« ليس الإنسان قبل كل شيء إلا مشروعا،فهو مشروع يعيش بدايته ولذاته.وهذا المشروع سابق في وجوده لكل ماعداه. الانسان هو ما شرع في أن يكون» ( ج ب سارتر) بصدور مجموعة أقاصيص «الهدى هولدينغ» يكون الكاتب المبدع أحمد طليمات قد أكد من جهة أولى تجاوزه العملي لإشكالية مصير فعل الكتابة في ظل استفحال أزمة القراءة، كما ترجمتها وعبرت عنها مجموعته القصصية» مخلوقات منذورة للمهانة»1، ومن جهة ثانية استمر الكاتب في تدبيره المتوازن لتوليفته الإبداعية التي تتعانق فيها أجناس الرواية والقصة والشعر. «الهدى هولدينغ» عنوان هذه المجموعة، يجمع قصدا بين مفهومين من مرجعيتين متباينتين: مرجعية دينية مشبعة ظاهريا بنزعة قيميه أخلافية تمتلك مسبقا حقيقة طريق الخير والهداية والسبل التي تؤدي الى السلوك الفاضل،ومرجعية اقتصادية تحيل الى مفاهيم التحكم والهيمنة والاحتكار والقوة والتدبير والتنظيم، وهي مرجعية مشبعة بأخلاق المنفعة والمردودية والبرغماتية . هذا التوحيد المقصود المتضمن في هذا العنوان يحمل في عمقه رؤيا متكاملة ستفصح عن نفسها بوضوح في النسق القصصي المكون للمجموعة .حين الانتهاء من قراءة أقاصيص المجموعة نسمع صرخة مدوية لمبدع مفجوع، يحلم بقيم الحداثة والعقلانية والتنوير، والشخصانية والاستغلال الذاتي للأفراد ...يحلم بتلك النهضة التي أتتنا معاقة، وذلك الربيع الذي جاء خريفا تتقدمه جحافل الظلام والجبروت... في ظل هذا الإنكسار،وفي خضم هذا الإحساس الدفين بخيبة الأمل فجر الكاتب غضبه ورفع صوته عاليا بالسخرية والنقد الجريء لكثير من مظاهر التخلف المعشعشة في الواقع العربي والتي تتجه بالأساس الى فرض نمط معين من الحياة والسلوك من طرف أولئك الذين نصبوا أنفسهم حماة للدين خدمة لأجندات وأهداف مختلفة : سياسية واقتصادية, داخلية وخارجية. هذه الصرخة الجريئة نهجت أسلوب السخرية اللاذعة وهي تتصدى وتفصح وتعري ذلك النمط من الفكر الذي يريد أن يكون وحيدا /متربعاعلى عرش هولدينغ الحقيقة المثال... الفكر الذي يفرض عليك كيف تفكر وكيف تصلي وكيف تدفن موتاك و كيف وماذا تلبس ؟ كيف تعاشر زوجتك، وماذا تقرأ...كل السلوكات والمعاملات والقيم مدخلها الوحيد: الهدى هولدينغ . لنتأمل في بعض نماذج «الهدى الهولدينغي كما يعرضها السارد في صراعه مع أوصياء الحقيقة المطلقة : «هذا حجاب شرعي بدل حجابك المتفرنج لستر صلعتك...» « اعلم يا أخانا في الله أن اسمك الجديد هو: أحمد أبو لحية كهدية من هداة الهدي هولدينغ». « والى أن نهتدي جميعا على يد الهدى هولدينغ سأستعرض عليكم إخوتي في الله عينة من عناوين الكتب المهداة: - البراهين الموفورة في رجحان الشورى على الديمقراطية المنخورة. - الآي الريانية في تسفيه العلمانية . - في السفور والحجاب وما ينتظر السوافر القحاب...» هذه بعض من نماذج الهدايا التي يتلقاها السارد من هداة الهدى والتي تطل من خلالها الاقاصيص الخمسة عشر على جوانب مختلفة في الحياة والسلوك والقيم والأخلاق، التي يعتقد الهداة بأنهم وحدهم من يمتلك مفاتيح وأسرار ومواصفات سلوك البشر في كل مناحي الحياة اليومية . إن المتمعن في الكتابة الإبداعية لأحمد طليمات ، سيجد بأن الموقف النقدي الجريء المشبع بروح العقلانية والحداثة والمكسو بثوب السخرية الهادفة، لم يقتصر على اتجاه واحد...فلقد رأينا كيف صب جام غضبه من خلال شخصيتي «الكوارثي» والسيد تحفة على الانتهازيين والوصوليين والمتشدقين والمتاجرين «بالنضال» وكل من آبيضت قلوبهم: « لا أحمر إلا النبيذ والشفق وروج الشفاه ، وأضواء المواخير ومستحقات الخجل»2 . والبعض ممن ابيضوا، شرعوا في تزبيب جباههم ،صدق السيد لينين فهم كالفجل ، بيض من الداخل حمر من الخارج»3 « في «الهدى هولدينغ» نقرأ صفحة إبداع مفتوحة متميزة وشرسة ضد نمط معين من الفكر والسلوك، تكون نتيجة الحتمية: الاقصاء،التطرف، رفض الاختلاف، والعمل على تنميط الإنسان وقولبته في إطار واحد وملزم للجميع... هذا النمط من الفكر لا يظل في إطار « الهدى» بل ينتقل الى مرحلة الإجهاز العملي على كل ما من شأنه أن يتحدى المنطق الهولدينغي المحتكر وحده لمزايا الهداية وخطايا الضلال. تتبدل الأزمنة وتتغير الأمكنة , لكن جوهر هذا الفكر الذي يبرزه هذا العمل الإبداعي من خلال المواجهة المفتوحة بين الهداة والسارد يظل واحدا حيث يصبح الاختلاف كفرا والتعددية جريمة، واستعمال العقل والانفتاح على الجديد بدعة، هو نفس الفكر الذي قتل «معبد الجهني» و»غيلان الدمشقي» و»عمر المقصوص» بسبب اختلافهم مع قوى الظلام في تفسير مسألة الجبر والاختيار، وقتل « الحلاج» بسبب اختلافه مع غيره في تفسير الوجود وعلاقة الخالق بالمخلوق , وهو نفس الفكر الذي محن فلاسفة الإسلام، والذي اغتال مهدى عامل و صبحي الصالح وحسين مروة ، والذي يحرم الفن ويحارب كل أشكال الإبداع التي تخلد الإنسان فكر يهين ويستعبد ويقتل المرأة جسدا وروحا. مجموعة أقاصيص الهدى هولدينغ، بحجمها الصغير تفتح ملفا كبيرا بسخرية غنية بالفكر ومغذاة بعمق في الرؤية , وبإبداع في اللغة ما أضفى عليها جمالية تشي بهوية المبدع وتميزه .