واحد من بين المفاهيم التي تدخل الأحكام عليْها في باب ما يُعرف ب»الحسّ المُشترك» هو مفهوم النّخبة المثقّفة. ولعلّ المتتبع لعدد من الأحكام التي تُطلق، أو تُكتب هنا وهناك، سيتبيّن له أنّ هناك مبالغة أحيانا في تحْميل مسؤولية الوعي والتعبير والتنديد والمشاركة بل والتغيير للمثقف. وهي المبالغة التي تترجمها، في الكثير من الأحيان، عبارات من قبيل :«النخبة مستقيلة»، أو «متواطئة»، أو ، في أحسن الحالات «منسحبة». مثل هذه الأقوال المبالَغ فيها، والقاسية إلى حدّ، لا تستقيم عند العودة إلى التدقيق العلمي لمفهوم «النخبة»، ولأدوارها. ولهذا نجد مفكّرا مثل الأستاذ عبد الله العروي حاسما في شأْن التمييز ما بين مهمّة النخبة في التفكير والكتابة وخلق النقاش، وبين مهام أخرى في المجتمع. بلْ ليس هناك، في تقديره، انسجام حتى داخل هذه الشريحة المختلفة بطبيعتها. وهو الطّرح الذي يوضّحه الأستاذ محمد سبيلا حين يعتبر أن النخبة خاضعة موضوعيا لدينامية الصّراع الاجتماعي ببعدية الأفقي والعمودي. ومن ثمة قانون التنافر وعدم التجانس سواء داخل النخبة الواحدة أو بين النخب. وبصدد الإشكال الذي تطرحه علاقة النخبة، المثقّفة على وجه الخصوص، بالمجتمع، وإلى أيّ حدّ هي فاعلة أو منسحبة وصامتة، فإنّ هناك عوائق وإكراهات تحُول دون هذا الامتداد الثقافي إلى المجتمع. ولعلّ أهمها : الارتفاع المُهول في نسبة الأمية في بلادنا، والتراجع المُهول في نسبة القراءة حتى في صفوف المتعلمين، وعدم اكتراث النخبة السياسية بالنخبة المثقفة وبأفكارها واقتراحاتها. في هذا السياق يقول محمد سبيلا: «إن ارتخاء الوشائج بين النخبة الثقافية الحداثية والنخبة السياسية التحديثية لا يرجع لتقاعس أفراد أو «خيانة» البعض أو حتى «الاستقالة الجماعية للمثقفين» بل تعود إلى الشرطية التاريخية المتمثلة في الانتقال من استراتيجية المعارضة الاستشرافية إلى سياق الاندراج من بنية النظام السياسي والتخلي الخجول عن الإيديولوجيا المتبناة سابقا والتبني الخجول للإيديولوجيا الليبرالية عمليا مع إنكارها نظريا». فليس من مهمة المثقف، إذنْ، أن ينزل إلى الأزقة والشوارع ، ويصرخ بدوره بأعلى صوته. بل إنّ دوره الملاحظة والتحليل وفتح النقاش المعمق حول القضايا بروح نقدية واستشرافية، والمساهمة في عقلنة الرؤية والثقافة والممارسة. وهو الرأي نفسه الذي يعبّر عنه الأستاذ نور الدين أفاية حين يقول : «إن الثقافة هي الضحية الكبرى للمغرب الحديث. وتُبين الوقائع أن »سوء الفهم« بين السياسي والثقافي سيستمر. انظر إلى أن كل القطاعات وُضعت لها مخططات وطنية: المخطط الأزرق في السياحة، المغرب الأخضر في الفلاحة، مخطط »إقلاع« في الصناعة، المبادرة الوطنية للتنمية البشرية للتقليص من العجز الإجتماعي؛ تأهيل الشأن الديني، المغرب الرقمي، إصلاح منظومة العدالة...المغرب في حاجة إلى كل هذه البرامج وأكثر. ولكن لماذا اسثثناء الثقافة بالرغم من كل الكلام الإنشائي حول أهميتها في التنمية وفي تحصين الهوية وما إلى ذلك». وعندما يُضاف إلى هذا تردّي مستوى التعليم في بلادنا، والذي أُفرغ من مضامينه التثقيفية، والدور الباهت لوزارة الثقافة، و»الصورة الاجتماعية» التي رُسمتْ عن الثقافة الحقيقية التي يعتقد البعض أنّ «الثقافة الفايسبوكية» باتتْ أجدى وأسرع في تجييش الشباب وحمْلهم على الانتقال إلى الفعل، ندرك جيّدا السبب الذي جعل النخبة المثقّفة الحقيقية ، باختلاف نزعاتها وأشكال حضورها، تشعر بلا جدوى الكتابة والتأليف إزاء نخب سياسية واقتصادية تستخفّ بقيمة »المنتوج الفكري المغربي« ، وخصوصا إزاء مجتمع لا يقرأ. لذلك، فعندما يعود المثقف إلى البحث في الحداثة والتقليد والتراث الفكري وبنية العقل وغيرها من القضايا التي يبدو أنها بعيدة عن الاهتمامات العمومية اليومية، فذلك لأنه اكتشف أن مظاهر تخلفنا ليست فقط اقتصادية وسياسية آنية، بل هي أيضا تضمر مظاهر تخلف أعمق، تخلف فكري يضرب بجذوره في قرون التاريخ. ولذلك فإنه عندما نحكم على النخبة بالابتعاد عن هموم المواطنين، وبالاستقالة والتواطؤ، إلى غيرها من الأحكام، فإننا نجانب الصواب. المثقف محكوم بمنطق البحث والفكر وبالمدة التاريخية الطويلة، كما يقول أفاية، وباللاشعور الثقافي الثاوي وراء السلوكات والتصوّرات. وهذا ليس استقالة من التاريخ بل حفرا في أعماقه البعيدة. والحملة الحالية المتواترة ضد المثقف ليست إلا شكلا من أشكال ضغط السياسي عليه حتى يواكب التحوّلات والانعطافات ويندرج في مسارها وينتج خطابا إيديولوجيا.