حسام بالي / مقدمة: الحمد لله ذي الجلال الذي عجزت عن إدراك كنهه عقول العارفين، والكمال الذي قصرت عن إحصاء ثنائه ألسنة الواصفين، والقدرة التي وجلت من رهبتها قلوب الخائفين، والعظمة التي عنت لعزتها وجوه الطائعين والعاكفين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خير خلقه، وعلى آله وصحبه ومن تحلى بهديه وعلى خلقه. حسام بالي أما بعد، إذا كانت القصة التقليدية بما تحمله من خيال وزخم عاطفي ومواقف درامية، تثير في قارئها هوس الاندماج تشد أعصابه وتصيبه بالخذر فيتيه بين ظهرانيها ويتقمص شخصياتها ويتماهى معها. فإن القصة القصيرة الجديدة على عكس ذلك تماما توقظ كل خلية من خلايا قارئها وتشعل فيه القلق والتساؤل. ولعل هذا بالضبط ما شدني إلى عالم محمد مباركي القصصي، منذ أول لقاء لي به. فقررت أن يكون موضوع بحثي هو: دراسة تحليلية لمجموعته القصصية "وطن الخبز الأسود". وهكذا فقد تطرقت في المبحث الأول من الفصل الأول إلى التعريف بالقصة القصيرة ثم عمدت في المبحث الثاني إلى التمييز بين القصة القصيرة والرواية والأقصوصة، ثم أوردت في المبحث الثالث ورقة عن موقع هذه المجموعة القصصية في الفن القصصي. فيما خصصت الفصل الثاني لدراسة الجانب الفني في المجموعة القصصية من خلال دراسة الفضاء المكاني والزماني، وتحديد الشخصيات في علاقتها بالمتن الحكائي، دون أن أنسى دراسة الذاكرة الشعبية لحضور الموروث الشعبي الذي يؤرخ للمنطقة، وانتهيت إلى دراسة الجانب اللغوي في المجموعة القصصية، ثم البناء الفني، وفي الأخير ذكرت بعض الاستنتاجات التي خلصت إليها، وختمت الفصلين بخاتمة عامة. وكأي طالب اعترضتني مجموعة من العوائق والإشكالات أهمها غياب أي دراسة تناولت هذه المجموعة القصصية لكونها من الأعمال الحديثة، إلا أنني وجدت من يذلل هذه العقبات أمامي، ألا وهي الأستاذة الكريمة "مريم لحلو" التي تفضلت بالإشراف على هذا البحث، ومنحتني من توجيهاتها ما أنار طريقي في دراسة المجموعة القصصية. ويبقى عملي هذا مجرد دراسة متواضعة أتمنى أن تعزز بدراسات أخرى من أجل الوصول إلى إعطاء صورة متكاملة حول هذه المجموعة. الفصل الأول: مباحث في القصة القصيرة المبحث الأول: تعريف القصة القصيرة أصبحت القصة القصيرة منذ أوائل هذا القرن فنا له أصوله وقواعده وعناصره الفنية والمضمونية وطرق التعبير التي تميزه، عن بقية الفنون الأدبية، وتواتر الإنتاج في هذا الفن وتكاثر وأبدع فيه الكتاب ما شاء لهم أن يبدعوا، كل حسب موهبته وبراعته وتمثله للعالم من حوله. وعبر فترة زمنية تمتد من الربع الأخير للقرن 19 وتستمر إلى وقتنا الحاضر، وملامح هذا الفن تزداد اتساعا وتميزا وأطره وألوان التعبير فيه ترحب رحابة لا تعرف الحدود، على اعتبار أن الفن لا تأسره الحواجز أو الآفاق المرسومة، وجاء النقاد بعد ذلك، كما هو الشأن بالنسبة للشعر والمسرح وغيرهما من الفنون، ليتأملوا هذا الوليد ويتابعوا نموه ويحاولوا بعد ذلك تحديد المجال الذي يرتع فيه، ثم ليستخصلوا المقاييس التي يراعيها الكاتب القاص أثناء إبداعه، وليضعوا بعد هذا كله، أصول هذا الجنس الأدبي الجديد( ). وفي فترة مبكرة اعترف ف. شلوفسكي قائلا:"إنني لم أعثر بعد على تعريف للقصة القصيرة"، كما اعترف أحد أبرز كتاب القصة القصيرة في العالم العربي، وهو يوسف إدريس، قائلا:"فن معقد إلى الدرجة التي لا أستطيع أنا شخصيا بعد هذا العمر في ممارسته أن أعرفه..."