سال مداد كثير حول ظاهرة الغش ، التي صاحبت في السنوات الأخيرة ، الامتحانات الاشهادية، و«تفنن» العديد من المهتمين بالشأن التعليمي وحتى الرأي العام، في وصف هذه الآفة الخطيرة التي أضحت عند العديد من المترشحين والمترشحات وذويهم، «حقا مشروعا» اكتسبوه بعد عناد قوي ومواجهات مع المراقبين والادارات التربوية، لكن لم يتطرق هؤلاء إلى الدوافع الحقيقية التي أدت إلى وصول الظاهرة حد الاحتقان شبكة وتقنيات .. و«تواطؤ» الأسرة حجم وخطورة ظاهرة الغش في الامتحانات الاشهادية، بكل من السنة الثانية بكالوريا في الامتحان الوطني أو السنة الأولى باكالوريا في الامتحانات الجهوية، أو السنة الثالثة اعدادي جهويا أو السادسة ابتدائي إقليميا، ليس في الأرقام التي تقدمها نيابات وزارة التربية الوطنية بجهة الدار البيضاء، أو على مستوى الاكاديمية الجهوية نفسها، ولكن في التقنيات الراقية التي أصبحت تبتكر خصيصا لهذه المهمة، ثم أيضا المساندة القوية والدعم اللامشروط من عدد كبير من الأسر ، على اختلاف الطبقات الاجتماعية، وتبقى الطامة الكبرى مشاركة مجموعة من الأطر التربوية وطلبة الجامعات في هذه الكارثة والمعضلة، بإنجاز وإرسال الأجوبة عبر تلك الطرق التقنية المدققة، وطبعا بمقابل مادي يؤديه ولي الأمر. ومع اقتراب موعد هذه الامتحانات كل على حدة، تتكاثف الاتصالات من أجل البحث عن مكونات الغش، بدءا من العثور على من يأتي بالمواد موضوع الامتحانات، ومن يوصلها إلى الأستاذ المكلف بالإنجاز ،الذي يضرب عرض الحائط بشرف المهنة ،وينساق وراء الاغراءات المالية، علما بأن سعر كل مادة قد يصل إلى 3000 درهم فمافوق، وهو مبلغ مقبول عند بعض أولياء الأمور مقارنة مع شهادة البكالوريا. كما أن هناك مجموعة من الأستاذة ،وعلى قلتهم، يعتبرون هذه الفرصة ذهبية، فالعملية ذات مردودية مالية محترمة ، خصوصا إذا كان للمادة الواحدة عدة زبناء، وهو ما يجعل المدخول مضاعفا ، بالاضافة إلى توظيف مجموعة من الشباب أو من المراهقين بدراجاتهم النارية لنقل الأوراق المسربة من داخل المراكز ونقلها بسرعة جنونية إلى من يحملها إلى الأستاذ والذي يتكفل بالانجاز ودفع ما أنجزه إلى المكلفين بإرساله إلى المترشحين. إذن خطورة هذه الظاهرة وهذه الآفة، تتجسد في المشاركين الذين يشتغلون في الخفاء، فهم بكل بساطة «عصابة منظمة» تشتغل في تلك الفترة من أجل جمع أموال على حساب تكافؤ الفرص ، وعلى حساب مصداقية تلك المحطة التي تعتبر معيارا لابد منه لنقل الطالب أو التلميذ من مرحلة دراسية عادية إلى مرحلة أخرى تدخل فيها عدة معطيات، كتكوين شخصيته، الرفع من قيمته، لأنه أصبح طالبا جامعيا وأبواب المستقبل قد انفتحت أمامه بكل طواعية وما إلى ذلك... وتبقى مشاركة الأسر في هذه العملية تكتسى طابعا أنانيا، فهي تريد لابنها ( أو ابنتها)، أن ينال هذه الشهادة بكل الطرق حتى تلك التي تعتبر غير مسموح بها ، هدفها الوحيد هو الحصول على تلك الشهادة، وكل من وقف ضد هذه السلوكات يعتبر في نظرهم، وكأنه سلبهم حقا مشروعا كان في المتناول ويتهمونه بالوقوف أمام مستقبل إبنهم أو ابنتهم، وقد يتولد عن ذلك تدخل مضاد قد ينتهي بالعنف الجسدي المؤدي إلى عواقب وخيمة يُندم عليها مستقبلا. الغش