أزمنة وأمكنة تتجمع في إناء وحد ثم تتفرق، فيذهب كل منها رلى حال سبيله، تتجمع الأزمنة والأمكنة في عقلي ثم تغادرني فأقتفي أثرها، أبحث عن الحقيقة فيخاطبني صوت ينبعث من داخلي: إنك لا تبحث عن الحقيقة ولكنك تبحث عن الطريقة، حررْ نفسك من الطريقة لتجد نفسك في قلب الحقيقة، ولكن مازال الطريق أمامك طويلا لتتخلى عن الطريقة، أُصِمُّ أذنيَّ عن سماع الصوت، لكن القلوب مرهفة، ما يمر عليها ينطبع فيها، أفتح بصيرتي فأجد الطريق خلفي ولكنني أحاول أن أتجاهل خطوطه التي تمر بقلبي فتنتصب كحجر مارد أمامي يعوقني عن الرؤية، حطم هذا الحجر المارد، اذهب إليه وأعلن ثورتك ضده تُسقط كل الطرق، ولكن ثورة النفس غيرُ دفقة الروح، إنما تَثورُ النفس على الواقع، وأما الأرواح بدَفقاتها فإنها تخترق الواقع وتتجاوزه، فبالدَّفْقاتِ نَخترق الطريق ونصل إلى الحقيقة، وذات ثورة خرجتُ ثائراً، أحمل في جوانحي نفسي الثائرة، وروحي المتأهبة، كان الشارع كبيراً غاصاً بالثوار، وفي الثورات التي تندمج فيها الأنفس تنفعلُ الأرواح فتسمو وترتقي، وعند انفعال الروح رأيته، رأتني، عرفته، عرفتني، أدركته، أدركتُني، تنفصل الروح عن الجسد حين يموت الإنسان وحين يحب، فإذا أحبَّ تدفَّقت روحه متسربة من الوعاء، فترى نفسها وتتعرف عليها، حينها، وحينها فقط لا طريق ولا مكان ولا زمان ولا طريقة، ولكن فقط هي في حق الحقيقة. في قلب الثوار كان صديقي معي، ثائر قديم جاء يجدد ثورته، فالثورةُ مثلُ الوضوء، أمسكَ خالد داود يدي حينما انهالت علينا قنابلُ الغاز والدخان مخافة أن نفترق، فافترقنا، سمعتُ صوته من بعيد يحذرني، حاسب، حاسبْ، قنابل الغاز مميتة، بحثت عنه فلم أجده، احتميت بمدخل عمارة في محاولة مني لأستنشق هواء، بعض هواء ولو كان ملوّثاً تلوُّثاً يسمح ببصيص حياة، هدأ خاطري وانتظم نفسي فخرجتُ أبحث عنه فإذا بصياح من بعيد: حاسب يا حاج، حاسب يا حاج، مَن هو هذا الحاج؟! وبعد أن تلقيت ضربة صماء بكماء على ظهري، أدركت أن الحاج كان أنا، وحين التفتُّ إلى من ضربني وجدتُ بعض الوحوش الجائعة المسكينة التي لا تعرف شيئاً عن شيء، كانوا قد وضعوها في أقفاص حديدية، وعلموها ما يريدون، ولقَّنوها ما ينفعهم لا ما ينفعهم، تلك الوحوش المسكينة كانت في يوم من الأيام تسعى في مناكب الأرض لكسب الرزق، يعبدون الله بالفطرة، حتى ولو لم يسجدوا أو يركعوا أو يقرأوا القرآن، أو يعرفوا أحكام الصيام والحج، هم من أهلنا الذين يرضون بالقليل من الزاد، ويخافون من سطوة الحكام، ما يقوله القائد فس معسكرهم هو الحق ولا حقَّ غيرُه، هؤلاء الثوار عملاء يريدون تخريب البلد، حافظوا على بلدكم واقضوا عليهم، وكلمة القائد حقٌّ، دينٌ، عقيدةٌ، نظرتُ إليهم وجدتهم ضعفاء خائفين بائسين، في قلوبهم وجلٌ، وفي أفئدتهم ذعرٌ، يضربون بقوة وانتقام وكأنني أنا الوحش، لم أشعر بوقع الهراوات على ركبتي، ولا بجذبهم العنيف لديَّ، ولا بسحبهم لجسدي الضعيف على الأرض، فقد كنت قد تركت جسدي، أيترك الإنسان جسده قبل أن يموت؟ نعم، يتركه في الحلم، ويتركه حينما يصبح الحلم حقيقة، رأيتني وأنا أنظر لنفسي من مكان مرتفع، فعرفتُني وأدركتُني، أنا ذلك الشيخ الضعيف صاحب اللحية البيضاء، وهم ثلاثة ضعفاء أيضاً وجوههم مثل وجوه أهلي بالريف، وجوههم فيها طيبة ولكنها الطيبة التي تختلط بالذعر فتحيل صاحبها إلى كائن لا يعرف نفسه، طيبون هم ولكنهم يرتدون أقنعة الوحوش، وجوههم التي يضربون بها ليست هي وجوههم الحقيقية، كان الثلاثة يضربون الشيخ صاحب اللحية البيضاء بعنف على ركبته بهراواتهم ثم يجرونه جراً على الأرض، يذهبون به إلى سيارة الأمن المركزي الرابضة على ناصية الطريق، بحثتُ من المكان المرتفع الذي أحلّق فيه عن (خالد داود) فلم أجده، فرَّقت بيننا السبل، دار في خلدي كيف أنا أراني الآن؟ أأنا هو؟! وكيف أنا في هذا المكان المرتفع، وأنا على الأرض أتلقى الضربات فلا أشعر بألم الضرب ولا وجع تهشم العظام؟! هل هذا هو الموت؟ هو انسحاب الروح من الجسد؟ وهل يموت الإنسان من وقع عصا على ركبته!! أم أن قلبي لم يتحمل الثورة وجسدي لم يتحمل الدفقة، فانطلقت الروح الى عوالمها شغفاً وحُبّاً وهُياماً، ولكنني شعرتُ بروحي مازالت مرتبطة بجسدي لم تفارقه بعد، وأنا في مكاني الذي أحلق فيه أراقب كل ما يحدث، وأشعر بصفاء غريب لا يمكن أن يصفه أحد، تعجز الأقلام والأشعار والأفكار عن نقل كيفيته للناس، لا يمكن أن أقول كيف هو، فمن كان في قلب الكيف يعش لذّضته ويدرك حلاوته ويعجز عن وصفه، من المكان الذي أحلق فيه رأيت نفقاً انفتحَ في السماء فجأة وأطل منه نور غيرُ النور الذي نعرفه، نظرت للشيخ صاحب اللحية البيضاء، فاستشعرتُ كأنه ليس أنا، شعرت بابتعادي عن هذا الجسد الهش الضعيف، واقترابي من النفق النوراني الغريب، وبغثة رأيت ثلاثة آخرين، ثلاثة شباب في عنفوان قوتهم يُسرعون الخُطى ناحية الشيخ المسحوب المضروب، اشتبك الثلاثة مع الثلاثة وتكاثر الثوار مع الثلاثة فصاروا رهطاً، ولم ينضم للثلاثة الجنود الضاربين أحد ففروا وتركوا الشيخ في يد الثوار، حمل الثوار الشيخ الى مدخل عمارة شاهقة فتلاشى نفق النور الذي انفتح في السماء من أمامي، ورأتني وقد هبطْتُ فجأة إلى جسد الشيخ الهش الضعيف من تلك الآفاق التي كنتُ أحلق فيها دون أن أشعر بزمن، تحول جسدي الى مغناطيس بشري جاذب للروح، فأصبحت أنا في داخلي، وفي مدخل العمارة، كانت فرقة إسعاف تداوي عدداً من المصابين، أحدهم أصيب برصاصة تبغي مقتله، وكان المسعفون يتحلقون حوله، وأحدهم كان ملقى بجواري وكانت عينه خارج مقلته، لم أشعر بزمن ولم أشعر بألم مما لحق بي، ولكنني كنتُ عاجزاً عن الوقوف وكأن قدميَّ كلتيهما انفصلتا عن جسدي أو كادتا، وكأنهما تبحثان عمن يحملهما إلا عمن تحملانه. شهورٌ وجسدي معطل عن الحركة، تعطل قبل العملية الجراحية التي