاولاتنا المتكررة للحصول عليها؛ الشيء الذي قد يكون السبب في سقوطنا في بعض الهفوات. نرجو من القارئ الكريم أن يغفرها لنا إن هي وجدت . الباب الرابع عشر والأمثلة كثيرة في باقي القراءات المبرمجة بهذه الأقسام . فلنأخذ مثالا آخر من القراءة المعنونة ب: « مرشدي في اللغة العربية»، السنة الثانية الإبتدائية، الصفحة 4، سنجد ما يلي: وهي عبارة عن توجيهات عامة: فتحت عنوان « أتواصل « يقول المؤلف : « أوظف رصيدا معجميا مناسبا للمجال « ثم : « أستعمل وأركب وأحول أساليب لغوية وظواهر تركيبية ... ثم . « أستثمر مكتسباتي في إنتاج نص لغوي مستعينا بأنساق لغوية مقترحة ... يبدو أن صياغة أسئلة أو توجيهات على هذا النحو، يمكن قبولها بأقسام البكالوريا، أدبي ربما، و ليس بالقسم الثاني من الإبتدائي. وأعفيكم إخواني من أمثلة كثيرة بالمؤلفات المدرسية الموجهة لأقسام الإبتدائي والمصادق عليها من قبل وزارة التعليم. من يصادق على هذه المؤلفات ؟ هل هناك لجنة ؟ من هم أعضاؤها ؟ كيف يتم انتقاء هؤلاء الأعضاء ؟ هذه كلها حقائق مغيبة عن أولياء أمور الثتلاميذ وعن المعلمين أنفسهم. وتدخل في خانة التعتيم عن المعلومة . إلا أن تكهن بورتريهات هذه الأشباح المتخفية بردهات وزارة التعليم لا يدخل في عالم السحر. إنهم ولا ريب إداريون حتى ولو كانوا مفتشين رئيسيين. هم بصراحة أصبحوا أناسا علاقتهم بتحرير المحاضر والإرساليات والإجتماعات، أكثر من علاقتهم بالمناهج وطرق التعليم. يقضون الوقت في أنشطة موازية لمنصبهم أكثر مما يقضون في الحضور داخل الأقسام أو في مراجعة المؤلفات المبرمجة لتحيينها. ولقد تعرفت خلال مسيرتي المهنية على مفتشين لا سامحهم الله، كانوا يفاوضون المعلمين أو الأساتذة على النقطة الممنوحة. فيضعون تقارير خيالية ونقط حسب «هيئة الزبون» كما يقول الفرنسيون. فيتفادون بهذا السلوك حتى ذلك الحضور الذي تستوجبه الزيارة. والنتيجة أن المسافة تبتعد بين القسم و أطر تربوية من هذا النوع. ولا زالت ذاكرتي تحتفظ بمشهد فاجأني و أنا مدرس مبتدئ للغة الفرنسية بالسلك الأول، بالكارة. رأيت أحد الأساتذة بأم عيني، ولا أظنه سينكر الشهادة يوم القيامة، رأيته يضع بصندوق سيارة السيد المفتش (كما كنا نسموهم خلال السبعينيات ) نصف خروف. وكان هذا السلوك قد أصبح تقليدا خلال السبعينات، وسط رجال التعليم على صعيد المغرب . فإضافة إلى المقابل المادي الذي يتم الإتفاق عليه بين المدرس والمفتش، مباشرة أو عن طريق وسيط،غالبا ما يكون السيد المدير، ضمانا لترسيم المدرس المعني ، فإن هذا الأخير يتكفل باقتناء ما لذ وطاب للسيد المفتش. وفي نقاش مع أحد نواب وزارة التعليم، بعمالة الحي الحسني عين الشق، خلال بداية الثمانينيات، حول الرداءة التي بدأ التعليم العمومي يتصف بها، وخصوصا التعليم الإبتدائي، مما دفع العديد من الآباء إلى الهروب بأبنائهم نحو التعليم الخاص، صرح لي السيد المندوب أن أول من بدأ بتخريب التعليم الإبتدائي هم المفتشون. نعم وها نحن نراهم اليوم يتابعون التخريب بإلقاء دلوهم ببئر التأليف المدرسي . التأليف المدرسي في نظرنا هو « بلية « بالتعبير الشعبي، هوس بالتعبير الفصيح، وقد يقوم به صاحبه دون انتظار مقابل ؛ هذا عموما ، أما إذا تعلق الأمر بالتعليم، فإن