في البَدْء كانت الكراهية. من بين الحقائق التي باتتْ معروفة اليوم هي التوتر الشديد بين الملك الرّاحل الحسن الثاني للثقافة، والعداء الدفين الذي كان يناصبه للمثقفين. ولعلّ في ذلك الكره وهذا العداء ما يفسّر، في جزء منه على الأقلّ، بعضا من المظاهر السلبية التي تطبع الوضع الاعتباريّ للمثقف اليوم. وهي مظاهر عملت آلة معقّدة، إداريّة ومخزنية، على حدّ تعبير الأستاذ موليم العروسي، على تبخيس صورة المثقف من الناحية الاجتماعية، وتقديم صورة كاريكاتورية وفولكلورية عن الثقافة في بلادنا. إنّ بعضًا من واقع الحال اليوم يجد تفسيره في خيوط الأمس المعقّدة. كتابات عديدة انبرت اليوم لتسليط الضّوء على هذه الخيوط التي هي بمثابة جذور للتجليات الثقافية التي يسميها البعض تراجعا لدور المثقف، والبعض الآخر احتواء السلطة للمثقف الخ. فلماذا كان الراحل الحسن الثاني في علاقة غضب مع المثقفين؟ وما سبب هذه الحساسية؟ هل تعود أسبابها إلى تربيته التقليدية، أمْ إلى المزاج الشخصي للملك، أمْ إلى السياق السياسي الذي عرفه المغرب بعد استقلاله؟ مهما تكن الإجابة، فإن بلادنا أدّتْ غاليا ثمن هذه «الكراهية» التي عملتْ طاحونة الأشْخاص المُحيطين بالملك، والمؤسسات الحكومية وغيْر الحكومية على «تصريفها» داخل البرامج التعليمية، وأشكال التدريس، والمهرجانات «الثقافية» الخ. في الحقيقة، كان الحسن الثاني يكره نوْعا معيّنا من المثقفين، مثقّفي الحداثة والعلوم الإنسانية والفكر المعاصر، الذين يكتبون باللغة العربية على وجْه الخصوص. ولعلّ هذا ما دفع عبد الله العروي إلى أنْ يشير، في مقدّمة كتابه «المغرب والحسن الثاني» إلى ذلك قائلا: «لقد تجاهلنا الحَسَن الثاني، لفتْرة طويلة، مثلما تجاهلَ عشرات المثقفين الآخرين، الذين يفضّلون الكتابة باللغة العربية» يضيفُ العرْوي قائلا:» لمْ يكن الحسن الثاني يرتاح لرعاياه الذين عاشوا مدّة طويلة خارج البلاد، أوْ أولئك الذين يزْعمون أن لهم آراء أصيلة. وعلى الرّغم من تأكيده المتواصل بأنه لا يحتاج إلى «صوت السّيّد»، فإنه لمْ يكن يرتاح إلاّ عندما يجد نفسه بين التقنيين الذين يكتفون بإيجاد الحلول للمشاكل التي كان يطرحها عليهم (المهندسون، رجال التشريع، الأدباء...). كما كان يرتاحُ إلى علماء الدّين التقليديين، الذين كانوا أيضا، وبطريقتهم، تقنيّي الكلمة والاستعمال السيكولوجي». جذور سياسية لنبْذ الثقافة والمثقّفين في تصريحه للصحافي الفرنسي جان دانييل مدير، يؤكد الحسن الثاني على كوْنه لا يريد تعليم شعبه، لأنّ أولئك الذين علّمهم أصبحوا معارضين لنظام حكمه. وبعد انتفاضة 23 مارس 1965 التي وقعت بالدار البيضاء، والتي راح ضحيّتها مواطنون خرجوا للتعبير عن غضبهم من السياسة التعليمة المنتهجة، والتنديد بارتفاع الأسعار في المواد الغذائية الأساسية، كانت وزارة الأنباء والسياحة والفنون الجميلة والصناعة التقليدية قد أصدرتْ بلاغا تحدد فيه هوية المتظاهرين قالت فيه: « إنّ بعض المعلمين المنتمين لبعض التنظيمات السياسية والنقابية قد تقدموا لتحريض تلاميذ المدارس الثانوية على القيام بمظاهرات تكتسي صبغة العنف والتخريب ، وأن التلاميذ توجهوا نحو الشوارع الرئيسية بالمدينة ، ولوحظ أن عناصر لا تمت إلى هذه المدارس بصلة وتجاوزت سنين الدراسة قد أعدت سلفا للانْضمام إلى المظاهرات وقيادتها». مباشرة بعد هذا البلاغ الرّسمي، ألقى