الأزمي: لشكر "بغا يدخل للحكومة على ظهرنا" بدعوته لملتمس رقابة في مجلس النواب    أخبار الساحة    الدار البيضاء.. توقيف المتورط في ارتكاب جريمة الإيذاء العمدي عن طريق الدهس بالسيارة    تقديم «أنطولوجيا الزجل المغربي المعاصر» بالرباط    أجماع يعرض جديد حروفياته بمدينة خنيفرة        تقديم العروض لصفقات بنك المغرب.. الصيغة الإلكترونية إلزامية ابتداء من فاتح يناير 2025    أطباء القطاع العام يخوضون إضرابا وطنيا لثلاثة أيام مع أسبوع غضب    في الحاجة إلى تفكيك المفاهيم المؤسسة لأطروحة انفصال الصحراء -الجزء الثاني-    بووانو: حضور وفد "اسرائيلي" ل"الأممية الاشتراكية" بالمغرب "قلة حياء" واستفزاز غير مقبول        بمناسبة رأس السنة الأمازيغية.. جمهور العاصمة على موعد مع ليلة إيقاعات الأطلس المتوسط    فيديو "مريضة على نعش" يثير الاستياء في مواقع التواصل الاجتماعي    الكرملين يكشف حقيقة طلب أسماء الأسد الطلاق ومغادرة روسيا    المغرب-الاتحاد الأوروبي.. مرحلة مفصلية لشراكة استراتيجية مرجعية    الجزائريون يبحثون عن متنفس في أنحاء الغرب التونسي    نيسان تراهن على توحيد الجهود مع هوندا وميتسوبيشي    محمد صلاح: لا يوجد أي جديد بشأن مُستقبلي    تعيين مدرب نيجيري لتدريب الدفاع الحسني الجديدي لكرة الطائرة    سوس ماسة… اختيار 35 مشروعًا صغيرًا ومتوسطًا لدعم مشاريع ذكية    النفط يرتفع مدعوما بآمال تيسير السياسة النقدية الأمريكية    أسعار اللحوم الحمراء تحلق في السماء!    توقعات أحوال الطقس اليوم الإثنين    غضب في الجارة الجنوبية بعد توغل الجيش الجزائري داخل الأراضي الموريتانية    نادي قضاة المغرب…تعزيز استقلال القضاء ودعم النجاعة القضائية        بنما تطالب دونالد ترامب بالاحترام    "سونيك ذي هيدجهوغ 3" يتصدر ترتيب شباك التذاكر    تواشجات المدرسة.. الكتابة.. الأسرة/ الأب    تولي إيلون ماسك لمنصب سياسي يُثير شُبهة تضارب المصالح بالولايات المتحدة الأمريكية    أبرز توصيات المشاركين في المناظرة الوطنية للجهوية المتقدمة بطنجة    تنظيم كأس العالم 2030 رافعة قوية نحو المجد المغربي.. بقلم / / عبده حقي    شكاية ضد منتحل صفة يفرض إتاوات على تجار سوق الجملة بالبيضاء    تصنيف التنافسية المستدامة يضع المغرب على رأس دول المغرب العربي    إعلامية فرنسية تتعرض لتنمر الجزائريين بسبب ارتدائها القفطان المغربي    إدريس الروخ يكتب: الممثل والوضع الاعتباري    السلطات تمنع تنقل جماهير الجيش الملكي إلى تطوان    شركة Apple تضيف المغرب إلى خدمة "Look Around" في تطبيق آبل مابس.. نحو تحسين السياحة والتنقل    حكيم زياش يثير الجدل قبل الميركاتو.. الوجهة بين الخليج وأوروبا        الموساد يعلق على "خداع حزب الله"    اختتام أشغال الدورة ال10 العادية للجنة الفنية المعنية بالعدالة والشؤون القانونية واعتماد تقريرها من قبل وزراء العدل في الاتحاد الإفريقي    شركات الطيران ليست مستعدة للاستغناء عن "الكيروسين"    أنشيلوتي يشيد بأداء مبابي ضد إشبيلية:"أحيانًا أكون على حق وفترة تكيف مبابي مع ريال قد انتهت"    معهد "بروميثيوس" يدعو مندوبية التخطيط إلى تحديث البيانات المتعلقة بتنفيذ أهداف التنمية المستدامة على على منصتها    كيوسك الإثنين | إسبانيا تثمن عاليا جهود الملك محمد السادس من أجل الاستقرار    مواجهة نوبات الهلع .. استراتيجية الإلهاء ترافق الاستشفاء    إنقاذ مواطن فرنسي علق بحافة مقلع مهجور نواحي أكادير    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



صدى السجون

[email protected]يا لهذه الدنيا المفعمة بالبؤساء المساكين..يرتوون من الكأس المريرة حينما يظمئون، ويستنشقون سمها حينما يتنفسون...ينتظرون قدوم الصبح فيطول عليهم ظلام الليل...ينتظرون بسمة على الشفاه فإذا بها عبرات نسجت سطورها على الخدين، إنني واحدة من هؤلاء...واحدة من اللواتي انقض عليهن الدهر بيده الغاشمة...وقادهن إلى هناك ...إلى حيث أسوار الحديد، قضيت بين الجدران أياما وأعواما، حتى ألفت العزلة والوحدة، عشت أيام عمري في ظلام حالك، فقد فقدت أمي وأنا صغيرة، فلم أتمكن من رؤيتها، ولا من امتصاص بعض الحنان من دفء قلبها، أتذكرها، فيتقطع فؤادي ألما عليها... هي ذي الكلمات التي لم تبخل علي بها صديقتي "ضحى" وأنا بالسجن، هنالك قرأت وجها صامتا...متحجرا لا تلمع به بارقة ابتسام ولا تجري فيه نظرة بشاشة ، فاسترسلت صديقتي في كلامها قائلة: تبدأ قصتي في ليلة من ليالي الشتاء ضرير نجمها، حالك ظلامها، متلبدة غيومها، أفقت فيها على صرخة أبي المريرة، امتزجت صرخاته بآهاتي الموجعة وأنا أراه في ساعاته الأخيرة وهو يكابد سكرات الموت وأشباحه...يصارعها وتصارعه، ولم تزل هذه حاله حتى افترق ذكينك الصديقان الحميمان، جسده وروحه، وهب كل واحد منهما في طريقه.رأيته في فراشه عليلا فجزعت، ثم خفت عليه من الموت ففزعت، وكأنما كان يخيل إلي أن الموت والحياة شأنان من شؤون الناس وعملان من الأعمال التي تملكها أيديهم...فاستشرت الطبيب في أمره، فكتب لي الدواء...ووعدني بالشفاء، فجلست بجانبه أصب في فمه ذلك السائل الأصفر قطرة قطرة...والقدر ينتزع من جبينه الحياة قطعة قطعة، حتى صار جثة باردة ، و قارورة الدواء لا تزال بيدي، فعلمت أني قد ثكلته، وأن الأمر أمر القضاء لا أمر الدواء، قضيت في حزنه أياما، وزوجة أبي تؤنبني بين الفينة والأخرى بقولها: "ما كل هذا الحزن ، مات وكفى، أبكاؤك هذا سيحيل الميت حيا؟ أم أنك تحنين لتدليل أبيك المبالغ فيه " ثم تواصل كلامها :" يجب أن تتذكري أنني من اليوم فصاعدا سيدة البيت الآمرة، وأنت الخادمة المطيعة ، أتسمعين يا وقحة".