( ). وفي الطريق إلى وضع مفهوم للقصة القصيرة تواجهنا مجموعة من التعريفات، تتضافر كلها في النهاية للوصول إلى هذا المفهوم. فإدغار آلان بو القاص الأمريكي الأول يعتبرها قصة تقرأ في جلسة واحدة وشكري عياد ينظر إليها على أنها تسرد أحداثا وقعت حسب تتابعها الزمني مع وجود العلية، وهو تعريف مقتبس عن الناقد الإنجليزي:"آلان فورستر" في "أركان القصة" إذ يقول "أساس القصة هو الحكاية، والحكاية عبارة عن قص أحداث مرتبة في تتابع زمني مع وجود الحبكة والحبكة هي سلسلة من الحوادث التي يقع فيها التأكيد على الأسباب والنتائج". ونجد الدكتور "رشاد رشدي" يعرف القصة القصيرة بأنها تروي خبرا ولكن لا يمكن أن نعتبر كل خبر أو مجموعة من الأخبار قصة، فلا جل أن يصبح الخبر قصة يجب أن تتوفر فيه خصائص معينة، أولها أن يكون لها أثر كلي، بمعنى أن الخبر الذي ترويه (القصة) يجب أن تتصل تفاصيله وأجزاؤه مع بعضها بحيث يكون لمجموعها الأثر أو المعنى الكلي( ). وفي نفس السياق يقول مصطفى علي عمر:"...تمثل القصة القصيرة حكاية تعرض في عدد قليل من الصفحات، ولهذا سميت بالأقصوصة، وتعتمد في بعض الأحيان على خبر، يدور حوله مجموعة قليلة من الأفعال، وقد تشمل موقفا معينا يعبر عنه الكاتب بإيجاز دون إسهاب أو إضافة، فمن سماتها الخفة والسرعة والبعد عن الأعماق والأغوار"( ). وبالإجمال نستطيع أن نقول أن القصة القصيرة تتناول قطاعا عرضيا من الحياة، تحاول إضاءة جوانبه، أو تعالج لحظة وموقفا تستشف أغوارهما، تاركة أثرا واحدا وانطباعا محددا في نفس القارئ، وهذا بنوع من التركيز والاقتصاد في التعبير وغيرها من الوسائل الفنية التي تعتمدها القصة القصيرة في بنائها العام، والتي تعد فيها الوحدة الفنية شرطا لا محيد عنه، كما أن الأقصوصة تبلغ درجة من القدرة على الإيحاء والتغلغل في وجدان القارئ كلما حومت بالقرب من الرؤية الشعرية. المبحث الثاني: تمايزات القصة القصيرة عن الرواية والأقصوصة في هذا المبحث سنحاول ذكر أبرز مميزات كل جنس على حدة، لكي نصل في الأخير إلى الفرق الذي يكمن بين هذه الأجناس. إذا فالقصة القصيرة حسب عبد الرحيم مودن تعد "من المصطلحات الشائعة في السرد المغربي الحديث، وهو يرادف، من حيث الاستعمال، مصطلح القصة. غير أن وصفه بالقصر، يعود إلى جانب الكم الذي مثل عنصرا معياريا في التعامل مع النص سواء بالنسبة للكاتب أو المنبر الصحفي الذي تربت في أحضانه النصوص القصصية إلى هذا النوع. ويظل مصطلح القصة القصيرة من أهم المصطلحات في الكتابة القصصية المغربية، سواء على مستوى المجاميع القصصية أو على مستوى القراءة، وأخيرا على مستوى الأسماء التي مثلت تجارب مختلفة. وبالإضافة إلى هذا وذاك، إن تجربة القصة القصيرة بالمغرب مرآة لأنماط التجريب واستنباط عناصر سردية انتمت إلى أنواع أدبية أخرى مثل المسرح والشعر والفن السينمائي والشعري وبنية الأسلوب الكاريكاتوري والبلاغة اليومية وأشكال الحكي التراثي كالمقامة وغيرها. وأما الأقصوصة فقد تتداخل – وهذا ما نلمسه في المجال الإبداعي – الأقصوصة بالقصة القصيرة إلى حد التطابق خاصة على مستوى التسمية. غير أن الأقصوصة تتميز بطابع التركيز