أجراها الأطباء لركبتي ومفاصلي وأوتاري وعضلتي الرباعية الممزقة، وتعطل بعد العملية من الرُّقاد في حبس الجبس، والثورة مثلي، ثارت وانفصلت وحرَّكت الأحجار الثقيلة الراكدة، ثم انكسرت ورقدت وتعطلت عن الحركة، كسرها ومزق أوتارها جنود من خير أجناد الأرض من أصحاب الوجوه الطيبة والخوذات الصُّلبة والأقنعة الشريرة، وعطَّلها عن الحركة جنود من خير أجناد الأرض من أصحاب اللّحَى الطيبة والنيات الطيبة والأجساد الطيعة، غير أجناد الزرض، نحن نتفاخر بذلك، فهذا وصف الرسول صلى الله عليه وسلم لنا: »فإن فيها خير أجناد الأرض، ولم هذه الخيرية؟ خيرية الجندي يدركها قواد الجيوش، الجيش الذي فيه خير أجناد الأرض هو الذي لا يتمرد ولا يتمرد، يسمع كل ما يقوله له قائده، يطيع الأوامر حتى ولو كانت ضد طبيعته الإنسانية، هل أدركت لماذا لم يقل الرسول صلى الله عليه وسلم إن جنود مصر هم أقوى جنود الأرض؟ أو أقسى جنود الأرض؟ أو أبرع جنود الأرض؟ أو أذكى جنود الأرض، ولماذا قال إنهم »خير« جنود الأرض؟ لأنهم عندما ينتظمون في تنظيم يصبحون أكثر الناس طاعة لمن هم أعلى منهم في التنظيم، أكثر الناس طاعة لقادتهم، ولا يفضل جندي على جندي إلا بالطاعة، وتلك هي الخيرية. قوات الأمن المركزي، وعساكر الشرطة مصريون مثلنا، طيبون مثلنا، مطيعون مثلنا، كل واحد منهم بين يدي قائده كالميت بين يدي من يغسِّلُه يُقلّبه كيف يشاء، وجنود الاسلام الذين يبحثون عن دولة الخلافة مصريون مثلنا، طيبون مثلنا، مطيعون مثلنا، كل واحد منهم بين يدي مرشده كالميت بين يدي من يغسله يقلّبه كيف يشاء، سترغمك مشاعرك الطيبة على أن تحب جندي الأمن المركزي الذي انهال عليك ضرباً، وجندي الشرطة وأمن الدولة الذي أطلق عليك الرصاص، فهم يسمعون ويطيبعون وليس لهم في الأمر حيلة، وبقدر قسوتهم معك سيكون حبك لهم، وستعذرهم حتماً، فهم يظنون أنهم يصلحون حال البلد وينقذونه من تلك الطغمة الشريرة التي تريد لبلدك الخراب، وسيرغمك الحب على أن تحب جنود »جيش الإسلام« الذين ينهالون عليك سبا وقذفاً وتجريحاً وتكفيراً وتخوينا، سيُرغمك الحب عل يزن تحب الذين يمزقونك ويمزقون سمعتك إذا اختلفت معهم في رأي أو فكر، ستحبهم وهم يضربونك ضرباً مبرحاً إذا وقفتَ في وسط جميعهم وأنت المختلف معهم، فهم يظنون أنهم وهم يضربونك ويعتدون عليك يصلحون حال البلد وينقذونها من تلك الطغمة الشريرة التي تحارب الإسلام وتقف ضد الدين، سيرغمك الحب على أن تحبهم لأنك إنسان؟ وقد خلق الله الإنسان لكي يحب، فإذا زادوا في كراهيتهم زد في حبك، وذات يوم سيعلمون أن الإسلام هو الحب. لكل منا أسطورته، حُلمه، كنزه الذي يختبىء في مكان ما، تحكي الأسطورة أن الإنسان منذ اللحظة الأولى له وهو يحلم بكنزه، فيظل يبحث عنه طول عمره، تنقضي الأعمار فلا يجد بعضنا كنزه، تتوه الأحلام من بعضنا فيفقد أمله في كنزه الأسطوري، يصل معظمنا الى كنوز مزيفة لا قيمة لها فيقنع بها، وتصل قلة نادرة من البشر الى كنزهم الحقيقي، فإذا فقد بعضنا طريقه وتاه في أحراش الحياة فلم يعثر على كنزه ظلت أسطورته في قلبه. تحكي أسطورتي أنه ذات يوم منذ زمن بعيد تسرَّبت روحي فدخلت جماعة الإخوان وذات زمن آخر تسرَّبت روحي فخرجت من تنظيم الإخوان، وبين الزمن و الزمن كانت لي أيام أبحث فيها عن الكنز الأسطوري، وكلما ظننت أنني اقتربت منه وجدته قد ابتعد عني بمقدار ما اقتربت منه، تحكي أسطورتي أنني وأنا أبحث عن الكنز صرت من الإخوان... وصار الإخوان مني. وفي الإخوان نزفتُ نفسي. وللإخوان سكبتُ نفسي. وفي الإخوان نسيتُ نفسي... فتلاشيتُ... كقطرة ماء تبخرت. وحين يوم وقعت قطرةُ الماء من السحابة.. فتألمتْ.. ومن ألمها ستنبثُ شجرةُ الكنز. وذات يوم عرفت قطرة الماء أن الضياء ينير الطريق ولكنه أحياناً يُعمي البصر. مرت سنوات وأنا في قلب الإخوان، رأيت فيها أفكاراً ترتفع وأفكاراً تتهاوى، شخصيات حملت الجماعة، وشخصيات حملتها الجماعة، كان في ظني أن التنظيم ما هو إلا وسيلة لتوجيه طاقات الفرد الإبداعية وتنميتها، فإذا به وسيلة لتكبيل الفرد في سلسلة بشرية طويلة أشبه ما تكون بسلسلة العبيد التي كانت تحمل إلى أمريكا من بداية القرن السادس عشر، الفارق أن »كونتا كنتي« الشاب الافريقي المسكين الذي كان يتم أسره من غرب إفريقيا قهراً وغصباً ليدخل في سلسلة المستعبدين، كان لا ينفك عن التمرد على العبودية إلى أن يستنيم لها مجبراً، ولكنه يظل أبدَا الآبدين مستعبد الجسد طليق الروح والنفس، ثم تخرج من صلبه بعد ذلك أجيال لا تعرف إلا العبودية فتظنها الحياة وحينها تكون هذه الأجيال هي أعدى أعداء الحرية، ويكون السَّجَّان هو سيّدَها وقرة عينها، أما الذي يفتح لها الأبواب المغلَّقة لتنطلق الى حريتها فهو العدو الذي يجب أن تقاومه. عبودية التنظيمات الحديدية هي أشد وأنكى من عبودية »كونتا كِنتي«، إذ انها عبودية الأجساد والأرواح والأنفس، هي أشبه ما تكون بقصة »فاوست« الذي كان يبحث عن »حجر الفلاسفة« فباع برغبته روحه للشيطان، ما أقسى أن ترهن روحك لآخرين حتى ولو كانوا ملائكة، وما أروع أن تكون عبداً لله وحده، حين قرأتُ ترجمة الفيلسوف المصري عبد الرحمن بدوي لقصة »فاوست« لجوته أدركتُ أن شقاء الإنسان لا يكون إلا بفعل، ولكن هل يدرك الإنسان حجم المأساة التي تُنتج عن تفريطه في حريته؟! لاشك أنه قد لا يدرك عمق المأساة وقت التفريط في الحرية، ولكنه قد يعرف فداحة فعله بعد حين، وقد يظل عمره كله جاهلا ما وقع فيه، انظروا إلى هذا الشاب غض الإهاب، الذي لم يعجم عوده بعد، والذي تدفعه عاطفته الدينية إلى الوقوف في صف السلسلة البشرية المستعبدة منتظراً دوره في التكبيل التنظيمي على أحر من الجمر، وكأنه يعبد لله حين يصبح فرداً يقوده راعي البشر، ما أغبانا حين يقودنا الراعي بعصا الدين والأخلاق والشريعة، ونحن نهش له، يا لله!! كم