شعرت ساعتها بخنجر يخترق قلبي وأنا أتلقى الكلمات تلو الأخرى، لكنني استعنت بالصبر..فمرت أيام الحداد، وانتهى الحزن والبكاء، وكدت أنطلق كعادتي إلى المدرسة أجدد العهد بها، لكن زوجة أبي اعترضت طريقي بالباب تلحظني بنظرات ملؤها الحقد والضغينة: "إلى أين تذهبين ؟ لقد درست ما فيه الكفاية..ولا حاجة لدراستك الآن، عليك أن تقومي بكل أعمال البيت لأني لا أقوى على ذلك...أفهمت؟؟ هيا..إلى المطبخ"وبكل تأكيد، أنا لا أستطيع أن أنطق بكلمة "لا" البتة، غير أن قلبي كان يحترق من ألوان العذاب، ولا من مهون ، استدعت ابن عمها وأخته..حتى يمكثا معنا بالبيت، يجلسون ويتبادلون حلو الكلام، وأنا أقوم بخدمتهم ليل نهار، فإن رأتني زوجة أبي حاملة كتابا أو جالسة أرتاح قليلا، تصرخ في وجهي بأعلى صوتها:"من أذن لك بالجلوس، أأنت في قصر أم في قلعة؟ " تمزق كتبي أوتحرقها و قلبي معها يتمزق و يحترق، لكنني كثيرا ما اختفيت بمذكرتي أثناء نومي ورحت أبوح لها بكل آلامي وأحزاني، فما أكثر هموم الدنيا وأحزانها، لا يفيق فيها المرء من هم إلا إلى آخر، ولا يرتاح فيها من فاجعة إلا إلى مثلها...مرت الأيام تلو الأيام والشهور تلو الشهور، لتقف هنيهة أمام اليوم الذي تقدم فيه شاب لخطبتي وأنا في الرابعة عشر من عمري، فلم أجد مانعا من الموافقة، لأني لم أكن حينها أفكر في شيء سوى الخلاص من هذا البيت البائس، ووافقت زوجة أبي بدورها لأنها كانت تعلم من أمر الشاب ما كنت أجهله، ففررت من بيت الحزن موهمة نفسي أني ألج بيت السعادة، وهكذا أقيم حفل الزفاف، ونقلت إلى بيت السعادة المزيف...كنت سعيدة في شهوري الأولى، لكن سرعان ما انقضت أيام السعادة، فأصبح زوجي لا يلج البيت إلا نادرا، وإن ولجه يلجه ثملا متمايلا...وإن حالفني الحظ ووجدته في حالته الطبيعية؛ فإنه يشبعني ضربا مبرحا على أتفه الأشياء، كانت حياتي معه ظلمة حالكة، حتى حنوت إلى حياتي الأولى، فطلبت منه الطلاق لكنه رفض، فهربت إلى منزل زوجة أبي أستغيث بها، فلم تعرني اهتماما، لكنها خاطبتني وهي لا تكترث:" اذهبي إلى بيت زوجك، فهو بيتك إلى الأبد" فأغلقت الباب في وجهي ، أما زوجي فقد استغاظ لتصرفي هذا... فأرسل إلي ورقة الطلاق دون تردد، وصرت وحيدة من دون سند أومعين...فرحت أبحث عن عمل في كل مكان لكن من دون جدوى ، قررت الانتحار، لكن لحسن الحظ خشيت ربي، واستسلمت للتضرع والدعاء، فأنا أعلم علم اليقين أن لهذا الكون إلها رحيما يعلم دخائل القلوب، وسرائر النفوس، ويرى لوعة الحزن في أفئدة المحزونين، ولواعج الشقاء بين جوانح الأشقياء.جلست منزوية في ركن تظلل جبيني سحابة سوداء من الحزن، وانحنيت على نفسي، كأن قلبي مسجون في صدري لا يقوى على الانعتاق منه، ولو أنه أراد بنفسي خيرا لتركه وشأنه يمضي في سبيله حيث شاء...فبعدا لقلب لا يسكن عن الخفقان ولا يفيق من الهموم والأحزان ، ولم يزل هذا شأني حتى سمعت آثار أقدام قادمة نحوي، فارتعشت وأحسست أنها نهايتي، فالتفت لأستطلع الأمر، فإذا هو رجل حسن الهندام، بشوش الوجه، تراجعت للوهلة الأولى ، لكن سرعان ما علمت حسن مقصده، فشرع يقول لي: "المكان هنا خطير يا بنيتي، من تجرأ ورماك بهذه الطريقة الوقحة"، لم أجبه حينها، ولكني أنشأت أبكي بكاء مريرا، فأشفق علي حينما أسمعته قصتي، وانتهى به الأمر إلى أن أخذني إلى بيته وسط حديقة جميلة ، كانت أسرة "عمي أحمد" لطيفة للغاية، فقد رحب بي كل من في البيت، وعلمت بالصدفة أن "عمي أحمد" قرر أن يتبناني لأن له ابنين، واحد متزوج والآخر يدرس بالسنة الأخيرة بكلية الطب، لكنه لطالما تمنى أن يرزق بنتا، فاتخذني كابنة له وكأخت لابنيه، ومع مرور الأيام يزداد خيط الأخوة والمودة ترابطا وتماسكا بيني وبين أسرته، كان صغير الإخوة اسمه أشرف..شاب وسيم وهادئ الطباع، حلو في كلامه، جذاب في مقامه، وكثيرا ما كنت أخجل في أيامي الأولى حين يأتي ليحدثني عن شيء..أو يتناقش معي في موضوع ما...لكن مع مرور الأيام، اعتدت على كلامه، ووضعته في مقام الأخ ، وفي كل يوم أكتشف فيه خصلة جديدة، خصلة الأخ الصادق، وأجمل ما في الأمر هو أنه طرح على أبيه أن أتمم دراستي...فكان لي ذلك...