لم تمنع الحرارة المرتفعة التي تخيم على مراكش هذه الأيام محبي المدينة الحمراء من التوافد عليها بكثافة لقضاء عطلة عيد الفطر أو جزء مما تبقى من العطلة الصيفية . فرغم أن درجة الحرارة التي شهدتها المدينة أيام العيد تجاوزت الأربعين وزادت من حدتها كثافة الضباب والتيارات الهوائية الساخنة التي حملتها رياح الشرقي، إلا أن الزوار الذين انتقلوا إليها من مدن مختلفة، تفننوا في إيجاد منابع المتعة بها غير آبهين بقساوة الطقس . وأحدثت الحرارة المتطرفة التي استوطنت عاصمة النخيل أيام العيد، مفارقات وتناقضات في التفاعل معها والتكيف مع إملاءات الطبيعة، التي تجعل الحياة تأخذ أسلوبا خاصا، تتحكم فيه شروط مادية وإمكانات ووسائل، يساهم توفرها أو انعدامها في تغيير طريقة التعامل مع هذا الجو . فقد ألزمت الحرارة القاسية عددا كبيرا من أفراد الأسر المراكشية، الذين تعوزهم الإمكانيات للاستفادة من الوجه الجميل للصيف على الاعتكاف بيوتهم طيلة النهار ، وعدم مغادرتهم لها إلا في حالة الضرورة القصوى. وذلك اتقاء لشر أشعة الشمس الأشبه بمطارق تدق بعنف في الرؤوس، وتصيبها بالدوار والحمى، وتنهك الأجسام، وتنخر حيويتها وتشيع حالة من الارتخاء والكسل فيها . والذين يوجدون منهم في عطلة، ولم تسعفهم ظروفهم على السفر لقضاء أيام استجمام جميلة ومريحة قرب مياه شاطئ هادئ، يجدون في التلفاز ملاذهم طيلة النهار، لتمضية الوقت و تفادي مواجهة قساوة الطقس الملتهبة بالخارج . وينعكس هذا الوضع على حواري و أزقة الأحياء الشعبية التي ظلت طيلة النهار متخففة من كثافة الحركة التي تعرفها عادة ، حتى أن بعضها بدا يومي السبت والأحد شبه فارغ إلا بما نذر من الدرجات والسيارات . وبالمقابل وجد زوار المدينة في الحرارة المرتفعة مشجعا على المزيد من الاستمتاع بفضاءات مراكش دون أن تشكل لهم حالة الطقس عائقا أمام تجولهم بحيوية في أسواقها التقليدية، والأسواق الحديثة الكبرى والمركبات التجارية الضخمة التي حملتها عواصف العولمة في قلب مراكش، فلوحظ تدفق وصل إلى حالة كبيرة من الازدحام فيها وفي المطاعم و المقاهي المجاورة لها . وفي ظل الخصاص الكبير التي تعرفه مراكش على مستوى المسابح العمومية، فقد مكنت درجة الحرارة المرتفعة التي تجتاح المدينة الحمراء هذه الأيام مصحوبة برياح الشركي، من استفادة المسابح الخاصة التي تكاثرت في ضواحي المدينة ، من تدفق زوار المدينة عليها بكثافة غير مسبوقة رغم ارتفاع أثمنتها التي تجاوزت 200 درهم للفرد الواحد دون احتساب ثمن الإكسسوارات المرتبطة بولوج المسبح كسرير الاستجمام الذي يكلف لوحده 150 درهما ، والوجبات و المشروبات ، حيث أن أغلب هذه المسابح تمنع على مرتاديها إدخال أي شيء ماعدا المنشفة و لباس السباحة. ورغم ذلك فهذه المسابح تعرف هذه الأيام اكتظاظا كبيرا من الزبناء المغاربة بالدرجة الأولى . في الوقت الذي يكتفي فيه أبناء الأسر الفقيرة بالاستفادة من خدمات النافورات العمومية التي يستعملون مياهها لمنح أجسادهم حيوية فقدوها بسبب حرارة الطقس . الحرارة التي لا ترحم الرؤوس و تنهك الأبدان والنفوس، حولت مراكش إلى عاصمة ليلية ، فالذين يعتكفون ببيوتهم طيلة النهار ، أو يقللون من تحركاتهم خارجها إلى الحدود الدنيا، يقومون بنزوح جماعي بالليل إلى المساحات المفتوحة بحثا عن هواء خفيف ومنعش. لا يسلم من هذا النزوح الشوارع و مداراتها ، و كل الأشرطة الخضراء الضيقة التي تفصل بين الطرق، ذلك ما يمكن للعين أن تدركه بوضوح في مختلف أنحاء المدينة سواء بباب أحمر و واحة الحسن الثاني بسيدي يوسف بن علي أو قرب السور المحيط بحدائق أكدال بطريق تسلطانت، أو بشارع محمد السادس أو قبالة باب دكالة قرب حي الحارة وأماكن أخرى . السكان لا يذخرون جهدا في توفير أسباب الراحة لاستجمامهم الليلي بهذه الفضاءات، من أفرشة ومأكولات، يصحبونهامعهم ليستجمعوا من رحلتهم الليلية كل أسباب المتعة والبهجة التي تنسيهم ما قاسوه في النهار بسبب فظاظة الطقس . ولا يغادرون مكان استجمامهم إلا مع اقتراب انبعاث قرص الشمس في السماء ليعودوا إلى بيوتهم ، في انتظار التكرار المبدع لذات الرحلة الليلية. وتستفيد المناطق الجبلية المجاورة لمدينة مراكش من الاختناق الذي يفرضه الطقس الحار بالمدينة ، حيث أن أفواجا كبيرة من الأسر التي تزور المدينة، وكذا من ساكنة مراكش اختاروا منتجعات أوريكا أو إمليل أو تغدوين أو أسني للهروب من حرارة مراكش و الاستمتاع بجمال الطبيعة قرب الخضرة و المياه المتدفقة . الحرارة التي تجتازها مراكش هذه الأيام، هي أيضا معاناة لفئة من الناس . فالأطباء المشتغلون بمستشفيات المدينة يتحدثون عن ارتفاع حالات الاختناق والاجتفاف، الناتجة عن ارتفاع درجة الحرارة، والتي قد تصل ببعض الحالات إلى درجة من الخطورة تجلعهم على مشارف فقدان حياتهم مما يستلزم مراقبة طبية صارمة . يكشف هذا الانتقال المتطرف الذي تعيشه مراكش في الأيام الأخيرة، إلى درجات مرتفعة من الحرارة، عن صيف يتحول إلى واجهة للمفارقات الاجتماعية، صيف يكون بالنسبة للبعض فضاء للمتعة والاسترخاء والابتهاج، وبالنسبة للبعض الآخر المنكوب في حظه، مناسبة لتعميق معاناته وحرمانه.