المجهري على الحدث المفرد، والشخصية الواحدة الموجهة لعملية الحكي، والمتحكمة في فضاء النص بدلالاته المختلفة"( ). وأخيرا فالرواية "نص سردي مطول، متعدد الشخصيات والفضاءات والأحداث والمرجعيات... يقوم على المتخيل الذي يخضع لمستويات التحويل الأسلوبية والبنائية بهدف كتابة تاريخ استعماري لحقبة ما بكل عناصرها، الإنسانية المتفاعلة مع حياتها الجديدة التي وفرها فضاء النص المتخيل"( ). فالرواية إذن هي أحدث أنواع القصة، ويطلق عليها القصة الطويلة لأنها أطول أنواع القصص على الإطلاق (550 صفحة) وتقرب من 40.000 كلمة وأكثر. والآن سننتقل إلى جانب المقارنة وهنا سنحصر المقارنة بين جنس القصة القصيرة والرواية، في جميع المستويات، وسنبين بعض الفروقات بين القصة والرواية. فالقصة القصيرة تختلف عن الرواية في علامات فارقة هي: الطول، الرؤية، الزمن، الشخصيات، الأحداث، البناء، اللغة، المكان وأخيرا الأسلوب. 1- الطول: تتكون الرواية من شخصيات وأحداث عديدة، وتمتد عبر مساحات زمانية عريضة ويتطلب ذلك بالطبع صفحات كثيرة تتجاوز المائة في أغلب الأوقات، وفي المقابل من المنطقي أن تكون القصة أقصر لأنها لا تتناول غير حدث واحد بسيط أو تغوص في خلجة من خلجات النفس الإنسانية تقع تحت ضغط ما. أقصى طول محتمل في العرف الأدبي للقصة القصيرة هو ثلاثون صفحة وما تجاوز ذلك حتى سبعين صفحة يعد رواية قصيرة وليس قصة قصيرة. أما الحد الأدنى فقد ارتضى العرف الأدبي ألا يقل عن خمس صفحات، على أن تسمى القصة التي تقل عن خمس صفحات بالأقصوصة وهو نوع أدبي شاع خلال ربع القرن الأخير وهو قصة قصيرة بلغت درجة عالية جدا من التكثيف وهو ما بات يعرف ب"القصة القصيرة جدا". 2- الرؤية: تمثل الرؤية نقطة الانطلاقة الأساسية في تصور النص الأدبي وهو لا يزال نطفة في رحم البوتقة الإبداعية لدى الكاتب... والرؤية في القصة القصيرة ليست غير نقطة ضوء تطل في لحظة بسبب موقف قد يبدو للبعض عاديا، وإذا كان الروائي يبدو أحيانا وكأنه يرى الإنسانية جمعاء فإن كاتب القصة القصيرة يطل على العالم من ثقب صغير في الباب ومع ذلك فيمكن أن تعبر رواية كبيرة وقصة قصيرة جدا عن رؤية واحدة. 3- الزمن: يعد الزمن محور اختلاف رئيسي بين الرواية والقصة القصيرة، ذلك أن الرواية تتناول أحد قطاعات مجتمع ما وقد تستوعب الحياة في أكثر من شريحة ومرحلة عمرية عبر فترات طويلة نسبيا قد تكون شهرا أو سنة أو عدة سنوات، أو ربما عبر قرون من الزمان أما القصة القصيرة فقد تصور موقفا يستغرق دقائق أو ساعة أو ربما ساعات أو يوما كاملا. 4- الشخصيات: إذا كانت الرواية ترصد حياة مجموعة من البشر في زمن ما فإنها تحرص على رسم تفاصيل ملامحهم الجسمانية والنفسية والعقلية والإمكانات الاقتصادية والثقافية. لكن القصة القصيرة ليست مطالبة بكل ذلك لأنها معنية بتصوير شخصية واحدة أو اثنتين في موقف بسيط مكتفية برسم صورتيهما بالإيماء إلى ملامح- فالاهتمام يكون عادة بالحالات النفسية ومعطياتها الخارجية. 5- الحدث: تتعدد الأحداث في الرواية وتتوالى في صورة تركيبية بعضها يفضي إلى بعض صاعدة من البسيط إلى المعقد وتشارك الشخصيات كل على حسب أهميتها في صنعها ودفع عجلتها لتشكل عالم الرواية الكبير. أما القصة فلا تحتمل غير حدث واحد وقد يكتفي بتصوير لحظة شعورية نتجت عن حدث تم بالفعل أو المتوقع حدوثه ولا يدهش القارئ إذا انتهى من القصة ولم يعثر بتاتا على حدث إذ يمكن أن تكون مجرد صورة أو تشخيص حالة أو رحلة عابرة في أعماق شخصية ثائرة أو حائرة. 