من العبوديات ترتكب باسم الله، أصاب طاغور الحكيم حين قال: »ثقيلة هي قيودي والحرية هي مُناي، ولكنني لا أستطيع أن أحبو إليها، فمن استعبدوني رفعوا لافتات الفضيلة وجعلوها حائطاً بيني وبين حريتي«. هل من الممكن أن أصف لكم مشاعري وأبث لكم شُجوني، أنا الآن أحلق في السماء، كالطير يجنح نحو الأفق، أو كسهم مرق، ولعلني اليوم أعرف مدى سعادة الطير وهو يجوب الآفاق حراً، لا تظن أبداً أن الهواء هو الذي يحمل الطير حين يحلق، الحرية فقط هي التي تحمله، ما أعظم الحرية حين تداعب مشاعر من عاش مقيداً مكبلا، كانت آخر أيامي في تنظيم الإخوان هي أسعد أيام حياتي، ويا لها من أيام أدرك قلبي فيها أن تنظيم الإخوان كان سراباً يدفعني نحو التيه، كنت قد عقدت العزم على التخلص من تلك القيود الثقيلة التي أقعدتني وعرقلتني وحاولت تكبيل أفكاري، فالنفس السوية ترفض الاستبداد حتى ولو كانت قيوده من ذهب، أو كانت جدرانه قد شُيِّدت من لافتات الفضيلة، ها هي اللحظات الأخيرة تداعب خيالي من جديد، تحث ذاكرتي على العودة إلى لحظات الخروج، تلك اللحظات التي اعتبرتها أزمنة قدسية، زمن الحصول على صك الحرية هو الأعظم في تاريخي، قبلها نشبت معركة طاحنة بين قلبي وعقلي، هل أترك الجماعة، أم أظل فيها حتى ولو تحكم فيها الاستبداد؟ فتحتُ حوارات مع أصدقائي عن قيمة الحرية، قلتُ لعاطف عواد الذي ترك الجماعة قُبيلي: عظيمة هي قصة »وداعاً شاوشنك« تلك القصة الرائعة التي كتبها »ستيفن كينج« ثم تحولت الى فيلم سينمائي من بطولة »تيم روينز« و »مورجان فريمن« دخل رويتز سجن شاوشنك، ولكنه ظل عشرين عاماً يبحث عن حريته إلى أن حصل عليها في الوقت الذي أصبح فيه هذا السجن هو كل الدنيا لمساجين آخرين، لا يعرفون غيره ولا يتقبلون سواه وكأنه هو الحياة، أظن جماعة الإخوان تحولت إلى سجن بشري لا يحفل كثيراً بقيمة الحرية، يستحقون الرثاء، من عاشوا في الظلام وينزعجون من النور، من يقبعون في أقبيتهم وسراديبهم الضيقة هم يحسبون أن الطريق إلى الدين والفضيلة لا يكون إلا من خلال الأقبية والسراديب المغلقة. قال عاطف »الذي أصبح فيما بعد عضواً بالهيئة العليا لحزب الوسط«: وكأنك تستعيد يا صديقي قول لامارتين: »أي قيمة للفضيلة إذا لم توجد حرية!«. قلت له: لامارتين!! لو سمعوك لقالوا إنك صبأت وأصبحت من الليبراليين أو العلمانيين، وساء أولئك رفيقاً، ثم استطردت وأنا أغالط نفسي: ولكن هل يطاوعني قلبي على أن أترك جماعة أحببتها.. أتركها والفساد يُعشّشُ في رأسها ويضرب بجذوره في أطنابها.. لك أن تعرف أن العديد من الإخوان النبهاء من أصحاب العقول النيّرة والقلوب المضيئة يجاهدون داخل الجماعة حتى لا تصبح خاوية على عروشها بلا مصلِحيْن... فلماذا أتركهم وحدهم؟ أكون حينئذ قد تخلَّيْتُ عنهم. قال وقد نفد صبره: يا سيدي.. الإصلاحيون لا يستطيعون التنفس داخل جماعة »كتم النفس« هذه.. عبد المنعم أبو الفتوح يظن أنه يستطيع الإصلاح ويحاول أن يجمع معه جيل الوسطيين مثل إبراهيم الزعفراني وآخرين ولكنهم جميعهم يعيشون على وهم لن يتحقق... إن الفريق الذي سرق الجماعة يقوم بدوره بنجاح ملحوظ وهم يسحبون حاليا كل الملفات التي كان أبو الفتوح مسؤولا عنها، أصبح عبد المنعم الآن يجلس في الجماعة بلا عمل... وأظن أنه سيستيقظ ذات يوم من حلم الإصلاح هذا على قطار الإخوان وقد ابتعد عنه وتركه وحيدا بلا جماعة. تأملت قوله وانتابتني لحظة صمت وسرعان ما قطعتها قائلا: أصْدُقُكَ القول.. لقد كنت أشعر منذ آماد طويلة أن هذه الجماعة سجن وقيود وأنا السجين الذي لا يستطيع أن يحبو الى حريته.. ثقيلة هي قيودي.. ندَّت عني ابتسامة ساخرة وأنا أقول: أخشى أن أكون قد أدمنتْ السجن والسَّجَّان. الآن، وبعد سنوات عديدة من يوم الخروج من الجماعة أجلس في غرفة مكتبي وحيداً أخط هذه الذكريات، أذكر آخر لقاد جمعني بالمستشار مأمون الهُضَيبي، كان ذلك في غضون عام 2002 صدمني الرجل بكلماته الجافّة الخشنة، أهكذا يكون الدُّعاة!! كان اللقاء قد دفعني إليه الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح من أجل تخفيف حدة الهجوم ضدي داخل الجماعة، كان من المفترض وفقاً لما وقر في يقيني أن لقائي بالمستشار مأمون الهضيبي سيكون ثرياً له قيمته.. فالرجل يحمل فوق كتفيه تاريخاً ويختزن في مكنون ذاته كما متنوعاً من المعارف القانونية والخبرات السياسية والتنظيمية... إلا أنني تذكّرتُ عند لقائي الأخير معه ذلك المثل العربي الذي يقول: »أن تسمع بالمُعيدي خير من أن تراه«.. ويبدو أن معارف الإنسان وخبراته قد تكون عبئاً عليه أو يكون هو عبئاً عليها إن لم تكن له بصيرة وسعة أفق، كذلك الجواهري الذي وهبه الله ذهباً وجواهر نفيسة فقذفها في اليمّ إلى غير رجعة! كانت العديد من اللقاءات الإخوانية التنظيمية قد جمعتني بالمستشار الهضيبي سابقاً إلا أنه في الغالب الأعم، كان قليل الكلام يميل إلى الاستماع ولا يعقّب إلا بكلمات قليلات... وكانت معظم الحوارات التي جمعتنا تدور في مجملها حول شؤون تنظيمية وحركية لا علاقة لها بالفكر، كما لم تكن لها علاقة بالإنسانيات والمشاعر، لذلك لم تتح لي الفرصة كي أختبر عن كثب بصيرة هذا الرجل وقلبه، إلا أنني لاحظت من خلال خبرتي في التعامل معه، كما لاحظ آخرون أنه يتسم يضيق الصدر وسرعة نفاد الصبر. كان لقائي معه هو خاتمة قصتي مع الجماعة، حين تكلم ظهرت على قسمات وجهي مخايل الدهشة حتى إنني كِدتُ أهز رأسي لأعيد عقلي الى مكانه المعهود، هممت بالوقوف للانصراف، فدفقات الكلام الذي خرج من فمه يوحي بأنه كان يعيش في مرحلة ذهنية متأخرة. أشار لي بيده يأمرني بالجلوس وهو يقول: اقعُد... اقعدْ... هل تظن أن »دخول الحمام كما الخروج منه«. جلست وأنا أقول في نفسي بعد أن غالبت ابتسامة طفت على سطح وجهي »مادام الرجل يعتبر بيته حماماً فكان من