كمنهج في الحياة خاطئ من اعتقد أن الغش من أجل نيل هذه الشهادة أصبح أمرا متجاوزا ، وخاطئ أيضا من أعتقد أن كل مراقب وقف ضد هذا السلوك غير المقبول قد وقف ضد مستقبل هذا المترشح أو ذاك، لأن الغش سلوك فاسد ، سلوك الفاشلين، ونهج ينهجه العاجزون ، لأن كل تلميذ سلك طريق الغش في امتحانات السنة السادسة ابتدائي، وانتقل بذلك إلى التعليم الإعدادي سيترسخ في ذهنه دائما ان هذه الطريقة هي التي أصبحت معتمدة لنجاحه المبهر دون إرهاق نفسه طيلة المواسم الدراسية .وهكذا يعتمد عليها في امتحانات نهاية الدروس الاعدادية والالتحاق بالتعليم الثانوي التأهيلي، وايضا حين يصل الى السنة الاولى في الامتحان الجهوي، واخيرا في الامتحان الوطني في السنة الثانية بكالوريا. فالحصيلة التي يخرج بها هي انه بدون الغش لا يمكن ان يصل الى أهدافه. وشيء طبيعي أنه حين يتخرج بالطريقة نفسها.. ويتوظف فإنه سيسلك نفس الطريق، وهو الغش، فإن حكمت عليه الاقدار أن يصبح جزارا ، فإنه سيغش في عمله من أجل الربح السريع، وإن اصبح تاجرا سيغش في تجارته، وإن اصبح موظفا سيغش في وظيفته... وهكذا دواليك، دون أن يستطيع الابتعاد او الاستغناء عن هذه الآفة الخطيرة، لأن كل مراحل حياته قطعها دون الاعتماد على قدراته الشخصية المعنوية، بل على قدراته الغشية. وهو ما ينعكس سلبا على مردوديته الشخصية، علما بأنه في كل مرحلة يريد قطعها بهذه الطريقة يشعر بضعف شخصيته وبفقدانه القدرة الطبيعية التي يمنحها الله لكل عباده،يرى أنه مستثنى من هذه الحالة، لأنه مجرد شخص يسرق المعلومة من غيره ويحسبها لنفسه، وبالتالي يسرق حتى المقعد الذي حازه بدون جدارة واستحقاق وحرم منه من هو أجدر به. من طُرق بدائية إلى أحدث التقنيات الغش موجود مع وجود الامتحانات، والغش في المعاملة موجود مع وجود الانسان وطبيعته، لكن بالنسبة للامتحانات الاشهادية، كانت الطرق بدائية وكان في البداية بالاشارات ثم بكتابة بعض الأجوبة ورميها للآخر، ثم ما يسمى ب«الحجابات» او «النقلة»، وكلها كانت بسبب «الدفع». وبمعنى آخر انه كلما شعر المترشح بأن المعلومة قد هربت منه و غابت عنه يلجأ لهذه الاساليب. هذا مع السرية التامة والخوف من أن يراه زملاؤه اولا، ثم المراقب ثانيا، ولا يرضى لنفسه ان يضبط متلبسا، ليس خوفا من العقوبة والجزاء الذي قد يلحقه ، ولكن من العار الذي سيلازمه طيلة حياته، او في فترة مهمة منها. أما اذا وصل خبر ذلك التصرف الى ولي أمره فتلك مصيبة اخرى، رغم ان غالبية أولياء الامور في تلك الحقبة، كانوا دون مستوى تعليمي مقارنة مع اليوم، ورغم ذلك، فإن مثل هذا المسلك يحط من كرامة الأسرة جميعها. تفسيرات وتبريرات في لقائها مع مجموعة من التلميذات والتلاميذ ومع بعض اولياء الامور، مباشرة بعد الاعلان عن نتائج الدورة الاولى لباكالوريا هذا الموسم 2013/2012 بجهة الدار البيضاء الكبرى، توصلت الجريدة الى معطيات لافتة، حيث أكدت مجموعة مهمة من التلاميذ أنهم اصبحوا اليوم غير قادرين على مواجهة هذه الامتحانات دون اللجوء الى ما يعرف بالغش، وإلا فإنهم لا يستطيعون الاجابة عن مواضيعها، حتى وان ضاعفوا الساعات المخصصة لكل مادة ، «لسبب بسيط هو ، يقولون ، اننا مع هذا النظام الجديد