فولجت مؤسسة خاصة لا يلجها إلا الأثرياء وألبسوني أفخر الثياب، ولم يكن الناس يعلمون من أمري شيئا غير حكاية صديق "عمي أحمد" توفى وأوصاه بكفالة ابنته. لقد ولجت العالم الجديد، عالم المتعة والرفاهية، فعادت أيامي سعيدة لا تعكر صفوها اليد الظالمة، فحمدت الله أن نقلني من عالم الكآبة إلى عالم الابتسامة .أتت أيام الجد والامتحانات فعملت كل ما في وسعي وسهرت وتعبت وساعدني "أشرف" في كل ما استصعب علي، فحصلت على النتائج المميزة، فكانت حياتي هذه ملؤها النور الوضاء، علمت حينها أن الدنيا تضم الأشرار والأخيار، وقد عاشرت كلا منهما، فكان هذا شأني حتى صادفت يوما أسودا ...فقد التقيت زوجة أبي أمام باب المؤسسة، شاهدتني وأنا أنزل السيارة، فقد خصص لي "عمي أحمد" سائقا ، يتكلف بإيصالي دائما، فنادتني بأعلى صوتها، ولمحت فيها نظرات التعجب والاندهاش، فقد كانت بادية عليها حينما رأتني بملابس أنيقة بعيدة كل البعد عن ما اعتادته علي، فاقتربت مني وقالت:" لقد اشتقت إليك يا ضحى، ثم ما هذا الذي تلبسينه؟ ومن هو ذا الرجل الذي أوصلك إلى هنا؟ ثم ماذا تفعلين بهذه المؤسسة ؟؟"فأجبتها دون اكتراث: أمن سؤال آخر غير هذا؟؟ ماذا تعنين بكلامك؟؟ في الحقيقة، أعني بكلامي الكثير، وربما أعني به أنك تتدخلين فيما لا يعنيك. ماذا!؟ كيف تجرئين على معاملتي بهذه القسوة، ألا تعلمين من أكون!؟ ربما نسيت؟! فمن تكونين؟! أنا سيدتك ...وسيدة بيتك... آسفة! لا أعرف أحدا بهذا الاسم، ولا شأن لي بمعرفته؟ حسنا يا ضحى ، سأمنحك ما يجبرك على تذكري أمد الحياة، فمهما طال الزمن أو قصر، فستجدين بصماتي مخلدة على جبينك...تتذكرينها فتتذكرين سيدتك التي أنكرتها...تركتني بعد تلك الكلمات المرعبة، لكنني لم أخف، لأني أعلم أني في أمان مع أسرتي الجديدة، فلا أحد يستطيع مسي بسوء، ولا أن يتلفظ بمثل هذه الكلمات التي سمعتها الآن.لكن ماحدث بعد ذلك أنساني تلك المقابلة، فقد سلمني أشرف كتابا جميلا لازلت أتذكر عنوانه "مفاتيح السعادة" وما أوشكت على إتمامه حتى فوجئت بورقة مكتوب في مقدمتها "من أشرف إلى أختي الحبيبة ضحى"احمرت وجنتاي، وتتابعت ضربات قلبي بسرعة، فتحت الرسالة وقرأت:أختي الحبيبة ضحى: ترددت كثيرا في نسج هذه العبارات...وترددت كثيرا في طي الورقة ومنحها إليك، لكني استسلمت لوجداني في الأخير، فلا مقدرة لي على تحمل المزيد، عرفتك يا ضحى بدفء قلبك، وسرعة بديهتك، وصوتك العذب الذي يهز وجداني، عرفتك فأحببتك وما كنت أعرف الحب قبلك، كان قلبي في ظلام حالك لا يرى حتى نفسه، فلما أشرق فيه حبك أشرقت فيه شمس ساطعة منيرة، لها من الشمس نورها وجمالها...وليس منها حرارتها ولذعتها .في الحقيقة...قد عهدتك أختا لا حبيبة...وعهدتني أخا لا حبيبا...لكن قلبي شاء غير ذلك، ماذا أفعل وقد جمعت من هذا وذاك ؟ قد جمعت بين خصال الأخت الصديقة، وسمات الأم المقتدرة، وصفات الزوجة الصالحة، فماذا أفعل وقد وجدت كل هذا فيك..فطوبى لك يا أختي...ولن أقول حبيبتي حتى يأذن قلبك لقلبي، فماذا أنت صانعة يا ترى! وقد وصل ربع مرادي إليك، فهلا أكملت الربع بجوابك، لنترك النصف الأخير فيما تبقى من حياتنا.سامحيني أختي الحبيبة على هذه الكلمات إن كنت ترين في شخصي غير ذلك، وتأكدي أنني ما تجرأت على فعل هذا إلا لصدق مشاعري، أنتظر الجواب أختي الحبيبة، بابتسامة ترسمينها على شفتيك، حتى يشرق وجهك ويشرق معها وجه من ينظر إليها... أخوك أشرف...لم أعرف ما أصابني في تلك اللحظة، فقد أحسست بدوار شديد حتى التبست لدي الأشياء..فاختلط الحلم مع الحقيقة، ولم أستطع حينها أن أفرق بين أولهما وثانيهما، لكنني حينما اكتشفت حقيقة ما أرى، وصدق ما أعيشه، أحسست بخفة في جسمي، وصفاء في نفسي، حتى كان يخيل إلي أني لو شئت أن أطير لطرت بلا جناح..ولو كان باستطاعتي أن أخترق بنظري حجب السماء وأنفذ إلى الملإ الأعلى..فأرى هنالك كل ما هو محجوب عن نظر الناس، لفعلت ذلك دون أدنى تردد .التقيت أشرف في اليوم الموالي فنظرت إليه..فأجبته بابتسامة خفيفة هي كل ما كان ينتظره مني، فطأطأت رأسي إلى الأسفل خجلا وحياء، لم أكتف بهذا فقط، بل غادرت إلى غرفتي مسرعة، فبدأت كلما رأيته إلا واختلف نظري عنه ، في الحقيقة...كنت أحس وكأني لست أهلا لهذه النظرة، فأنا يتيمة.. لا أب لي ولا أم، وعائلتي بعيدة عني كل البعد، وتعديت هذا إلى أن استسلمت للشارع، فصرت وحيدة منعزلة عن هذا العالم، فكيف لي بعد كل هذا أن أكون أكثر الفتيات حظوظا .