الحسن الثاني خطابا ملكيّا للأمة حمّل فيه مسؤولية ما حدث لرجال التعليم جاء فيه على وجْه الخصوص:» أتوجه إلى الأساتذة وأقولُ لهم إنه من عادة الرّجال، وعادة المثقفين بالخصوص أنْ تكون لهم الشجاعة الكافية للتعبير عن أفكارهم، لا أنْ يستغلوا التلاميذ، ولا أنْ يتستروا وراء الأطفال «، ليختتم كلامه بتحذير شديد اللهجة لرجال التعليم واصفا إياهم بأشباه المثقفين قائلاً: «أقول لكم انه لا خطر على أي دولة من الشبيه بالمثقف ، وأنتم أشباه المثقفين ..وليتكم كنتمْ جُهّالا». وهذا ما يسترجعهُ محمد نورالدين أفاية حين يقول أنّ «المدّ التحديثي في الثقافة المغربية تعرَّض لعملية إجهاض سياسية حقيقية انطلقت بوادرها بعد أحداث 23 مارس بالدار البيضاء. لذلك يفترض الحديث عن «النخبة الثقافية»، اليوم، استحضار التاريخ الطويل من الحرب التي تعرض لها الذكاء المغربي. ذلك أنّ النظام السياسي، منذ ذلك الوقت، أشهر كل ما يملك من قوة لمحاصرة الإبداع والثقافة بدعوى أن من يحملها يشكل خطرًا على النظام ما دام يطعن في شرعيته. حينها رفعت كلمة الأمر الشهيرة التي تقول بأنّ شعبا أمّيًا ومطواعا أفضل للنظام من شريحة متعلمة وواعية. والمؤكد أن هذه الاختيار السياسي ما يزال المغرب يؤدي، بسببه، أثمانا باهظة في سياسته و ثقافته وطرق حضور الذاتية المغربية أمام ذاتها وأمام العالم. لم تكن هذه السنوات، التي تواطأ البعض على تسميتها ب»سنوات الرصاص»، تقتصر على الحد من الحريات، بل إنها استهدفت الذكاء من خلال منع التفكير والتبرم من الإبداع. لذلك اختارت الدولة التقليد وضخّ البرامج التعليمية والإعلامية وكل أماكن العيش، بجراثيم «الإسلام السياسي» الصريح والمقنع، منذ ذلك الوقت، لمحاصرة كل النزوعات العصرية الهادفة إلى إثبات الذات، وخلق الثقة في الإنسان والتحرر من الإذلال». المثقف التقليدي: المثل الأعلى للحسن الثاني في كتابه «الحسن الثاني بين التقليد والاستبداد»، يقف إنياسْ دالْ عند الصورة الثنائية لعلاقة الحسن الثاني بالمثقف المغربي، أو بالنموذج الذي يرتضيه لهذا المثقف. ففي الوقت الذي يكشف عن حب كبير للأدب والأسماء الأدبية الكبرى في التاريخ، وبالخصوص الأسماء الأدبية الفرنسية، كان في الوقت ذاته يكره العلوم الإنسانية. لذلك كان يفضل دائما أن يحيط نفسه بالفقهاء والمؤرخين والمحدّثين التقليديين. وفي هذا السياق يقول عادل حجّي، الذي كان مشرفا على برنامج ثقافي بالقناة الثانية، بأن الحسن الثاني، بحكم وظيفته التي كانت تقوده إلى الدفاع عن التقليد، كان يرى في المثقف قبل كل شيء ذلك المثقف التقليدي. ومن المحتمل أن يكون معجبا بالمثقف بالمعنى الحديث، لكن باعتباره ملكا وحارسا للتقليد، فإن المثقف في ذهنه هو ذلك الذي ينمّ عن معرفة بالنصوص والقرآن ومصادر التشريع. المثقف في نظر الحسن الثاني هو يعرف التاريخ اللغة وشرح النصوص القديمة. ومن هنا فإن المثقف بالنسبة له ليس ذلك الذي ينتقد ويبدع، بقدر ما هو ذلك العالم والعارف بفنّ المحاورة، الذي ينطوي على معرفة موسوعية إلى حد ما. المثقف بالنسبة له هو الذي يعرف كيف يتوارى خلف معرفته، وبالتالي لا صلة كبيرة له بالمفهوم الغربي للمثقّف. ودائما حسب عادل حجّي، فإذا كانت العلوم الإنسانية لا تهم الحسن الثاني، بل إذا كان ينصب لها العداء، فذلك، في جزء كبير منه، يعود إلى تربيته التقليدية التي جعلته يضفي