قتلوا فينا روح العمل، روح البحث، وابعدوا عنا تلك الروابط القوية التي تجعلك تبحث وتنقب عبر المراجع والدروس السالفة حتى تكون مترشحا في المستوى المطلوب. وسواء توفقت أم لا، فإنك تشعر بأن ذهنك مملوء بالمعرفة والعلم، وحين تفكر اليوم وتجد نفسك محاصرا بما يعرف بالمراقبة المستمرة منذ السنة الاولى ابتدائي، فإنك تختار أبسط الحلول واسهلهاو و هي اللجوء الى الطرق التي تمنحك نقطة مهمة في المراقبة المستمرة، لتسهل عليك عملية العبور الى المرحلة القادمة. بأقل الجهد. المهم هو تخطي هذه المرحلة ». وهناك مجموعة اكدت أن اختيارهم لهذه الطريقة رغم انهم باطنيا ينبذونها ،جاء لاعتبارات خاصة، منها انهم يبذلون مجهودات كبيرة لتحقيق النجاح ، لكن ذلك غير كاف والمعدلات التي يمكنهم الحصول عليها قد لا تساعدهم على التسجيل في المعاهد التي يرغبون في متابعة واتمام دراستهم بها.و هو ما جعلهم يختارون هذه الطريقة كلما كانت الظروف ملائمة لذلك. فيما عزت فئة اخرى لجوءها الى هذه الطريقة ، بكونها لم تستطع الانخراط في الدروس الاضافية التي تضمن للمستفيدين منها نقطا مهمة في المراقبة المستمرة تضع البكالوريا في الجيب، حسب تعبيرهم. ومجموعة اخرى أكدت انها لجأت مضطرة لما يعرف بالغش، لتجد لنفسها موطئ قدم مع تلاميذ وتلميذات التعليم الخصوصي، الذين يستعدون لهذه الامتحانات بشكل قوي، حيث خلال السنة الاولى بكالوريا تخصص لهم حصص في المواد التي سيعتمد عليها في الامتحانات الجهوية دون الاهتمام بإتمام البرنامج الدراسي الخاص بهذه السنة ،وهو ما لا يتوفر في التعليم العمومي، حيث يركز المفتشون على ضرورة إتمام البرنامج الدراسي ، وبالتالي لا يمكن التركيز بالشكل الكافي في المواد التي ستمتحن فيها جهويا على غرار التعليم الخصوصي. إغراء «المستضعفين» من التلاميذ هذه الافكار التي لا يمكن الاعتماد عليها ولا يمكن أن تكون مبررا لخرق القانون، تجد دعما قويا بالعديد من الاسر، فتجد الأب او الأم هما اللذان يقتنيان الاجهزة التقنية رغم ارتفاع ثمنها ، و يتم اختيار أحدثها ، مع البحث منذ شهور، عن «شبكة» تهريب وتسريب مواد الامتحانات و«الشبكة» المختصة في انجاز وتبليغ التلميذ داخل القاعة، وتعمل في سرية تامة، وفق مخطط دقيق ومدروس. و انتقلت هذه الظاهرة الى الاسر الميسورة والتي سرعان ما تجيش مجموعة من الشبان لهذه الغاية لتصبح دون ان تشعر ، تتزعم «مافيا خطيرة» لا تهتم بها السلطات المحلية او الوزارة الوصية، وتشكل خطرا كبيرا على الحدث برمته. والخطير في الامر أن بعض هذه الفئة يستطيع ان ينفذ الى «دماغ» مجموعة من المترشحين، اما الاحرار او الصغار، الذين يعيشون اوضاعا صعبة في المجتمع، ويلجأ الى الاغراء المادي، ويطالبهم بالخروج من القاعة في مادة معينة يُركز عليها لانها هي مفتاح نجاح ابنها ( الأسرة) في الدقائق الاولى بحجة الشعور بمغص في البطن، او صداع في الرأس يستحيل معه اتمام الامتحان ، ويخرج معه ورقة موضوع الامتحان مقابل توفير شهادة طبية يستطيع عبرها ضمان الدورة الاستدراكية ، مع مبلغ محترم من المال، لم يكن هذا المترشح يحلم به يوما ، حتى وإن كان المبلغ بالنسبة للجهة المانحة لا يساوي شيئاً، مقارنة مع ما أسداه هذا