ها قد نجح أشرف بنتيجة مشرفة وولج عالم الطب، وأصبح مسئولا عن نفسه، وهنا سنحت له الفرصة أن يطلب من أبيه موافقته على الزواج مني، لم يجد أبوه مانعا، لأنه كان يعرفني ويعرف طباعي جيدا...حتى أنه كان يمدحني في كل المجالس ، لذلك فقد أصبحنا مخطوبين، ووافق كل منا على الزواج بالآخر، وشاع خبر الخطوبة في كل مكان، والعجيب في أمرنا أن الحب لم يكن وحده يستولي على كيانينا، فقد كانت تشترك في تملكنا أفكار جميلة ومبادئ سامية ، نناقش آراء بعضنا البعض، ثم نقتنع ببعضها ونختلف في بعضها الآخر، كما نضع مخططات لبعض الأهداف التي نبتغي تحقيقها، فقد سمت أفكاري معه، وعرفت أشياء كثيرة منه، أسهمت في إخراجي من عالم العزلة والضيق، وهذا ما جعلني أزداد تعلقا به، كنت أرى فيه فارس أحلام خيالي يصعب إيجاده .في اليوم الموالي..ذهبت لمؤسستي كالعادة، ففوجئت بزميلة لي بالفصل تسلمني رسالة، وتقول أن صاحبتها فتاة كانت تبحث عني، فلم تجدني فتركت لي هذه الرسالة كبرهان على ذلك، فشرعت في قراءة الرسالة، فإذا بها من صديقة قديمة، كانت صداقتي بها عجيبة للغاية لكن القضاء فرقنا:صديقتي وحبيبتي ضحى:"سلام نابع من القلب أيتها الصديقة، لكم اشتقت إليك، أعلم أن غدر الزمان قد فرقني بك، لكنني لم أنساك قط في حياتي، أتعلمين يا ضحى! أتذكر الأيام التي قضيناها معا فأحن للقياك، فإن كنت تبادلينني نفس المشاعر، فأنا أنتظرك في الساعة السابعة، أمام باب الحديقة العمومية، لقد بحثت عنك كثيرا، ولولا زميلتك ما وصلك هذا الخطاب" صديقتك رؤىكان خط الرسالة غريبا عن خط صديقتي المعتاد لدي، لكني لم أعر ذلك اهتماما لكوننا لم نلتق منذ ثلاث سنوات، فلا عجيب في أن يتغير خطها، لقد كنت غبية وصدقت كل شيء، وليتني ما صدقت...فلم أكن أعلم أن السم مدسوس في هذه الورقة، وبما أنني قد عرفت مضمون الرسالة، لم أعر اهتماما للرسالة أهي معي أم أنها ضاعت...رجعت حينها إلى بيتي مغتبطة بما عرفته عن صديقتي رؤى، لكنني حينما وصلت لاحظت أن جو البيت مكفهر على غير عادته، فلا أثر للابتسامة فيه، فملامح أصحابها تتخللها سمات الغيظ الشديد، خفت للوهلة الأولى، لكن سرعان ما غير أهل البيت ملامحهم وعادوا إلى طبيعتهم، فهمني من أمرهم الكثير، لكني اعتدت أن لا أتدخل في أمر لا يعنيني، فإن كان الأمر يخصني حقا، فسيخبرونني به عاجلا أم آجلا...فالتفت إلى أشرف، فلاحظت اختفاء ابتسامته، فتشجعت وأقبلت عليه وخاطبته بنبرة هادئة: تعلم أن دمعتك تحزنني يا أشرف، وابتسامتك تسرني، فاجعل الابتسامة عنوانا لك في كل لحظة وثانية. تبسم لهذه الكلمات فقال: "أواثقة أنها ليست عبارات مزيفة ؟" ماذا؟! لن أسامحك إن كررتها ثانية، وكأنك تشك بمشاعري. ليس تماما ولكن....حسنا...صدقتك! في المساء سأحكي لك عن ما حدث اليوم، وعن السبب الذي تركك ترينني بهذه الحالة. حسنا..اتفقنا..سأنتظر ذلك على أحر من الجمر.وهنا نطقت بالجملة التي حددت مصيري فقلت له:"آه.. نسيت يا أشرف..لقد أرسلت لي إحدى صديقاتي رسالة تطلب فيها أن ألتقي بها على الساعة الساب.....فلم أكد أكمل كلامي حتى أحسست بصفعة أسقطتني في دوار الصدمة..وسمعته يقول: لقد اعترفت يا أبي...إنها تريد ملاقاته... ربما لتودعه....وهنا أجهشت بالبكاء، وصرخت في وجهه: "من هذا الذي تتحدث عنه؟ إنها صديقتي، وإن شئت الدليل أريتك الرسالة، وتأكدت من صحة ما أقول. أشرف بكل هدوء: هلمي بها إذن..فنحن بانتظارها.بحثت عن الرسالة في كل مكان، فلم أعثر على أي أثر لها، فأحسست بالورطة الشديدة، فقلت لهم: "لم أعثر على الرسالة، لكنني أستطيع أن أرافق أيا كان منكم ، ليتأكد من صدق ما أقول"فتم الاتفاق على أن يرافقني أشرف،