الكثير من القداسة والهالة على شخصه. لذلك كان يرفض أيّ سلوك مخالف تجاهه. ومن جهة ثانية، كان يخاف من كلّ ما يمتّ للفكر الحديث بصلة، لأنه هذا الفكر بطبيعته نقدي ومتحوّل وعابر وغير يقينيّ. الفكر النقدي يهدم عملا سابقا ويبرز حدود الأشياء، وكل هذا لم يكن يروق للحسن الثاني بصفته رجلا تقليديا. كان مشدودا كثيرا إلى المعرفة الماضوية، لذلك كان يفضّل الاستماع إلى الذين تابعوا دراستهم بالقرويين والذين يتبحّرون في العلوم الشرعية والدينية. ويختم حجّي قائلا :» غير أنّ الحسن الثاني بإبعاده الفلسفة، التي كانت بالنسبة له أرضية خصبة للاحتجاج والنقد، لم ينتبه إلى الخطر المقابل، الخطر الآخر الذي يتمثّل في منع الناس من التفكير بأنفسهم، وبالتالي باتوا فريسةً سهلة بالنسبة للمتشددين والظلاميين». ولعلّ من نتائج هذه الوضعية ما يجعل أفاية يقولُ مستخلصا: «يبدو أنّ المثقف المغربي، فضلا عن اهتزاز المرجعيات والقيم، بدأ يفقد الثقة في أفكاره وفي نفسه أمام سطوة السياسة وضجيج وسائل الإعلام. فالأطر التقليدية التي عادة ما كانت تسمح لهذا المثقف بالتعبير عن إنتاجه وأفكاره مثل الجامعة، تتعرض للإهمال التدريجي. وحركت وسائل الإعلام، المكتوبة والسمعية البصرية أقلامًا وأصواتًا تصوغ خطابات تتقدم كأنها تمتلك الكفاية والمشروعية للحلول محل المثقف النقدي والمؤرّخ، ومحل السياسي المعارض والأحزاب..إلخ. أمامً هذا الثالوث: انهيار الجامعة، الاحتواء السياسي، التباس الأدوار، يتقدم المثقف، باختلاف وتفاوت مجاله وعطائه، وكأنه فقد البوصلة، إذ نجد منهم من بقي متمسّكا بأشكال مختلفة من اللغة «الخشبية» على الرغم من التلوينات البلاغية وتكرار الصيغ البالغة السطحية، ومنهم من التجأ إلى الصمت، إما احتجاجا على التلوّث السائد أو الالتباس المستشري، أو توخيا للسلامة، بالانكماش على الذات والانغماس في غربة مريحة، وإما الادعاء بأن التفكير لم يعد مجد لأن الجمهور المفترض أن يتلقاه لا يرقى إلى مستوى إدراكه ومواكبته، ولأنّ قنوات جديدة ودعاة وخبراء جدد في الفكر والاستراتيجيا أصبح لهم التأثير الأكبر». سبب آخر: التعريب المتسرّع وتعميم الكتاتيب القرآنية في حوار له عن «الأضْرار الكبيرة التي لحقتْ بالنُّخبة المغربي، كانتْ قدْ نشرته «إيكونوميا»، في أكتوبر 2010، يشار محمد شفيق إلى التأخّر الثقافي الذي تُعاني منه بلادنا، وهو تأخّر يربطه بجُذوره المتمثّلة في التربية والتعليم. فقدْ تعرّض هذا القطاع، في نظره، لخيانة حقيقية من طرف شريحة من الطبقة السياسية، وهي تلك الشريحة التي دافعتْ بنوع من الاسْتماتة على تعْريب كتلة واسعة من التلاميذ المغاربة، بينما همْ أدخلوا أبناءَهم إلى أنظمة التعليم الأجنبية. من ثم لا يعتبر الأستاذ شفيق أن هذا خطأ غير مقصود، أو أنه خطأ في التقدير، بقدْر ما يعتبره خيانة حقيقية. ومن ثمّ فقدْ خلق هؤلاء طبقتيْن اجتماعيتيْن، إحداهما «ألْفا» والثانية «بيطا». واليوم، فإنّ أبناءهم هم الذين ينتمون فعْلا إلى طبقة «ألْفا»، بينما باقي الشرائح الاجتماعية في الطبقة الثانية». ويتابع شفيق مستنتجاً:» وهذا يحزّ كثيرا في قلبي لأننا، في نهاية الستينيات، كنا مجموعة من الأساتذة قد اقترحنا القيام بتعريب مُخالف، تعريب أكثر عقلانيّة، إلى جانب الوزير محمد بنهيمة، غير أننا اصطدمنا بمثقفين ومناضلين ينتمون إلى الحركة الوطنية ممثّلين في