المفروض أن أدخل بقدمي اليسرى وأقول وأنا داخل: اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث«. ودون تمهيد بادرني بلهجة يشوبها الاستعلاء وكأنه رذيس مجلس إادرة شركة يخاطب أحد الموظفين عنده: أنت أخطأتَ في حق الجماعة يا ثروت.. ويبدو أنك لم تعرف ما قاله حسن البنا.. قال نحن جماعة انتظمنا في صف واحد، فإذا خرج منا واحد، لن يقول الناس خرج واحد، ولكن سيقولون صف أعوج. تركته يسترسل في حديثه إلى أن قال: نحن نتحالف مع من يستطيع أن يقربنا من دوائر صنع القرار.. نحن تحالفنا في الأطباء مع حمدي السيد ومع حسب الله الكفراوي في المهندسين لهذا السبب.. وأي شخص قريب من دوائر السلطة العليا سنتحالف معه، ولن نقبل أن يخرج أي واحد منا على هذا القانون.. هذا هو دستور الجماعة.. دستور الجماعة.. وأنت رجل قانون. انتظرتُ إلى أن استكمل كلامه ثم قلت: قانون التحالف مع من يكون قريباً من السلطة أظن أنه من الممكن أن يكون وسيلة مرحلية وليس دستوراً دائماً. ظهر الضيق على وجهه ثم قال بنفاد صبر: لا تجادلني.. أنت رجل قانون.. لماذا وضعت الدولة قانوناً للمرور؟ طبعاً حتى لا تتصدام السيارات.. ماذا لو خالفت سيارة قانون الدولة وقطعت الإشارة الحمراء؟ قطعاً ستقع حوادث وستصطدم السيارات بالمارة.. ماذا لو أقام أحدهم بناية دون ترخيص من الحي وفقاً للقانون؟ سيصبح الحال فوضى... هناك قانون للعقوبات.. من يخالفه يكون قد ارتكب جريمة أليس كذلك؟ تنفّست الصعداء وأنا أقول: لا ليس كذلك. ماذا تقصد؟ قالها مُقاطعاً وهو يُبدي استغرابه. أكملت كلامي وأنا أتناول كتاباً كان على المنضدة وكأنه لم يقاطعني: هناك مواد في القانون يتم محاكمة الإخوان بموجبها مثل المادة 86 من المدونة العقابية.. وبالمناسبة، الإخوان يخالفون هذه المادة ويرتكبون بمخالفتهم هذه جريمة إنشاء تنظيم دون أن يكون لهذا التنظيم رخصة من الجهات الرسمية.. فإذا كان قانون الجماعة في رأيك، يجب أن يتم احترامه كما نحترم قانون المرور وقانون العقوبات فحينئذ يجب أن نعلن عن حل الجماعة، لأنها تخالف قوانين الدولة، لأنها نشأت دون رخصة كما البنايات التي تنشأ من غير رخصة، وإلا لأدت هذه المخالفة إلى اصطدام السيارات ووقوع الحوادث وإشاعة حالة فوضى.. أليس كذلك؟ هبَّ الرجل واقفاً وهو يقول بعصيبة وحدة وهو يشير إلى الباب: اتفضَّلْ يا أستاذ، المقابلة انتهت. تجمَّع في ذهني في تلك اللحظة كل العمر الذي قضيته في الجماعة وكل ما مر بي من أحداث... مر شريط الذكريات وكأنه دهر ولكنه مر في جزء من الثانية... رأيتُ أمامَ عيني خيالي تلكَ المشاهدَ الرائعة التي شاركتُ فيها أو اقتربتُ منها أو تفاعلتُ معها... رأيتُ أشخاصاً أفذاذاً في الفقه والفهم وسعة الأفق.. رأيت عقولا موسوعية وقلوباً نورانية.. والآن واحسرتاه أرى جماعة بلا قلب.. هذا هو قلب الإخوان!! في مكانه فراغ، فقد تبخَّر القلب وتناثر خلف من ماتوا