وفي الطريق سألته بصوت تقطعه زفرات النحيب: بالله عليكم ، ما الذي جعلكم تشكون بي لهذه الدرجة...أقسم أني صادقة فيما أقول! أجابني أشرف بغيظ شديد: " سنعلم عما قريب إن كنت صادقة أم كاذبة"وما إن وصلنا حتى صدمت بالمفاجأة الخبيثة، فلم أجد أي فتاة بالحديقة، بل وجدت شابا وسيم المظهر، دنا مني، فتبينته فإذا هو ابن عم زوجة أبي، لم أتمالك نفسي حينها، فسمعته يقول: " مساء الخير حبيبتي...يبدو أنك قد تأخرت عن الميعاد قليلا...ثم من هو هذا الشاب الذي يرافقك"فالتفت إلى أشرف؟؟ فلاحظت نظرة تكذيب أدمى سهمها قلبي.. بعدما كانت نظراته إشراقة تضيء بين جنبيه من الحب قد استحالت إلى جذوة نار مشتعلة تقضم فؤاده قضما، وتمشي في نفسه مشي الموت في الحياة، فرأيته وقد أطلق لعبرته سبيلها..وأنشأ يئن أنينا محزنا تردده الرياح في جوها..والأمواج في بحرها..والأعشاب في مغارسها..فأنشأ يحدثني: "أيتها الفتاة! إنا قد أحسنا إليك، واستنقذناك من يد البؤس والشقاء، فأسأت إلينا بما فعلته، فاللئيم ليس أهلا للإحسان، حسبناك شريفة..فظننت أننا أغبياء، فتصرفت كيفما شئت، فعلمنا أنك خائنة، قد آثرت الشارع على العيش في عزة وكرامة، فهو لك، ولك أن تعيشي فيه مدى الحياة، وداعا أيتها الخائنة! واجعلي هذا تذكارا مني إليك"أتعلمين ماذا فعل؟؟ لقد قدم لي رسالة لم أقو على قراءتها، فناديت أشرف بأعلى صوتي: "أدركني يا أشرف..فلا صلة لي بأحد غيرك..وما هي إلا مؤامرة قد دبرت ضدي" لكنه تجاهلني..فشعرت أن جميع ما كان ينبعث في عروقي قد تراجع كله دفعة واحدة إلى قلبي، لكن المصيبة إذا عظمت خلت من البكاء والأنين، لأنه أقسى من أن يكتفي بهذين فقط، فرحت تحت ستار الليل أترنح في مشيتي كأنما أمشي على رملة هشة...هنا تذكرت زميلتي صاحبة الرسالة، فقدمت إليها وشرحت لها وضعي، وذكرتها بالرسالة التي سلمتني إياها، وأنها السبب في كل ما جرى لي حتى الساعة..فأدخلتني إلى بيتها، وأذنت لي بالمبيت معها الليلة فقط، ولم أشأ أن أثقل كاهلها فيما لا تستطيع عمله، فقد غادرت في الصباح بعد أن وعدتني بأن تحفظ سري، فتوجهت نحو المؤسسة لأودع صديقاتي، حينها ذهبت للحديقة العمومية، التي سميتها بالحديقة السوداء، فجلست بزاوية منها، وأخذت الرسالة التي سلمني إياها أشرف وأنشأت أقرأ ما يلي: إلى السيد "أشرف":سأبدأ بلا مقدمات، لأن موضوعي هذا يحتاج للكلام المباشر والواضح، موضوعي هو موضوع يخص ضحى، وقبل أن أبدأ، يجب أن تعلم أن كاتب الرسالة هو عشيق ضحى ، لا تتعجب فقد ترعرعنا معا مذ كنا صغيرين، أحببتها وأحبتني، ورغم كل تقلبات الحياة، فعلاقتنا لا زالت في رابطة وثيقة، فقد حالت الظروف دون ارتباطي بها، وقد وعدتني بأنها لن تحب أحدا غيري، بل لا يستطيع أحدنا التخلي عن الآخر أو العيش بدونه، فنحن نلتقي دائما، وقد حكت لي عنك كثيرا، ولا تنخدع فتظن أنها ما وافقت على الزواج منك إلا لأنها تحبك..لا..بل فعلت ذلك لأنها لا تستطيع أن تخيب أمرا صادرا عنكم اعترافا بالجميل، وربما خافت من رد فعلكم ، أعلم أنه ليس لي نصيب معها، ولكني لا أريد لضحى أن تتعذب كل هذا العذاب، وأن تتخذ حياتها مع من لا تحبه، بل لم تحبه قط في حياتها، وأنبهك أنت الآخر...فلن تذوق طعم السعادة معها، لأنها لن تلهمك صدق مشاعرها، بل تأكد أنها مجرد تمثيل حتى تكون راضيا عنها لا غير، كل هذا لأن المسكينة تتذكر عشيقها في كل لحظة وثانية، أعلم أن كلامي هذا سيبدو غريبا عنك..ولن تعيره أي اهتمام..لكني سأعطيك دليلا واضحا حتى تتمكن من تصديق ما أقول .لي موعد اليوم مع ضحى على السادسة مساء، ولقد عودتني حبيبتي ضحى على أنها لا تخلف الميعاد أبدا..فلربما استأذنت منكم للخروج لعذر من الأعذار...سيدي إني ما كتبت هذه الرسالة لتكره الفتاة أو تمقتها، ولكني أحببت أن أنبهك فقط، لأن حياتكما لن يكون لها معنى إن لم تكن مبنية على الحب والوئام. أعلم سيدي أني قد أطلت في الكلام، لكني على كل حال قد كشفت أمرا كان يؤرق ليلي، ويوحش نهاري. عشيق ضحىأتممت الرسالة.. فأحسست بالسهام تخترق قلبي، وعلمت في الحال أنه انتقام زوجة الأب الذي وعدتني به، فزاد غيظي على هذه المرأة القاسية، آه! فقد كان كل ما أسعد به في هذه الحياة أن أعيش مع الأسرة التي أحببتها، ومع الإنسان الذي أحببته وأحببت نفسي من أجله، أما وقد حيل بيني وبين كل هذا..فلا آسف على شيء بعده، آه ! فقد نكبني الدهر نكبة لا تزال لوعتها متصلة بي حتى اليوم، فلم يكن بودي فعل شيء سوى إرسال قطرات حارة من الدموع من جفني، هي كل ما يملكه الضعفاء العاجزون، ويقدر عليه القانطون البائسون.أخذت أبحث عن العمل لكن من دون جدوى، فرحت أمتهن التسول لأحصل على قوت اليوم، وما إن أقبل المساء حتى أنشأت أمشي مشية الحائر الذاهل..