بعد أن انتهت جلسات المحكمة العسكرية وقبل أن تصدر الأحكام وأثناء زيارتي للأخ مختار نوح في محبسه تقابلت مع الدكتور محمد بديع إذ كان يجلس في مكان الزيارة ومعه بعض أهله، فسلمت عليه وأبلغته سلام الجميع فهمس في أدني قائلا: اذهب للمحكمة العسكرية واطمئن على الأحكام. تعجبت من طلبه: وكيف ذلك وموعد الأحكام لم يحن بعد!! اذهب واسأل (»واللي يسأل ما يتوهش») يا أخ ثروت.. ثم تركني وانصرف لأهله. لم آخذ طلب الدكتور بديع مأخذ الجد إلا أنني بعد أيام ذهبت للمحكمة العسكرية بالحي العاشر بمدينة نصر أتلمس الأخبار وأتذرع بطلب «»فتح باب مرافعة«« زعمت أنني أرغب في تقديمه، قابلت سكرتير الجلسة فوجدت ملف الدعوى بكامله أمامه، وحين تعجبت وقلت له: الدعوى محجوزة للحكم والمفروض الملف عند القضاة فماذا يفعل عندك؟ قال وكأن الأمر لا يعنيه: وهل تظن أن المحكمة ستصدر الحكم وفقا للملف؟! أنت رجل طيب. طيب طيب، معي طلب فتح باب مرافعة أرغب في تقديمه. قدمه كما تحب، ولكن.. انتظر.. العميد حسنين الذي في مكتب المدعي العسكري قال لي من قبل إنه يريدك، فمن الأحسن أن تقدم له طلبك هذا. أشرت إلى صدري وأنا أقول: يريدني أنا، أنا!! هل قال لك ذلك؟ من هو العميد حسنين هذا!؟ ألا تعرفه؟ لا.. إطلاقا. ما على الرسول إلا البلاغ، عموما هو في مكتبه بالدور الخامس، تستطيع أن تزوره الآن وتقدم له طلبك، تعال معي وأنا أوصلك لمكتبه. كان العميد حسنين يجلس وحده بمكتبه وحين دخلت عليه كان يقرأ إحدى الصحف اليومية و يمسك سبحة في يده ليست كباقي المسابح التي نمسكها ولكنها سبحة كبيرة بعداد، فوجئت به وهو يرحب بي باسمي ولم أكن قد رأيته من قبل. (أهلا بك يا استاذ ثروت، شرفتنا، اتفضل اقعد. جلست على الكرسي المواجه لمكتبه وأنا أقول: أهلا وسهلا يا فندم، هل تسمح لي بأن أقدم طلب فتح باب مرافعة في قضية النقابيين وآمل أن يعرض على الهيئة الموقرة قبل جلسة الحكم؟ أه، طبعا، هات الطلب. تناول العميد حسنين الطلب ثم قام بالتأشير عليه وأعطاه لكسرتير الجلسة وكلفه بتقديمه لرئيس المحكمة ثم أمره بالانصراف، وعندما هممت بالانصراف أنا كذلك شاكرا إذا بالعميد يلح علي إلحاحا شديدا للجلوس معه بعض الوقت ريثما يطل لي فنجان القوة المضبوط، فجلست وأنا أستحي م كرم الرجل، وخطر على بالي أنهم يجلسون في النيابة العسكرية لا يفعلون شيئا، وأن الرجل أراد أن يقطع وقت فراغه بالحديث معي، أخذ الرجل يهز رأسه هزا خفيفا وهو يجري بأصابعه على حبات المسبحة ويتمتم بذكر الله ثم قال لي وهو يضع على وجهه ابتسامة التقوى: أظن حسن البنا كان صوفيا؟ - جاريته في الكلام: نعم كان في طريقة تسمى بالطريقة الحصافية. - لماذ انحرف حسن البنا عن طريقه الصحيح؟ - أي طريق؟! طريق الإيمان الصحيح، أليس الله رب قلوب، هو الذي يطلع على أفئدتنا؟ ألا يقول الله في كتابه الكريم: [ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين. - نعم هذا هو بلاغ العلم، ويجب أن يقوم به من نال قسطا من العلم ولو بمقدار آية، ولكن القلوب يا أستاذ لها ربها ولا يستطيع أحد أن يتسلط عليها، ادخلوا على الناس بالحب، قاتلوهم بالمحبة، اذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم، ولكن سعيكم للحكم لا يترك مكانا في قلوبكم للحب. - هو حضرتك في طريقة صوفية؟ [نعم، ربنا يهديكم، أعرف أنكم تحرمون الصلاة في مساجد أولياد الله وال البيت. - لا أبدا، أنا لا أحرم هذا، بل أذهب كثيرا لهذه المساجد مصليا وزائرا ولكن يوجد أخوة يحرمون، فلسنا شيئا واحدا في هذا الأمر. ثم انتابتني جرأة فسألته: هل لا توجد - سيادتك - أخبار عن حكم قضية النقابيين؟ ألا توجد إشارات أستطيع أن أبل بها ريقي؟ هز الرجل رأسه علامة النفي وهو يقول: لا والله لا توجد أخبار، ربنا سيجري الخير إن شاء الله. - هل أستطيع أن أقول لك شيئا؟ - تفضل - حضرتك رجل طيب جدا وشخصية جديرة بالاحترام، ويشهد الله أنني أحببتك حين رأيتك. - الأرواح جنود مجندة يا أساذ ثروت، خذ هذا الشريط هدية مني، فيه بعض تواشيح الشيخ ياسين التهامي، هل سمعته من قبل؟ - نعم سمعته مرة. - ستستمتع بهذه التواشيح، فالشيخ ينشد فيها لسيدي عمر بن الفارض، وفي الشريط قصيدة رائعة هي «حق هواك»« اسمعها وأنت وحدك، فهذه قصيدة تحب الخلوة. تبادلنا أرقام الهواتف، وظلت الصلة بيني والعميد حسنين قائمة لفترات طويلة حتى بعد خروجه من الخدمة، فقد ساعتده في القيد في نقابة المحامين، وذهبت معه مرة لجلسة ذكر مع بعض أصحابه في الطريقة، وكنت بين الحين والآخر ألجأ إليه بحسبه أصبح محاميا، فيساعدني في إنهاء بعض القضايا المتعلقة بموكلين متهمين في قضايا »»التهرب من التجنيد«« وكنت أسند إليه في أحيان أخرى الحضور والمرافعة في قضايا عسكرية، والحق أنه كان يبلي فيها بلاء حسنا، وفي كل مرة ألتقيه فيها كنت أفتح حوارا حول الطرق الصوفية فأزداد معرفة بدروبها ورجالها، وذات يوم أصبح العميد حسنين هو إحدى أكبر المفاجآت في حياتي. *** يسأني صديقي دائما: ماالذي كسبته من محاولاتك التي بذلتها كي تصل الى الحقيقة؟ أظنك خسرت كثيرا. نعم يا صديقي، خسرت كثيرا، كي أكسب نفسي. أعود إلى اوراقي التي دونت فيها مذكراتي كي آخذكم خطوة خطوة نحو كشف المستور، فالقصة لم تبدأ بعد، والحكاية مازالت في قلب الحاكي، تضع نفسها على الأوراق على مهل وتؤدة، وهأنذا أقرأ قصة إيكاروس الذي رام الوصول الى الحقيقة فأخذ ينشد أهازيجه متزنما: من رام نبع النور حاك نسيجه حبلا إلي آفاقه ثم ارتقى فتسلقوا صوب السماء وشمسها فلرب طين قد سما فتسلقا ظني أن كل من يحاول الوصو الي الحقيقة هو إيكاروس الجديد، فخلف كل تجربة إنسانية ثرية إيكاروس الذي لن يموت ما بقيت الحياة. الجماعة محضن كالأم، ولكنها يجب أن تتصرف كأم راشدة، الأم الطيبة صاحبة الأمومة الخالصة لا تحرم الوطن من أبنائها، ولا تسيطر على قراراتهم، الإخوان أحوج ما يكونون الى الوطن، يحتاجون إلى الوقوف على أرضية الوطن لا على أرضية الجماعة، هم في أشد الحاجة لحضن الوطن لا حضن الجماعة، فإذا تنكبوا سبيل الوطنية فيجب أن نأخذ على أيديهم ليعودوا للصف الوطني. هكذا حدثتني روحي، وهكذا تحدثت أنا مع محمد منيب، من محمد منيب؟ إذن اسمعوا قصته وقصتي، تلك القصة التي أماطت اللثام عن جزء من أسرار جماعة الإخوان المخفية، أو قل أماطت اللثام في المقام الاول عن نفسية من يعيش عمره أسيرا «تحت التوقيف»« في جماعة الإخوان، أو بالأحرى في جماعة سرية لا تعرف كيف تمارس الاختلاف في الرأي بل وتعتبره ذنبا كبيرا، الجماعة السرية هي جماعة «إلغاء العقول««. محمد منيب المحامي، نقابي شهير، شغل - بعد هذه القصة - عضوية مجلس نقابة المحامين متحالفا مع جماعة الإخوان المسلمين، ثم شغل عضوية مجلس الشعب متحالفا أيضا مع جماعة الإخوان، انخرط منيب في الأنشطة السياسية الناصرية وكان متهما في إحدى القضايا التي حاكمت الناصريين في أوائل الثمانينيات، وبعد خروجه من المعتقل ساهم في تأسيس حزب الكرامة وأصبح أحد رموزه، وقد ربطتني به صلة صداقة واحترام متبادل، فهو رجل مثقف دمث الخلق، يجيد عرض فكرته ويقاتل من أجلها، ولعلكم ستعجبون حين أقول لكم إن محمد منيب كان هو مفتاح البداية. بعد فترة المخاض التي انتهت بخروجي من الجماعة عام 2002م والتي اعتبرتها شهادة ميلاد جديدة لي، حرصت على مقابلة معظم رموز الحركة الوطنية في