ومع من خرجوا.. اندثر القلب وضاع من يد من قلبَ الإخوان إلى ناحية أخرى... الآن آن لي أن أختار.. آن لي أن أحسم أمري.. أحببْتُ جماعة الإخوان ووهبتها قلبي ومشاعري وعقلي.. فضَّلْتُها على نفسي وبيتي وأولادي.. لم أكن أحبها لذاتها كذلك المحب الوله العاشق الذي يتدلَّه حبّاً في محبوبته لذاتها.. ولكنني أحببتها لما ترمي إليه.. لأنها دعوة وحكمة ووسطية وفهم واعتدال.. والآن تبدَّل الحال فلم أبقى؟ لم أظل أسيراً في حبائل تلك الجماعة التي فقدت قلبها.. لم أرض بالأسر والحبس في أسوار عالية تمنع الرؤية وتحجب الرؤية فلا خيال ولا إبداع؟ أين كنزي الذي كنت أبحث عنه؟ أين الطريق السذي سيقودني إلى أسطورتي؟ أأظل رهينة في حبسهم الوهمي مُكبّلا بأغلالهم وأنا من تاقَتْ نفسُه إلى سماء بلا قيود وأرض بلا حدود كطائر الباتروس الذي يقضي حياته مُحلقاً فوق مياه البحار والمحيطات؟ طرْ أيها الطائر.. غادرهم.. اذهب إلى سمائك... واحذر من أولئك الذين سيقولون لك إنك ستطير في سماء ملبَّدة وتسير في أرض مظلمة.. فالنور في قلبي وبين جوانحي، فعلام أخشى السير في الظلماء؟ علام أخشى الطيران في العتماء؟ كن كالنسر فوق القمة الشماء ولا تكن كدودة الأرض في جُحر كئيب وجُبّ سحيق.. لك نظر ولك بصيرة، فأين انتفاعك بنظرك ونظْرتك؟ لله درُّ المتنبي حين قال: وما انتفاع أخي الدنيا بناظره إذا استوت عنده الأنوار والظلمُ قُم الآن وأمعن النظر ويجب إذا نظرتَ أن تحسن الخروج، كما أحسنتَ الدخول. قمت مُتثاقلا ثم قلت بهدوء، وأنا أنظر إلى الناحية الأخرى: المقابلة انتهت قبل أن تبدأ.. الآن آن لي أن أختار الصواب.. أنا الآن لست معكم في الإخوان. خرجتُ من بيت المستشار الهُضيبي وقد عقدتُ العزم على الانطلاق، وحين وطئت قدماي أرض الطريق شعرتُ بخفة في روحي، وسعادة في قلبي، حتى إنني أخذتُ أنظر في وجوه الناس وأنا أبتسم ابتسامة عريضة، سرتُ في الطريق مبتعداً عن سيارتي لا ألوي على شيء، وكأنني أجرِّبُ الحرية لأول مرة، فوجدتني في ميدان الجامع القريب من بيت مأمون الهضيبي، وأمام جامع جمال الدين الأفغاني. توقّفت، لم أكن صليتُ العشاء بعدُ وكانت الصلاة قد انتهت وخرج المصلون الى حال سبيلهم، ومع ذلك خُيّل إليَّ أن المؤذن يرفع الأذان، وسمعته بقلبي وهو يختم الأذان: الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله. ترددت الشهادة في قلبي حتى ظننت أنها كانت ترجُّني رجاً، لا إله إلا الله. دخلتُ إلى المسجد وكان أول ما فعلته حين دخلتُ أن سجدتُ لله رب العالمين، كانت هذه هي سجدة الشكر لله رب العالمين، وأثناء صلاتي شعرتُ بمذاق روحاني غريب لم أشعر به من قبل، كان هذا هو مذاق الحرية عندما يختلط بالعبادة، آه ما أروع عبادة الأحرار! فررتُ بقلبي من تنظيم لا يعرف القلوب ولا يأبه للمشاعر، إلا أنني رأيت وأنا خارج قلب الإخوان أشياء تحارُ منها الألباب وتستعصي على التصديق.