6- البناء: البناء هو الشكل وهو المعمار الفني، يمكن أن يتشابه بين القصة والرواية، لكن حجم الرواية واتساع عالمها يجعل أحيانا من نقط التقارب أمرا متعذرا. فالبداية في القصة القصيرة هي مفتاح العمل في أغلب جوانبه ونقطة الانطلاق الأساسية لهذا العالم المحدود لأن القصة يبدأ بناؤها مع أول كلمة ومعها يشرع الكاتب في الاتجاه مباشرة نحو هدفه وهو ما لا ينطبق على الرواية المتشبعة. 7- اللغة: أمام الروائي فرصة طيبة ومتسع كي يدبج العبارات في تصوير الشروق والغروب وروعة الأفق والبحر والغيوم والسماء والفضاء الشاحب ويصور لنا حال البطل ومشاعره فهو يرسم صورة تفصيلية لكل حدث ولكل عنصر في بيئة الحدث. أما القصة القصيرة فهي نص مكثف إلى أقصى درجة لا حشو فيه ولا تأكيد ولا تكرار وربما يسمح بالتشبيه في أضيق الحدود، الألفاظ مرهفة ومسنونة بلا تزيد وليس فيه ثمة مجال لاستعراض ثروة الكاتب اللغوية إلا في حدود المتاح. 8- المكان: واضح أن الرواية تحتاج إلى تعدد الأماكن من سفر ومطاردات وحوادث وتغير في أماكن السكن بل ويرخص فن الرواية لكاتبها أن يستغرق في وصف المكان بعدة صفحات. القصة القصيرة طبيعة زمانها وشخصياتها لا تحتمل إلا مكانا واحدا وربما لا تتناول إلا جانبا منه كأن يكون شرفة أو حقلا أو جزءا من طريق. 9 -الأسلوب: هو التقنية الذي يستعين به القاص في طرح فكرته، في مجال الرواية ويحتاج الروائي إلى أساليب فنية تتغير بتغير المواضيع والشخصيات والزوايا والأحوال، فنجد السرد المتدفق حينا، يعقبه مونولوج داخلي بين المرء ونفسه وقد يستعين الكاتب بالأحلام والفلاش باك والحوار وغيرها من الأساليب. أما في القصة القصيرة تختلف المسألة تماما فالموقف حرج ولا مجال أمام الكاتب إلا استخدام أسلوب واحد أو اثنين على الأكثر. المبحث الثالث: موقع هذه المجموعة القصصية في الفن القصصي تعد هذه المجموعة القصصية "وطن الخبز الأسود" بالنسبة للقاص محمد مباركي باكورة أعماله المنشورة في مجال القصة التي أصدر طبعتها الأولى سنة 2010 بمطبعة الجسور، وبعدها مباشرة أصدر رواية بعنوان: "جدار" سنة 2011 وفي الشهر الماضي من هذه السنة أصدر مجموعة قصصية جديدة بعنوان "الرقم المعلوم". وتتكون هذه المجموعة "وطن الخبز الأسود" من ثلاثين قصة قصيرة يستهلها الكاتب بإهداء ويليه مباشرة تقديم، إلا أن جل هذه القصص القصيرة التي كتبها تصب في البعد الواقعي السير ذاتي. وينتمي محمد مباركي إلى جيل الألفية الثالثة أي الفئة المعاصرة، ومن الكتاب المعاصرين له نذكر على سبيل المثال لا الحصر محمد العتروس الذي سطع نجمه في الآونة الأخيرة وله عدة أعمال قصصية في البعد الواقعي، وهناك أيضا عبد الله زروال وبديعة بنمراح ومصطفي جباري واللائحة طويلة. وتأثر محمد مباركي أيضا بأسلوب مجموعة من رواد الفن القصصي من أمثال أحمد بوزفور، محمد زفزاف، إدريس الخوري، إذ ظهر ذلك جليا في جل كتاباته. وخلاصة القول: يتبين لنا من كل هذا أن القصة القصيرة بالجهة الشرقية من المغرب الأقصى لها مكانة كبيرة، وقيمة جلية، ووضعية مثيرة ولافتة