كثيرةٌ هي الكتابات والتعليقاتُ والحَواشي التي أُلّفَتْ عن الرّسُول وزوْجاته: كمْ عددهنّ، وهلْ كلهنّ مسْلمات؟ وهل تزوّج عائشة حقّا وهي بنْت تسع سنين؟ وهلْ كانتْ له علاقة خارج الزّواج، أوْ ما كان يُطلق عليه اسم «أمّ الولد»، وما سببُ ذلك؟ إلى غيرها من الأسئلة. يمكنُ تقسيم هذه الكتابات والتعليقات، عُمُوما، إلى نوْعيْن اثنيْن: نوْع تمجيديّ لا يعمل سوى على تكْرار ما قاله القدماء، أوْ على الأصَحّ كتابات معيّنة للقدماء. وهو تكرار ينطلقُ من رؤْية تقديسيّة للتاريخ، بلْ وتجْهَلُ حقيقة التاريخ الإسلامي، ومختلف سياقاته السّياسية والقَبَليّة والدّينية والجهوية. هذه الحلقات ستكون عرْضا موضوعيا لما دوّنته السير النبوية وكتب الأخبار الأولى، القريبة جدا من عصر الرسول، قبْل أنْ تظهر كتب التفسير والتأويلات الإضافية. كانت زينب بنت جحش، إذن، ممن هاجر مع الرسول إلى المدينة، وكانت امرأة جميلة، «فخطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم على زيد بن حارثة فقالت يا رسول الله لا أرضاه لنفسي وأنا أيم قريش قال «فإني قد رضيته لك فتزوجها زيد بن حارثة [...] جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت زيد بن حارثة يطلبه، وكان زيد إنما يقال له زيد بن محمد فربما فقده رسول الله صلى الله عليه وسلم الساعة فيقول «أين زيد»؟، فجاء منزله يطلبه فلم يجده، وتقوم إليه زينب بنت جحش زوجته فضلا فأعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها، فقالت: «ليس هو هاهنا يا رسول الله، فادخل بأبي أنتَ وأمّي»، فأبى رسول الله أنْ يدخل، وإنما عجلت زينب أنْ تلبس لمّا قيل لها: «رسول الله صلى الله عليه وسلم على الباب»، فوثبتْ عجلى، فأعجبتْ رسولَ الله فولّى وهو يُهمْهم: «سبحانَ الله العظيم سبحان مقلّب القلوب». فجاء زيد إلى منزله، فأخبرته امرأته أنَّ رسول الله أتى منزله، فقال زيد «ألاَ قلت له أنْ يدخلَ؟»، قالت: «قد عرضتُ ذلك عليه فأبى»، قال» :فسمعتِ شيئا؟»، قالت: «سمعته حين ولّى تكلّم بكلام ولا أفهمه وسمعْته يقول: :سبحان الله العظيم سبحان مقلّب «. تضيف المصادر وكتب التفسير أنّ الرسول بعد ذلك، وبينما هو جالس يتحدث مع عائشة، أخذتْهُ غشية فسري عنه وهو يتبسّم ويقول: «من يذهب إلى زينب يبشّرها أنّ الله قد زوّجنيها من السماء، وتلا: «وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولا. مَّا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا. الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلاَّ اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا. مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا.» (سورة الأحزاب، الآيات 37، 40). وما كانَ من عائشة إلاّ أنْ عقّبتْ قائلة: «يا رسول الله، إني أرى ربّك يسارع في هواك» (انظر التفاصيل في «الكشاف» للزمخشري، و»تاريخ الملوك والأمم» للطبري، و»المنتظم» لابن الجوزي، و»الطبقات الكبرى» لابن سعد). وهكذا، سوف يطلّق زيد زوجته زينب مفسحا المجال للرسول الذي سوف يتخذها بدوره زوجة له. وتورد النصوص القديمة الكثير من التفاصيل في هذا الشأن: ذلك أنه لما انقضت عدّة زينب بنت جحش، قال الرسول لزيد بن حارثة: «ما أجد أحدا آمن عندي أو أوثق في نفسي منك، ائْت إلى زينب فاخْطُبها عليّ»، قال: فانطلقَ زيد فأتاها وهي تخمر عجينها فلما رأيتها عظمت في صدري فلم أستطع أن أنظر إليها حين عرفت أن رسول الله قد ذكرها فوليتها ظهري ونكصت على عقبي وقلت يا زينب أبشري إنّ رسول الله يذكرك، ثم نزل الوحي بتزويجها له» (طبقات ابن سعد). وكانت زينب بنت جحش تردّد على مسامع الرسول: «يا رسول الله إني والله ما أنا كأحد من نسائك. ليست امرأة من نسائك إلا زوّجها أبوها أو أخوها وأهلها، غيْري زوّجنيك الله من السماء». وتُعتبر زينب بنت جحش هي التي ضُرب ابتداء منها «الحجاب» بصفة رسمية. ذلك أن ليلة زواجها، دعا الرسول إلى بيته عددا من المدعوين، من مختلف الشرائح، والذين قُدِّم إليهم اللحم والخبز. وبعد الانتهاء من الأكل خرج المدعوّون، وبقي البعض منهم جالسين يتحدثون بينما الرسول خرج ليسلّم على زوجاته. وهناك من يقول إنّ أيدي المدعوين كانتْ تلتقي بيديْ زينب أثناء الأكل. ومن ثمّ، يؤكّد أنس بن مالك بأنّ الحجاب تمّ التشريع له في هذا اليوم. (انظر: «تفسير ابن كثير»، الجزء الثالث، ص. 608). لكن ليْس المقصود بالحجاب هما ما نراه اليوم من تغطية جسم المرأة لرأسها ويديْها، وإنما كان الحجاب ستْرا وحاجزا يوضع بين «بعض» نساء الرسول وليس كلّهنّ، كما سنرى فيما بعد، وبيْن المدعوين إلى بين النبيّ. وحين تزوّجها الرسول لمْ تكن تتجاوز الثلاثين من عمرها، ووافتها المنيّة وهي في الخمسين. غدا: أمّ حَبيبة بنت أبي سفيان