الأمر يتطلب شروطا لا مناص من استيفائها. ونذكر منها الحضور وباستمرار داخل القسم لمواكبة التطورات المحسوسة والملموسة التي تجري بين جدران القاعات وعموما داخل فضاء المؤسسة؛ وهي تطورات على مستويات عدة منها الإجتماعية والبيداغوجة والتربوية ونذكر منها على سبيل المثال رصد الصعوبات التي تعتري المتعلم خلال إعادة إنتاج المكتسبات، من خصاص لغوي كالنحو والصرف والإملاء ،أو تعبيري، شفويا كان أو كتابيا كي يتسنى للمؤلف التقاطها وإعادة إدماجها في دروس المراجعة ( الشيء الذي يقوم به المدرس على الدوام ). يجب أن نعلم أن المؤطر التربوي بالبلدان المتقدمة ( سويسرا على سبيل المثال ) يظل يمارس داخل القسم نصف التوقيت المخصص لزملائه ويقضي النصف الباقي من استعمال زمانه بين الزيارات لتأطير الزملاء والإدارة . على مؤلف الكتب المدرسية أن يكون على علم بتطور المستويات سواء داخل القسم الواحد أو داخل مؤسسة أو جهة من جهات المغرب؛ الشيء الذي يساعده وقت صياغة أسئلة التمارين في البحث عن الصيغة الملائمة لغويا على الأقل لطرح هذه الأسئلة. ولا يتسنى هذا العمل انطلاقا من الإطلاع على المعدلات التي تم الحصول عليها بهذه الجهة أو تلك . يبدو أن هذا التتبع والمواكبة كان الأستاذ بوكماخ يسهر على احترامهما ؛ الدليل هو ما صرح به في مقدمة الطبعة العشرين لكتاب قسم التحضيرى المنشور في مارس 1963 الصفحة 144: «رغبة في زيادة تحسين الكتاب ، أضفنا إليه درسا في الألف المقصورة واثنى عشر درسا في المراجعة موزعة على أربع عشر أسبوعا بمعدل مراجعة لكل ثلاثة دروس. « ثم يضيف أستاذنا : « وهكذا نزف هذه الطبعة إلى أولادنا مصححة،منقحة،مزيدة : من الصفحات ثلاث عشرة صفحة، ومن الرسوم :أربعون رسما ، ومن الألوان: أربعة بدل ثلاثة . فالأستاذ بوكماخ كان إذن على يقظة ،متتبع لمسيرة مؤلفاته ينقح ويضيف ما يجب إضافته ولهذا نجده يقترح أسئلة قابلة للفهم من قبل شريحة كبيرة من تلامذة المغرب. لنعد لأول نص بكتاب إقرأ، المخصص للسنة الثانية من الإبتدائي، فقط من أجل مقارنة بسيطة بينه و بين ما سبق، فسنجد أربعة تمارين فقط. تتمحور إثنان منها حول فهم النص و وصف الصورة. والثالث يتعلق بشرح للمفردات؛ أما الرابع فهو عبارة عن تمرين في التعبير، يكتفي فيه المعلم بطلب التلميذ بملإ فراغ لتكتمل الجملة. فحتى الأسئلة نجدها بسيطة في صياغتها : لنلاحظ الصورة ? شرح المفردات ? لنفهم النص ? أكمل الجمل الآتية. إلا أن هناك ملاحظة لا يجب إغفالها. تتعلق، ليس بمضمون مؤلفات السي بوكماخ، ولكن بتطبيقاته، والجمع هنا مقصود لأنه ليس هناك تطبيق واحد لمضمون هذه السلسلة. فرغم ما كان يوحي به الأستاذ بوكماخ بين السطور من خلال مقدماته الموجهة ظاهريا للتلاميذ، لم ينتبه الكثير من المدرسين الذين استعملوا هذه السلسلة لوصايا المربي الرائد. لنستمع إليه في مقدمة إقرأ الجزء الثاني لقسم الابتدائي الأول الصفحة 2 : « وأثناء قراءتك الجهرية في القسم أود أن يكون كلامك واضحا ، لطيفا على السمع؛ ولكي يعرف السامع أنك تجيد فهم ما تقرأه، وجب أن تكون نبرات صوتك متنوعة بتنوع التعبير، طبيعية لا تكلف فيه .» ولكن لكي يقوم المعلم بهذا المجهود إزاء تلميذه ويسهر على تحقيق نسبة منه على الأقل ، يقول السي بو كماخ مرة ثانية في مقدمته لكتاب المتوسط الأول الصفحة 3 : « وأنتم يا أعزائي الصغار في أشد الحاجة إلى مرشد وفي يحبب إليكم الكتاب ويعودكم على القراءة الحرة ويشوقكم إلى المعرفة ويرضي ذوقكم...» إن هذا الإهمال في التمعن في مقدمات السلسلة من قبل المدرسين لمحاولتهم استشفاف ما يساعدهم بيداغوجيا على تقلين الدروس، ناتج ، ولا شك ، في نظرنا عن عدم الكفاءة التي كانت تطبع العديد من المنخرطين في سلك التعليم في بداية الإستقلال. لنستمع إلى أحد قدامى تلاميذ إقرأ السيد محمد المراكشي وهو يتذكر معاناته الأولى مع معلمه على صفحات أحد المواقع بالأنترنيت « الحوار المتمدن « العدد 2819 (3- 11- 2009): « لكن إقرأ لا تعني الفرح فقط، بل كثيرا من الألم كذلك، مع جزاري القراءة كما أسميهم. وهو الأمر الذي يجعلني أتساءل إن كانت الفلقة والتعلاق والعصا والوخز سياسة دولة في التعليم آنذاك. نعم شكل لي ذلك ألما لا زالت ندوبه في نفسي رغم التماسي المعذرة في الغالب لهؤلاء الذين آلموني، فهم علموني . . . ولكن عندما نقرأ اعترافات من هذا القبيل لبعض القدامى من تلامذة إقرأ ، تتعلق بسلوك كثير من المدرسين الذين لم يستوعبوا فلسفة الرائد أحمد بوكماخ البيداغوجية ولم يستطعوا القراءة بين سطور مقدمات السلسلة نظرا لتكوينهم الضعيف أو لظروف عملهم المتواجد بمناطق نائية من البلاد ولا تسمح لهم بمتابعة تكوين أنفسهم تكوينا فرديا؛ عندما نقف على جل هذه المعطيات، لا يمكن لنا ألا نتساءل هل يا ترى كانت مؤلفات إقرأ رغم بساطتها ووضوحها والتحسينات التي كان صاحبها يقوم بها على مر الطبعات ، هل يا ترى كانت هذه المؤلفات نظرية أكثر منها تطبيقية ؟ أو هل كانت سابقة لأوانها ؟ أو لنقل بكل بساطة ، هل كانت طوباوية ؟ طوباوية ، هذا لا شك فيه . لأن أي مشروع يزداد في الحلم. والأستاذ بوكماخ شأنه شأن جل المبدعين والمفكرين، لا شك أنه كان يحلم بأفكاره ? إن صح التعبير ? قبل أن ينزلها على صطح الأرض. على كل حال كثير من مظاهر السلسلة تشي بالحلم أو الطوباوية، إبتداء من الصور، كما أسلفنا الذكر ونهاية بالأهداف المتوخاة من تأليفه لكتب إقرأ مرورا بالمواضيع المنتقاة. فلقد سبق وأشرنا أن شخوص رسومه وصوره لم يكن لها تقريبا وجود في مغرب الخمسينات والستينات. فعندما أعود بذاكرتي إلى المدرسة القروية التي كانت موجودة خلال الخمسينيات، على بعد ثلاثين كلومتر من سيدي بنور، وأبحث عن سعاد من بين ما أتذكر من زملائي بالقسم، لا أجد شبيهة لسعاد. فكل ما تحتفظ به ذاكرتي، بنيات بدويات يرتدين أسمالا بالكاد تشبه ثيابا بالية . وحتى لما التحقت بالإعدادي بسيدي بنور لم تقاسمنا بعض الطويلات إلا خمس بنات؛ آباؤهن موظفون بالدائرة. كانت هيئتهن تختلف شيئا ما عن هيئة الطفيلات القرويات اللواتي درسن معي بالمدرسة القروية؛ لم يكن بالإعدادية أثر للمكتبة . وقلبت ذاكرتي بحثا عن ذلك الولد الذي يلبس «شورتا» قصير أزرقا و « تيشورتا « أحمرا، فلم أجد إلا أطفالا يلبسون جلاليب أو سراويل من لون التراب كانوا يقطعون كيلومترات عديدة على ظهور الحمير أو على بقايا دراجات لم تحتفظ من من اسمها إلا بالعجلتين، يتناولون عند نصف النهار غداء مكونا من خبزبارد يابس مدسوس بين الكنانيش و شاي بارد محتفظ به في قنينات.