حزب الاستقلال والاتحاد الوطني للقوات الشعبية، الذين رفضوا الإنصات، وفي مرحلة ثانية (1970) وقّعوا على عريضة من أجل إيقاف الإصلاح الذي كنا نرومه. وإذا كان الحسن الثاني، في البداية، ضدّ القيام بتعريب متسرّع، فإنه لمْ يسايرْ فيما بعد وزيره، وانتهى به الأمر إلى التخلّي عن المشروع، والقيام، بعد سنوات، مع وزير التربية الوطنية عز الدين العراقي، بتعريب مستعجل وخطير. وبعبارة أخرى، فقد انتصرت الحسابات السياسية كثيرا على العقلانية البيداغوجية. العاملُ الثاني هو طبيعة التعليم في الكتاتيب القرآنية المغربية. حيث يشير محمد شفيق إلى أنّ وزارة التربية الوطنية كانت قد عملت على تعميم استعمال الكتاتيب القرآنية، ويضيف قائلا:» حين أصبحتُ عضوا في أكاديمية المملكة، أعددتث عرضا حول الكتاتيب، استندتُ فيه على شهادة مثقفيْن مصرييْن معروفيْن هما: طه حسين وحسن الزيات، وعلى عالم مغربيّ هو التهامي الوزاني، والذين يوضّحون كيف أنّ هذا التعليم يدمّر الشخصية. وبالفعل، فإنّ «المْسيد»، مع ما يرسّخه من ثقافة الخنوع وانعدام الشجاعة الفكرية، هو الذي وفّر للمخزن خُدّامَهُ المفضّلين. وبعبارة أخرى، فإنّ فلسفة السلطة المخزنية التاريخية، تنسجم انسجاما كبيرا مع الفلسفة البيداغوجية للمْسيدْ. هذه الفلسفة التي تتجسّد، من بين ما تتجسّد به، ضرورة أنْ تكون الأعيُنُ منخفضة أمام السيد للكلام أو الإنصات. ومن شأن هذا أنْ يبيّن، من الناحية الثقافية، ما أحدثه التعليم التقليدي من أضرار». وفي علاقة دائما بالثقافة بالتربية والتعليم، يشير التقرير الرسمي حول:»50 سنة من التنمية البشرية بالمغرب وآفاق سنة 2025، في الباب المتعلّق بمحور التربية إلى أنه مع بداية الثمانينيات، استفحلتْ البنية التربوية في المغرب، حيث «بدأت المنظومة التربوية، في التراجع، لتدخل بعد ذلك، في أزمة طويلة ؛ من بين مؤشراتها : الهدر المدرسي، وعودة المنقطعين عن الدراسة إلى الأمية، وضعف قيم المواطنة، ومحدودية الفكر النقدي، وبطالة حاملي الشهادات، وضعف التكوينات الأساسية (القراءة، الكتابة، الحساب، اللغات، التواصل). وبالرغم من، وأحيانا بسبب، اعتماد سلسلة من الإصلاحات، التي كان بعضها مرتجلا، في بعض الأحيان، وبعضها الآخر غير تام، في كثير من الحالات ؛ فقد تحولت المنظومة التربوية إلى آلة ثقيلة، قليلة المردودية، ومنتجة لخريجين غير مهيئين لمواجهة تغيرات ومستلزمات الاقتصاد والمجتمع العصريين. وهذا ما سيؤدي إلى جعل المدرسة تسير بوتيرات متعددة، مع تراجع أدائها، ولاسيما في المناطق البعيدة عن مراكز المدن الكبرى. [...] غير أن التطور الحالي لهذا القطاع، المرتبط بالسياسات التعليمية المتتالية التي خضع لها، والمزايدات التي كان موضوعا لها ؛ كل ذلك كشف عن الصعوبات التي أعاقته، كي يضطلع بالأدوار الجديدة التي أضحت تفرضها تحولات المجتمع والمحيط الدولي، ولكي يلعب دوره كرافعة لتنمية الرأسمال البشري، ولإنتاج المعرفة والتكنولوجيا. وتقترن جوانب القصور المراكمة بالتأخر البارز المسجل في مجال محاربة الأمية بحيث تنعكس آثاره سلبيا على مجموع ميادين الحياة الاجتماعية الاقتصادية والسياسية: وضعية غير منصفة تجاه النساء، اختلالات الديمقراطية، الانتشار المحدود لقيام المواطنة والتقدم، معضلة البطالة وضعف تنافسية الاقتصاد... اعتمدنا في جزء مهم من هذا المقال على مانشرته شهرية «زمان»