للانتباه، والدليل على ذلك وفرة المجموعات القصصية القصيرة، وكثرة المبدعين والنقاد، علاوة على مجموعة من الندوات التي تم عقدها من أجل التعريف بهذا الفن المستحدث الجديد إن شكلا وإن مضمونا وإن مقصدية. وبالتالي، يشكل إنتاج الجهة الشرقية من القصة القصيرة ثلث الإنتاج المغربي في هذا الفن. كما تحتل هذه الجهة المرتبة الأولى وطنيا في مجال التنظير والنقد الأدبي، بالمقارنة مع جهة الدارالبيضاء التي تضم نسبة كبيرة من كتاب ومبدعي القصة القصيرة. ولا ننسى أن هذه الجهة سيكون لها في الغد القريب مستقبل زاهر في هذا المجال، وذلك مع كثرة الندوات والملتقيات مثل الملتقى الجهوي للإبداع الأدبي بالجهة الشرقية وملتقى أبركان للقصة القصيرة والبرنامج الثقافي والفني للمديرية الجهوية لوزارة الثقافة بالجهة الشرقية لشهر فبراير 2012 واللائحة طويلة، والمهرجانات الوطنية والعربية التي تنعقد من وقت لآخر. الفصل الثاني: دراسة فنية للمجموعة القصصية "وطن الخبز الأسود" تمهيد بعد الوقوف في الفصل الأول على التعريف بالقصة القصيرة وذكر أهم مميزاتها والفرق بينها وبين الرواية والأقصوصة وذكر موقع هذه المجموعة القصصية في الفن القصصي. سنحاول في هذا الفصل إبراز أهم التقنيات والآليات الفنية التي اعتمدها القاص، وصب في قالبها هذه المضامين حتى صارت كلا منسجما ومتكاملا ومؤديا لوظيفة مشتركة في إيصال الخطاب والرسالة التي يود القاص إبلاغها للقارئ من خلال عمله القصصي. وهكذا سنتناول في البداية دراسة الفضاء القصصي بعنصريه المكان والزمان. ثم نتطرق إلى تحليل أهم الشخصيات المتمظهرة على مسرح المجموعة القصصية لننتقل بعدها إلى دراسة الذاكرة الشعبية التي حضرت في هذه المجموعة، لنخلص في الأخير إلى الإشارة إلى الجانب اللغوي في هذه القصة ونبين التقنية الفنية التي اعتمدها محمد مباركي في بناء مجموعته القصصية، لنصل في النهاية إلى خاتمة عامة. المبحث الأول: الفضاء المكاني والزماني 1- المكان: للمكان دلالات عميقة في كل قصة فبالإضافة للمساعدة في فهم العمل القصصي فإنه "يقدم دائما حدا أدنى من الإشارات الجغرافية التي تشكل فقط نقطة انطلاق من أجل تحريك خيال القارئ، أو من أجل تحقيق استكشافات منهجية للأماكن"( ). وحتما فهذا لا يعني المكان الذي تشغله الأحرف الطباعية التي كتبت بها هذه المجموعة القصصية بل يعني المكان الذي تصوره هذه المجموعة القصصية. "وجوليا كريستيفا في حديثها عن الفضاء الجغرافي أو المكان لم تجعله منفصلا عن دلالته الحضارية، فهو إذ يتشكل من خلال العالم القصصي يحمل معه جميع الدلالات الملازمة له، والتي تكون مرتبطة بعصر من العصور حيث تسود ثقافة معينة أو رؤية خاصة للعالم. وفي نظرها يجب أن يدرس في علاقة مع النصوص المتعددة لعصر أو لحقبة تاريخية محددة"( ). انطلاقا مما سبق فإن دراسة المكان في القصة هو من الضرورة بمكان، لأن توظيفه لا يأتي اعتباطيا بل يخضع لشروط معينة يضعها الكاتب نصب عينيه قبل الشروع في الكتابة. وفي نفس السياق يرى نجيب العوفي بأن "من البديهي بالنسبة لنص قصصي ناشئ يعتمد أول ما يعتمد على عنصري الحدث والشخصية، ويخضع لسيولة زمنية تعاقبية وأفقية، أن يحتل فيه المكان أهمية مركزية، باعتباره القاعدة المادية الأولى التي ينهض ويستوي عليها النص، حدثا وشخصية