لا أعرف لي مذهبا ولا مضطربا، ولم أجد من يأخذ بيدي ويدلني على نفسي في هذا الموقف الذي أنشد فيه مساندا لي في ورطتي، فطفقت أتصفح وجوه الواقفين، وأقلب النظر في الغادين والرائحين، حتى بدأ الليل يسدل ستاره الأسود وينعي يومه الراحل، وهنا بدأ الرعب يتملكني بالحديقة، التي اتخذتها ملجأ لي، فلا مكان لي غيرها، فجلست بزاوية من الزوايا أتأمل سواد الليل، وبينما أنا جالسة مجلسي هذا، وقد سكن الليل، وسكن كل شيء فيه إلا ضوء القمر المنبعث في أجواز الفضاء، ونسمات الهواء المترقرقة على صفحات الماء، إذ سمعت صوت أقدام قادمة تجاهي، فذعرت وبقيت مكاني، فسمعت صوتا هادئا منبعثا منه يقول:"عجيب أن أرى هذا الجمال بأكمله هنا...أكنت تنتظرين عودتي عزيزتي..ها قد أتيت..فهلمي إلي! "بدأت ضلوعي كلها ترتعش ، لامنجي لي إلا الله، تذكرت الخنجر الذي هيأته لمثل هذه المخاطر، التفت حولي فإذا بي أرى شبحا قادما يرمي شباك كلمات لطيفة في ظاهرها..مرعبة في باطنها، لاحظت دنوه مني كلما ابتعدت عنه، وهنا أتت اللحظة الحاسمة، فقد شاء هذا المتوحش أن ينقض علي ويفترسني، فحال خنجري دون فعل ذلك، فلم أجد نفسي إلا وقد غرسته في بطنه غرسا، فبدأت أصرخ من فعلتي ، ثم رحت أجري وألهث..وأجهش بالبكاء، وما هي إلا دقائق معدودات حتى أمسكني رجلان حينما عرفا جريمتي، فنقلوني إلى مركز الشرطة ثم إلى هذه الزنزانة الحقيرة، أقضي بها ما تبقى من عمري.فقاطعتها قائلة: لا تقولي هذا! فلم يبق لنا إلا يومين ونخرج إلى عالم الحرية، وتعيشين ما تبقى من زهرات عمرك في أمان واطمئنان..تنسين فيها ما مضى في عمرك من آلام وأحزان..ثم أمسكت عن الكلام هنيهة، فنظرت إليها فإذا سحابة سوداء تنتشر فوق جبينها شيئا فشيئا، حتى لبست وجهها، فزفرت زفرة..خلت أنها خرقت حجاب قلبها وجعلته مخدعا لها، فأحزنني من أمر هذه الفتاة ما أحزنني، حتى اكتنفني هم البائسة المسكينة التي لم أر في تاريخ شقاء النساء قلبا أشقى من قلبها ولا نجما أنحس من نجمها، فخففت عنها بعض لواعجها وأحزانها ومسحت ما تبقى من عبراتها، فأنشأت تحدثني حديثا تمازجه العبرات وتقطعه الزفرات :"لقد رماني الدهر بأقسى ضرباته إلى العالم الآخر..عالم الشقاء..ولا أظن أنه سيحنو علي بعد كل هذه المدة..ويمدني باليد الأخرى لينقلني إلى عالم الهناء...فلا يستطيع هذا الدهر أن ينام ساعة عن الإنسان...لا يسقيه منها كأسا واحدة لا يمازجها كدر ولا يخالطها شقاء...فهذا قدري.. أن أفرح هنيهة وأن أحزن العمر كله، وما علي إلا الرضا بما قدر لي وما قدر علي.. "فرأيتها تحمل مذكرتها وتأخذ قلما حتى تسطر به جزءا من آلامها علها تجد فيها عزاء وسلوى، لم يبق على ضحى إلا يومين حتى تخرج من السجن، أما أنا فسألتحق بها بعد أسبوع. أخيرا لقيت منها ابتسامة ضئيلة أشرق لها وجهها، فودعتني بعدما قضت مدتها المحددة، وبقيت أطوي الأيام وحدي في العزلة والوحدة..وتذكرت قصتي التي مرت عليها أعوام، فقد زوجني أبي وأنا في الخامسة عشر من عمري، من رجل خبيث لا يعرف معنى الإنسانية، فلم أعد أذكر أنني قضيت معه لحظة سارة في حياتي، وانتهى بي الأمر إلى أن هجرني وتركني وحيدة مع ابني أعاني من ألام الجوع والوحدة ما لا يتحمله كائن على وجه الأرض، فقد كنت بعيدة عن أهلي، لكني استسلمت في الأخير، وقررت السفر إليهم..لأمر على المفاجأة الخبيثة، وليتني ما سافرت يومها، فقد عثرت على زوجي مع امرأة شعرها المشعث مسدول على كتفيها، رأيتها تمسح على رأسه وكأنها تبارزني لأن تكسب المباراة، فلم أعر المنظر اهتماما، فأقبلت عليه أستغيث و أستنجد، فأنكرني وعلمت تلك المرأة الجديدة من تصرف زوجي أنني مختلة عقليا، فلم تعرني أي اهتمام، فطردني شر طردة، ونكر ابنه الصغير الذي كان يسألني دائما:"متى سيرجع بابا من السفر..لقد اشتقت إليه"فرحت ألهث وراء المحاكم والقضاة..علي أجد بها عزاء وسلوى، فلم يكن لي أي حظ فيها.. فزوجي ثري..وقد كان يغلق أفواه القضاة بالأموال فيتجاهلون أمري..فما من قاض إلا وبينه وبين زوجي علاقة صداقة قوية، أما أنا فما من أحد يستطيع أن يثأر لي إن لم أثأر لنفسي، لذلك لم أصل إلى منزل أهلي إلا وقد قررت في نفسي أمرا، إنه الانتقام..قررت أن أنتقم لنفسي ولابني... فأنشأت أحدث نفسي: أيها الدهر الغادر إن كنت قد كسرتني ولم أستطع أن أصارعك بأنيابي..