مصر، والحديث معهم وإنصات السمع لهم، فالذي أصيب بالصمم الجزئي بحيث أصبح لا يسمع إلا من اتجاه واحد، يتوق شوقا لكل الأصوات من كل الاتجاهات إذا ما انفتحت اذناه على الدنيا، وحين جمعتني الأقدار بالاستاذ محمد منيب دار بيننا حوار طويل عن التجربة الناصرية و التجربة الإخوانية. قلت لمنيب: منذ فترة ليست بالقصيرة وأنا أعيش حالة مراجعة فكرية عن الإخوان والحركة الإسلامية وأولوياتها وفهمها، وأظن أنني وصلت من خلال هذه المراجعات والقراءات المتنوعة إلى مرحلة متقدمة، أجدني الآن أقف على أرض غير أرض الإخوان. رد منيب مندهشا: مرحى يا صديق، نحن كذلك في الكرامة، فعلنا مثلما تفعل ولعلك تابعت تصريحات حمدين صباحي عن رؤيته للتجربة الناصرية ونقده لما يتعلق بسلبيات الفترة الناصرية فيما يتعلق بالحريات. قلت: أنا جلست مع ياسر فتحي المحامي كثيرا في الفترات الماضية أنت تعرفه طبعا، وهو صديق عزيز ووالده من الأصدقاء المحببين لنفسي، وقد دارت بيننا حوارات مفتوحة، كانت عبارة عن عصف ذهني، ياسر من القيادات الناصرية كما تعرف إلا أن تفكيره أقرب الى اللبيرالية، وقد طرحنا معا بعض الأسئلة الهامة، منها مثلا أنني أنتمي إلى التيار الإسلامي وعلى وجه التحديد الإخوان المسلمين، المفروض أنني داعية أدعو الناس لمنهجي، ثم قررت أن أخوض الانتخابات، فقلت للناس انتخبوني لأن الإسلام هو الحل، هه، هل أت معي يا محمد؟ محمد منيب: معك طبعا. قلت مستطردا: وهناك آخر رشح نفسه وقال للناس: انتخبوني لأنني أملك الخبرات والإمكانات. معظم الناس هنا بطبيعتهم المتدينة سينتخبون صاحب شعار» »الاسلام هو الحل»« لأنه سيكون في ذهنهم كأنه هو الإسلام، ليست هذه هي المشكلة، هذا أمر بسيط، ولكن ما هو شعور من سينتتخب صاحب شعار «»الإسلام هو الحل»« ناحية من رشح نفسه ضد صاحب هذا الشعار. محمد منيب: المعنى واضح طبعا. أكملت: الطبيعي أن يتسلل لضمير الناخب مشاعر سلبية ضد من رشح نفسه ضد» الإسلام هو الحل»، سيعتبره قطعا ضد الإسلام، أليس كذلك؟! خذ عندك أمرا آخر، أنا أدعو الناس لمنهجي، وأقول لهم كونوا معي فأنا وسطي معتدل، ثم بعد ذلك إذا جاءت الانتخابات أستدير بوجهي الناحية الاخرى وأقول لهم: أنا صاحب الحق وأنتم لستم على شيء. الانتخابات تورت العداوة والبغضاء، وتشحن النفوس بالكراهية والتحدي، فكيف أدعو الناس ثم أقف معاديا لهم أو لبعضهم؟! الانتخابات بموروثاتها وتفريعاتها ضد طبيعة الدعوة والعمل الدعوي، فإما أن أكون داعية و إما أن أكون منافسا للناس فالداعية لا ينافس أحدا ولكنه يضمهم الى قلبه، وقد فتحت لنا هذه الحوارات يا أستاذ حمد آفاقا جديدة في المعرفة وبسطت لي طريقة في الاستقراء، وقد انكببت على القراءة بعد ذلك في كافة مجالات المعرفة واضفت لمشروعي الفكري أشياء كثيرة، وأنا الآن أكتب بعض أفكار عن الأفكار التي اختلفت معها وبسببها مع الإخوان، والحقيقة أنني أدونها لنفسي. منيب: ولماذا لا تنشرها؟ أنا ايضا شرعت في كتابة أفكار عن التجربة الناصرية ما لها وما عليها، فهناك العديد من الأخطاء التي شابت التجربة الناصرية، واظن أنه من المفيد للوطن أن يكتب كل منا تجربته ورؤيته لفصيله ما له وما عليه، أظنها ستكون كتابات ذات فائدة كبرى. قلت موافقا: والله شيء طيب، أنا مستعد للنشر، فمثل هذه الدراسات النقدية يجب أن تخرج للناس، ويكون من الأفضل أن ننشر معا، ليتك تكتب مقالات عن نقد التجربة الناصرية، و اظن أن هناك الكثير من الصحف التي سترحب بالنشر لنا. منيب: سأكتب، تقترح في أي مكان ننشر؟ قلت: أنا متواصل مع كثير من الصحف، وأستطيع الاتفاق مع جريدة »»صوت الأمة«« على هذا. منيب: فليكن، اكتب ثم سأكتب أنا بعدك.