وزمنا، والشاشة المشهدية العاكسة والمجسدة لحركته وفاعليته( ). وبالنسبة للفضاء المكاني في قصص "وطن الخبز الأسود" فهو يختلف تبعا لكل قصة وأحداثها المختلفة. لكن هذا الفضاء يؤثته فضاء أوسع هو الذي ذكر في عنوان المجموعة القصصية وهو "الوطن". ومن هذا المكان نتناسل أماكن أخرى تشكل مجتمعة هذا الفضاء الواسع وتنتمي إليه. يمكن تقسيم الفضاء في هذا المؤلف إلى أقسام رئيسية هي القرية والمدينة، وأماكن محددة واقعية، وأماكن أخرى. 1-1- الوطن: يعد لفظ الوطن ملهم الكاتب ومنطلقه في هذه المجموعة القصصية. وهو الفضاء الأوسع الذي اختاره ليكون عنوانا لمؤلفه هذا، وبه بدأ أول قصة قائلا: "رضعت من حليب أمي حبا لوطن لم أره، لما فتحت عيني أول مرة على هذا الوجود، قالت لي "أدهشتنا بصراخك الحاد عند مولدك"، قلت "يا أمي ألم تعلموا أني استنشقت هواء ملوثا بقرن وربع من الحقد"( ). ويختم قصصه بقصة "وطن الشموس" التي يتحدث فيها عن معاناة المهاجرين في ديار الغربة وفراقهم لوطنهم حيث يبدأ هذه القصة بقوله:"تحولت الظلمة في داخلي كسرب غربان تحلق تائهة بلا أوكار، تنعق بأصوات كريهة، تتلذذ بالإساءة إلى نفس هاربة من وطن الشموس الحارة، إذ يمارس الليل والنهار لعبة التناوب في هدوء الحكماء"( ). 2.1- القرية: تعد القرية المكان الأساسي الذي ينطلق منه السارد في جل قصصه، فهو المكان الذي ولد فيه، وهو المكان الذي قضى فيه طفولته، ومنه يستوحي أمكنته القصصية المختلفة. فتارة يتحدث عن بادية شرق البلاد ويقصد إحدى بوادي الجهة الشرقية للمغرب التي ترعرع فيها الكاتب حين يقول:"أطبق الليل بيديه الصارمتين على هذا الجزء من بادية شرق بلادي، وساد سكون رهيب، قطعه نباح الكلاب هنا وهناك في عناد مع عواء بقايا ذئاب منقرضة، وأنا أحاول التلذذ بالمكان"( ). ويذكر تارة أخرى الروابي المجاورة لقريته يصفها بما تحتويه من أشجار ومناظر خلابة في بداية قصة "الجدي" قائلا:"امتدت أشجار الجوز في خطوط متوازية، كجيش عرمرم، فوق الروابي المجاورة لقريتي الصغيرة، متعانقة وشاخصة بأغصانها المزدهرة لضوء القمر، الذي اكتمل بدرا، محولا هذه الربوع إلى شاشة عملاقة بالأبيض والأسود، وزاد الهدوء من خشوعها، يقطعه النباح والنقيق"( ). ويضيف مرة أخرى الغابة إلى الدوار في قصة "عسرة" التي يتحدث فيها عن الجفاف الذي أصاب القرية حيث تتحول الغابة المجاورة إلى منقذ من الجوع بحيث يقول:"ويخرج هذا القروي الملقب في دواره بالشيخ إلى الغابة المجاورة لعله يصطاد طريدة ثعلبا كانت أو ذئبا أو أرنبا أو خنزيرا بريا"( ). 3.1- المدينة: اختار السارد المدينة أو أحد مكوناتها فضاء لقصصه، لكن المدينة في غالبيتها تمثل مكانا غير مرغوب فيه، لكونها أرض المصائب والمشاكل والهموم. فقد اختار الحي لتجري فيه أحداث شخصية محمود "الأبله" ومعاناته مع أطفال الحومة، وهم يتبعونه سبا وشتما ورميا بالحجارة وغيرها، وهو يحاول جاهدا صدهم عن ذلك. واعتمد السارد أيضا شوارع المدينة لتكون فضاء لمعاناة أحد أطفال الشوارع الذي رمت به الأقدار وسط دولة من الكلاب الضالة ينتقل معها وتوفر له الحماية اللازمة، حيث يصف هذا الفضاء قائلا:"وبدأ الظلام يتراخى على الشوارع والأزقة الشبه مقفرة إلا من الحيوانات الأليفة الضالة، إذ هرول الناس إلى منازلهم يلتمسون