فإنك لن تستطيع أن تكسر إرادتي ضد هذا الرجل الخبيث، لك أن تخرج من الدنيا من تشاء..ولكن ليس لك أن ترد إليها من ستخرجه منها قريبا، إنه الانتقام..! قد عرفت المنزل الذي يسكنه، فقررت في ليلة من الليالي أن أختبئ خلف سور من الأسوار المحيطة بمنزله، ولبثت أنتظره حتى خرج مغتبطا، وما هي إلا لحظات...حتى شمرت عن ساعدي..وأخرجت سلاحي الخاص..لقد كان مسدسا..ولحظة فلحظة...وصلت الرصاصة..ووصل معها مرادي..فطردت روحه من جسده، متجهة نحو الملإ الأعلى..لم أكن أفكر حينها في عواقب ما فعلت..ولا في سمعتي التي خسرتها في دقائق..فقد وجدت سعادتي في انتقامي من هذا الرجل، وقد كان لي ذلك..وكان لي أيضا مقابله، إنها الزنزانة الحقيرة..التي نقلني إليها أصحاب القلوب المتحجرة دون أن يصغوا إلى كلمة واحدة مما أقول، فلولا أن الحق قال كلمته في بدء الأمر لما وصل بي الحال إلى ما أنا عليه الآن. فكما قالت "ضحى" : فالقدر هو الذي يحدد المصير، وليس لنا يد في ذلك، إلا أن نرضى بما قدر لنا من المعاناة.مرت الأيام المتبقية من الأسبوع..وآن وقت خروجي إلى العالم الذي سميته الحرية، أستنشق نسائمه من قريب، وأحضنه بذراعي عن كثب، فخرجت واستنشقت عطر الحرية، فكأنما أنا مولود ولدت من جديد، فلو شئت لطرت بلا جناح، لأعلن للكل أني قد أصبحت حرة في هذا العالم، فأقبلت على أسرتي متهللة مستبشرة..فوجدت الكل بانتظاري..فبكى أهلي للقائي..وبكيت أنا الأخرى لما رأيت ابني يهلل فرحا بعودتي: " ماما..ماما! تأخرت عنا كثيرا"، فأرسلت من جفني قطرات حارة من الدموع..هي كل ما أملكه حتى أقدمه كتكفير عن ذنبي، وكان أول سؤالي هو عن ضحى المسكينة، فكان جوابهم أنها نقلت إلى المشفى، وقد أعلن الطبيب أن حالتها خطرة، فذعرت لأمرها..وتوجهت مباشرة إلى المشفى لأتفقد حالها، فإذا بي أرى جسما أصفر ملتصقا على السرير، قسمعتها تهمس لي وتقول:" لقد رأيته"- ومن هو؟- إنه أشرف، لقد رأيت أشرف بأم عيني..وعلمت أنه يعمل طبيبا بهذا المشفى..لقد رأيته حزينا، فسألت عن أمره، فعلمت أن أباه مريض جدا، ومرضه مستعص على كل الأطباء، ولن يستطيع العيش إلا إذا قام أحدهم يتبرع بإحدى رئتيه، فلا ابنه يملك فصيلته الدموية، ولا أحد من أقربائه كذلك..... لكني أملكها، فقد قررت في نفسي أمرا، قررت أن يكون لي الفضل في مسح دموعه، فكيف لي أن أرد جميله إن لم أغتنم هذه الفرصة؟ فرغم أني مريضة إلا أن رئتي سليمتان والحمد لله، الآن أريدك أن تخبري الطبيبة بالأمر. رأيتها آنذاك تحمل مذكرتها وتسكب عليها ما تبقى من العبرات على ما تبقى لها من الحبر..فلم أجد مانعا في أن أخبر الطبيبة بالأمر، فعجلت بالأمر..لأن الرجل كان على وشك الموت..أما أشرف فقد انتابه الاندهاش.. فسأل عن المتبرع، فدلوه على مكانها، فرأى فتاة نحيلة مصفرة الوجنتين، كل ما فيها شاحب إلا ابتسامتها المضيئة، فدنا منها وسألها: "من تكونين؟"فأجابت بنبرة صوت تقطعها الزفرات:" أتذكر ضحى، تلك الفتاة البائسة التي أحسنت إليها، ثم حالت شياطين الإنس دون تحقق آمالنا وأحلامنا".لم يكد أشرف يتمالك نفسه فقد صرخ بأعلى صوته: "ضحى؟! ضحى؟!..ألم تتزوجي بعد بالشاب الذي أحببته من دوني"فأجهشت
ضحى بالبكاء: "عارعليك أن تصدق شياطين الإنس، فقد قضيت زهرات عمري خلف أسوار السجون، فكان لا يمر علي يوم إلا وذكرتك فيه، وتذكرت جميلك ...وعاهدت نفسي أن أرد لك الجميل حتما..طال الزمن أو قصر..فها هي ذي الفرصة أمامي أغتنمها، اعلم أخي أنه يستحيل علي رد جميلكم..لكنني حاولت جاهدة أن أرد لكم ولو جزءا صغيرا..أتمكن فيه من مسح دمعك ودمعة أبيك، ورد الابتسامة التي عهدتها على محياك، لقد حققت عدة أماني في هذه الحياة، فقد كان لي الشرف في إنقاذ أبيك من الهلاك، ويكفيني من الحياة أن أراك قبل الممات، وقد كان لي ذلك، فلا حاجة لي من هذه الدنيا الآن سوى ابتسامتك، أتعلم؟! ما كنت أظن يا أشرف أن جسم الإنسان يحتمل كل هذه الآلام التي أكابدها، فقد مرت بي ساعات اعتقدت فيها أن الألم الذي أكابده، إنما هو احتضار..وأنني في الساعة الأخيرة من حياتي، فإذا استفقت أقول في نفسي: هذا ألم المرض، وقد عجزت عنه، فمن لي باحتمال ألم الموت، فأنا أدنو منه خطوة خطوة ، على أن نفسي كانت تحدثني أحيانا أنه إن قدر لي أن أراك في يوم من الأيام بجانبي لبرئت من مرضي..