المترشح. وهكذا يتم القضاء على مستقبل تلميذ آخر من أجل ابن أسرة مستعدة للدفع! والأمثلة كثيرة لهذه الحالة، عبر تراب جهة الدار البيضاء، لكن لا يمكن محاصرتها أو الإمساك بها، خصوصاً وأن أولياء الأمور من هذا النوع لا يثيرون الشكوك لفخامة السيارة التي تركن بإحدى النقط القريبة من مراكز الامتحانات ويستخدمون فقط تقنيات التواصل مع الشبكة. ومن المسائل التي قد يستغرب لها المرء، والتي يدفع الآباء والأولياء أبناءهم، من خلالها ، إلى طريق الغش، حين تجد الأمهات وقد تجمهرن أمام مدخل أحد المراكز والآباء أو بعض أفراد عائلة المترشح أو المترشحة، فما يكاد يخرج من الباب الرئيسي حتى تبدأ سلسلة من الأسئلة، إلا أن أغربها وهي الأولى التي تطرح. «كيف تعامل معكم المراقبون؟ هل تركوكم تنقلون؟»، فإذا كان الجواب «احضانا واحد المعكس مخلاناش انتحركو»، ساعتها ينهال على هذا المراقب وابل من السب والشتم من المقربين للتلميذ. «هداك معندوش الدراري، الله يعطيه...»، وحين يكون الجواب: «جاتنا واحد المراقبة، بركت على الكرسي وقالت لينا اتفاهمو بيناتكم بدون ضجيج» ساعتها ترفع لها أكف الدعاء، «هذه عندها الأولاد الله اعطيها....» إذن عندما يجد هذا المترشح وهذه المترشحة هذا الاستقبال، فحين يعود من جديد إلى قاعته، يكون مُحضراً نفسياً لهذا الغرض. قبل فوات الأوان أكد العديد من المتتبعين للشأن التعليمي، أن القضاء على هذه الظاهرة أو الحد منها، لن يكون أبداً فقط بالقرارات الزجرية ولو ارتفعت العقوبات، بل بالتفكير في أسباب انتشارها ومحاولة القضاء على مسبباتها، فإن كان ذلك في المنظومة التعليمية، فأصبح لزاماً التفكير في وضع استراتيجية جديدة لمنظومة الامتحانات، وإن كانت من الأطر التربوية، فمن الضروري التفكير في التكوين المستمر الذي أصبح ضرورة ملحة وفق معايير جديدة تساير كل تقدم وكل تحديث يطرأ في العالم وله تأثير مباشر أو غير مباشر على تعليمنا. وإن كان السبب في مسائل أخرى يجب فتح أبواب التواصل مع جميع مكونات العملية التربوية: الوزارة، الأكاديمية، النيابة، الأسرة، المجتمع المدني. وكل من له دخل في الموضوع. ولماذا لا يتم التفكير في مناظرة وطنية حول خطورة هذه الآفة التي أصبحت سائدة في الأوساط التعليمية عبر الامتحانات الإشهارية برمتها؟ إن المستقبل رهين بالمستوى العلمي للأجيال الصاعدة. فإذا استطعنا أن نكون أجيالا تكوينا علمياً واقعياً، نتحمل جميعاً فيه المسؤولية، واستطعنا إفراز طاقات علمية متكونة، فلا خوف على المستقبل . أما إن سرنا على ما نحن عليه اليوم من تشجيع لهذه الجريمة، وغض الطرف عن مرتكبيها بحجج مختلفة ، تدخل فيها المحسوبية والزبونية أو تُعطى مبالغ مالية، فلا مستقبل واعد في الأفق، وننتظر ساعتها استقطاب أواستيراد أدمغة من الخارج تسير شؤوننا، أو نكون ساعتها ننتج جيلا من الدرجة الثالثة، ينتظر المحظوظين الذين تمكنوا من الدراسة بوسائلهم الخاصة خارج أرض الوطن، لخدمتهم والعمل تحت سيطرتهم. الكرة اليوم في مربع الجميع، وعلى الوزارة الكف عن التهديد والوعيد ، والتفكير في طرق أخرى، تنقذ المنظومة التعليمية ، وتنقذ متمدرسي جهة الدارالبيضاء، الذين يشكلون أكثر من خُمس المتمدرسين عبر التراب الوطني.