الدفء بين جدرانها"( ). ويختزل المدينة في أحد المنازل التي تأوي شخصا يعاني كثرة الديون في قصة "المدين" الذي يسكن منزلا وسط المتناقضات حيث يقول السارد: خرج في هذه الليلة الظلماء يلتمس فضاء أوسع من هذا الجحر الذي يسميه منزلا، المندس في أطراف المدينة الزاهية بشوارعها المضاءة بأعمدة كهربائية باسقة كأشجار الأرز"( ). وتكون المدينة كذلك مسرحا لأحداث مثيرة في إحدى الشقق المشبوهة بالدعارة وهي نموذج آخر للفساد الذي ينخر جسد المدينة والوطن على حد سواء. 4.1- أماكن مختلفة: هناك أماكن أخرى اعتمدها المؤلف لتكون مسرحا لأحداث قصصه المختلفة. والقاسم المشترك بينها هو كونها أماكن غير صالحة للعيش أو تنفر منها النفس لقذارتها. ومن أمثلة ذلك المقبرة في قصة "الطفلة نور"، والحانة في القصة التي اختار لها الكاتب هذا العنوان. والزنزانة في قصة "كابوس الجدران الإسمنتية" يصفها بقوله:"زنزانة إسمنتية بطلاء أزرق باهت وباب حديدي صلد، صريره يفزعني كلما فتحه شبه إنسان"( ). وأحيانا يختار المؤلف أماكن متنقلة مثل القطار في قصة "قطار"، والقارب المطاطي المخصص للهجرة السرية في قصة "رحلة". 5.1- أماكن حقيقية: يصر الكاتب على أن يبصم قصصه المختلفة بطابع خاص يبرز من خلاله انتماءه للمنطقة الشرقية للمغرب. ولذلك سمى إحدى قصصه باسم إحدى مدن المنطقة وهي "تافوغالت"، وتكررت مدينة وجدة أكثر من مرة في عدد من القصص، ومنها قوله:"وفي مخيمات وجدة بدأت رحلة النكبة الصغرى، التقى صانعو النكبتين في أصول سادية ملعونة"( ) 2- الزمان: يختلف الفضاء الزماني باختلاف القصص وموضوعاتها، والأوقات التي تجري فيها أحداثها. إلا أن الملاحظة الأساسية على الفضاء الزماني في قصص محمد مباركي يتناسب مع محتويات القصص، فالخبز الأسود يعني المعاناة الدائمة مع لقمة العيش. ولذلك يمكن التمييز بين فضاء زمني عام تحدده الفصول والشهور، وأزمنة خاصة بمختلف أوقات اليوم. 1.2- فضاء زمني عام: أ- فصل الصيف: ارتبط الصيف عند المؤلف بشدة الحرارة، وقد ذكر ذلك في موطنين من الكتاب، أحدها في قصة "الشحاذون" حيث يبدؤها قائلا:"كان الصيف يزفر حرارة لا تطاق، في شهر غشت، في ميناء هذه المدينة العفنة كغيرها من مدن هذا الوطن العزيز. لفظت السفينة الضخمة ركابها. كانوا في الغالب من العمال المهاجرين بديار الغربة"( ). والآخر في قصة "تافوغالت" حيث وصف نهار الصيف قائلا:"لكن نهار الصيف يهرول كالمجنون، يدثر الخلق بأرمادة من القيظ، تشوي الوجوه. فكر أين يبدد هذا الحر المشحون بزفرات اللهيب في هذا اليوم من أيام العطلة الصيفية العرجاء"( ). ب- فصل الشتاء: ارتبط فصل الشتاء كذلك، في قصص محمد مباركي بشدة البرودة خاصة في شهري دجنبر ويناير متعمدا اختيارهما لتميزهما بالبرودة الشديدة التي تزيد من معاناة شخصيات القصة التي أرادها المؤلف ظروفا سوداء كسواد الخبز، أما القصة الأولى فهي "كنزة" الذي يبدؤها بقوله:"كان اللقاء صامتا باردا كبرودة صبيحة ذلك اليوم من شهر دجنبر، لما عاد "أحمد بلعيد" من بلاد المهجر، يجر معه طقسا أوروبيا متقلبا"( ). وأما القصة الثانية فهي "القلم أولا وأخيرا" ويذكر الزمن الذي جرت فيه في بدايتها كعادته في القصص الأخرى حيث يقول: "في هذه الساعة المتميزة، من هذا اليوم البارد إذ هرأت الريح، في شهر يناير، اشتقت إلى بياض الورق فأخذت القلم بين أناملي لأكتب أي شيء لأي كان، لكنه جمح بين السطور كفرس برية، لم يطاوعني على الكتابة"( ). 