وتراجعت نفسي وعدت إلى راحتي وسكوني، فلا أعلم إن كان ذلك مقدرا لي الآن أم لا. علمت حينها أن أشرف بذل المستحيل لعلاج ضحى ، لكن مرضها مزمن، ويتطلب عملية جراحية دقيقة، نسبة نجاحها متوسطة، كما تتطلب الملايين، لم يجد أشرف ولا أبوه مانعا لأجل المال، فأذن للأطباء بالعملية.. فما إن ولج غرفتها حتى وجدها بقلم ومذكرة، فأجابته بنبرة هادئة: " إنه تذكار لك..فأنا أدنو من القبر شيئا فشيئا، فلم أعد أطيق النظر إلى سريري، فنفسي تحدثني بأنه سيكون سلم قبري عما قريب، فهدئها أشرف بقوله: لقد أذنت للأطباء بإجراء العملية لك، وستعيدين نشاطك وصحتك عما قريب..وتعيدين ابتسامتك إلى وجهك بعد طول غياب، قاطعته ضحى قانلة: "صعب علي ذلك يا أشرف، فحسبي أن أودع الدنيا بابتسامة على محياك، أما أنا فقد هدم السعال أركان صدري هدما، والنوم لا يلم بعيني إلا قليلا، والطبيبة تعذبني بمشارطها وضماداتها عذابا أليما، وفي كل يوم أشعر أن نفسي تزداد ضيقا بي، وبصري يزداد ظلمة، وأن الحياة تبعد عن نظري شينا فشينا..فعما قريب ستكون شبحا من الأشباح النائية، فأملي في هذه الحياة ضعيف، فها هو ذا الموت يدنو مني رويدا رويدا...لا أعلم كيف أستطيع أن أسكن وحدي تلك الحفرة الموحشة المظلمة التي لا أنيس لي فيها ولا سمير، لكني حتما سأجد من هو أرحم من كل البشر.كثير من الناس يعمرون في هذه الأرض ثم يموتون فيتركون من بعدهم ذرية صالحة أو عملا طيبا يعيشون به بعد موتهم زمنا أطول مما عاشوه، أما أنا .. فإني أموت في ربيع حياتي...وسيموت ذكري في الساعة التي أموت فيها، وكأني لم أعش في الحياة يوما واحدا...فإليك يا أخي أشرف هذه المذكرة...احتفظ بها ودعها مخلدة عندك...كي تقلب صفحات حياتي المرة...وعتباتها التي اعترضت طريقي...ولم يزل هذا شأنها حتى ولج الأطباء معلنين قرب بداية العملية، مما يستدعي خلو الغرفة من أي عضو..وهكذا فقد تفقد أشرف أباه فوجده ولله الحمد معافا...فبكى من شدة فرحه..وحكى له قصة ضحى المسكينة، فأحس الأب بالذنب الشديد أن طرد الفتاة التي أنقذته في آخر مطافه، كانت اللحظات حارقة في انتظار الإجابة، كان أمل أشرف كبيرا في أن تصبح ضحى معافاة.وبعد انتظار أذرفت له الدموع وأحرقت له القلوب، خرج الطبيب من الغرفة معلنا أن الوضعية صعبة، وتبعه آخر معلنا أن الله قد قضى أمره فيها...هنا ولجت الغرفة مسرعة، وتبعني اشرف وقد اصفر وجهه ولبس لباسا لم يكن يعتاده، فرأينا ذلك الجسم الغض الناعم الذي كان يموج بالنور موجا، ويشرق وراء بشرته إشراق الماء بكأسه، قد أصبح جسما نحيلا مصفرا، أصبح عظما مجلدا وهيكلا قائما ، اندفع أشرف إلى سرير الجثة صارخا يريد أن يلقي بنفسه عليها، فأدركه الأطباء وأدركته أنا قائلة:" احترم الموت أيها الفتى"، فاختنقت عبراته في صدره، وارتعد ارتعادا شديدا، وسقط مغشيا عليه، فلم يستفق إلا بعد مطلع الفجر، حينما شعر أنهم قد أقبلوا يحملون الجثة، فقام يتحامل على نفسه حتى دنا من السرير، أما أبوه فقد انفرد في غرفته وحده، وجعل البكاء عنوانه في مثل هذه اللحظات، وما انقضى النهار، حتى انقضى معه كل شيء، وأصبحت ضحى رهينة قبرها، وأشرف طريح فراشه، يقرأ في مذكراتها ويبكي بكاء الثاكل المفجوع، حتى أقبل على آخر صفحة قرأ فيها ما يلي:لا تحزن علي كثيرا بعد موتي يا أشرف، فحسبي منك أن تذكرني ولا تنساني، وأبشرك أن الله قد استجاب لدعائي ، فألقى في منذ الأمس حين رأيتك، برد الراحة واليقين، ومحا عن قلبي جميع مخاوفه ووساوسه، فعلمت أنه قد رضي عني، وأصبحت لا أخشى الموت ولا أخاف بعده، فأنا بين يدي رحيم ليس كمثله رحيم في هذا العالم، فلا أجزع من الألم، ولا أبكي أسفا على الحياة، فلا يحزنك من أمري شيئا، وعش سعيدا بين قومك، وأهلك، وأكرم أباك...فهو خير الآباء، وأوصيك خيرا بأسرتك العظيمة..إن الله خلق لكل روح من الأرواح روحا أخرى تماثلها، وتسعد بلقائها...وتشقى لفراقها...ولكنه قدر لنا أن تضل كل روح عن أختها في الحياة الأولى...وهذا شقاء الدنيا...وأن تهتدي إليها في الحياة الثانية...وتلك سعادة الآخرة...وهنا كتبت بعض كلمات مضطربة قد محا الدمع أكثرها، فلم يبق منها واضحا إلا كلمة واحدة "الوداع".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.