فقد المغرب بداية الأسبوع الجاري، واحدا من أهم صحفييه وكتاب الرأي فيه (زمن الاستعمار)، ورجال أعماله (بعد الاستقلال)، الذي ظل سامقا بنبيل الفعل في حياته الممتدة. ورحل كما ظل أبدا، رجلا نظيف الطوية، صادق الفعل، وواحدا من أنبل من أنجبت مدينة الرباط، بكل ما تختزنه من تاريخ مغربي موريسكي أندلسي وأمازيغي تليد. بل إن كل من قيض له أن يعود، لهذا السبب أو ذاك، للاطلاع على أرشيف جريدة «العلم» المغربية الرائدة، سيقف منبهرا أمام كتابات شاب اسمه «علي بركاش»، تصدر عن معرفة عميقة بالتاريخ وبالعلاقات الدولية، وبذكاء رصين في الدفاع عن الحقوق المغربية في الحرية والاستقلال والتقدم. وحين يسأل المرء ويبحث، عن سر اختفائه فجأة من عالم الصحافة، سيكتشف أن الرجل بحكم تكوينه الأكاديمي (واحد من أوائل من درسوا اللغة الانجليزية بالمغرب في الثلاثينات من القرن 20)، وبحكم التربية العائلية الرباطية العتيقة، قد انتصر للابتكار في مجال آخر، باعتماد كامل على الذات ودون وساطات ومحسوبية، هو مجال الأعمال والمقاولات. علي بركاش، الذي ذاق السجون والمنافي، زمن الاستعمار، ينتمي في الحقيقة إلى مدرسة الوطنية المغربية، تلك التي تأسست في نهاية الثلاثينات، وتشرب مبادئها من خلال رفقة رجال كبار من طينة أحمد اليزيدي وأحمد بلافريج والمهدي بنبركة (نفي معه إلى معتقل أغبالو نكردوس). وعلاقته بالشهيد المهدي بنبركة ظلت كبيرة جدا، لتقاربهما في السن، وأيضا بسبب أن المهدي كان هو المسؤول سياسيا، ضمن حزب الاستقلال حينها، عن الإعلام الحزبي. بالتالي فالمدرسة عمليا واحدة، ومن هنا علو قيمة ما كان يكتبه الراحل وهو شاب وطني حينها ب «العلم». مثلما أنه كان وسيط الحركة الوطنية مع الأمريكيين، وهو من رافق المهدي بنبركة إلى السفارة الأمريكيةبالرباط، لتسليمها وثيقة 11 يناير 1944 للمطالبة بالاستقلال. ولعب دورا كبيرا في استمرار وصول مواقف وآراء الحركة الوطنية، بالتنسيق مع جيل الشباب الوطنيين، قبل اعتقالهم جميعا سنة 1952، بعد أحداث التضامن مع الشهيد التونسي فرحات حشاد، بالدار البيضاء، إلى الأمريكيين. ومما أكده الدكتور فتح الله ولعلو، الذي جاور الراحل لسنوات ببيت العائلة بالمدينة القديمة، أن بيت علي بركاش هو الذي احتضن سنة 1949، حفل زواج الشهيد المهدي بنبركة، وهو بيت تقليدي أندلسي كبير، بدرب مولاي عبد الله. وهو الحفل الذي تميز، يقول ولعلو، بأنه لم يكن عرسا واحدا، بل ثلاثة أعراس دفعة واحدة، وفي ليلتين متواصلتين، هي عرس المهدي بنبركة وعرس الوطني الكبير عثمان جوريو وعرس الوطني الآخر عبد الكريم الفلوس. رحم الله الأستاذ علي بركاش، فهو اسم يحق للمغرب عاليا الاعتزاز به، صحفيا، وطنيا، رجل أعمال ناجح، ورجل مبدأ.