2.2- فضاء زمني خاص: يلجأ المؤلف في كثير من قصصه إلى تحديد زمن خاص تقع فيه أحداث القصة. ويلاحظ أيضا أن الأزمنة التي اختارها المؤلف تتناسب تماما مع مقصديته في إظهار سواد العيش وضنكه. فلا نجد زمنا في النهار مع الشمس المشرقة والوضوح التام للأشياء، بل يعمد إلى الليل في مختلف مراحله بدءا بالمساء ومرورا بمنتصف الليل ووصولا إلى الفجر وما بعده، وقد أشار محمد مباركي إلى طغيان الليل على النهار وسيادته عليه حين قال في آخر قصة:"يرحل النهار ململما أنواره في هدوء، ليبتلعه الأفق البعيد تاركا الكون لليل مزهو بالحلكة يزرعها على الربوع"( )، ثم يضيف قائلا:"يخنس النهار ذليلا أمام جبروت الليل، ونتقلب الطقوس، تجاري قوانين اللعبة التي تمارسها الكتل الهوائية الآتية من المحيط، فتغضب وتفرغ أحشاءها زخات تزيد من جنون الجداول والأنهار المعاندة للموج عند المصبات"( ). وكأمثلة على هذه الأزمنة يتحدث في قصة "كابوس الجدران الإسمنتية" قائلا:"لما مالت الشمس للمغيب تاركة هذا العالم، في فوضى المجانين، غير آسفة عليه، واختلطت أنفاس الليل بأنفاس النهار، كانت لوعتي تشتد أكثر فأكثر، لأن الليل يترصدني بكابوس ملعون"( ). ويتحدث عن مساء مصحوب بصقيع في قصة "كلاب صديقة" التي يبدؤها قائلا:"انكمش المساء متدثرا من صقيع الليل القارص، وبدأ الظلام يتراخى على الشوارع والأزقة الشبه مقفرة إلا من الحيوانات الأليفة الضالة، إذ هرول الناس إلى منازلهم يلتمسون الدفء بين جدرانها"( ). وفي قصة أخرى يكون الزمن الليل المصحوب بالمطر حين يقول:"اهتز البيت بمن فيه لما قدمت في ليلة مطيرة، أغاثت جذبا استبد بالبلاد والعباد، فاستبشر الجميع بهذه القادمة"( ). ويكون منتصف الليل زمنا مناسبا لقصة "أسئلة لوالدي"، وهو وقت اختاره المؤلف ليسأل والده أسئلة أشكلت عليه وحرمته من النوم، يبدأ القصة قائلا:"مسني جنون القراءة بعد منتصف الليل، إذ يهدأ البيت من شقاوة الصغار ويدخل الكبار في بيات شتوي كالدببة، إلا من الوالد يتهجد في غرفته الأرضية تحت ضوء خافت متناغم مع قدسية المكان"( ). وقد يصل الزمن إلى وقت الفجر حيث السكون التام، حيث اختاره المؤلف ليذهب فيه شيخ أتعبه المرض وقهره الجفاف. ويدق على أخيه في المدينة عله يسدي إليه معروفا لكن دون جدوى، يذكر ذلك في قصة "عسرة" قائلا:"طرق الباب طرقا خفيفا، والوقت بعيد الفجر، والكل نيام لا يدركون أن العالم يملكه المستقيظون باكرا، أطل عليه وجه أخيه المصفر من كوة الباب الحديدي، وسأل "من؟". المبحث الثاني: شخصيات المجموعة القصصية تختلف شخصيات القصص عند محمد مباركي باختلاف كل قصة وموضوعها، لكنها تتفق على كونها شخصيات من الحياة اليومية المغربية، فهي لا تعدو أن تكون من أبناء هذا الوطن، وتشترك أيضا في المعاناة وضنك العيش رغم انتمائها إلى فئات اجتماعية مختلفة منها حتى الميسورة. يبرز المؤلف طبيعة شخصياته في التقديم الذي خص به المجموعة قائلا "أضع هذه المجموعة القصصية بين يدي القارئ الكريم، وقد أفرغت فيها جزءا من ذاكرة مشتتة بين حنايا هذا الوطن. أبطالها "كائنات حبرية" على حد قول الكاتبة أحلام مستغانمي، لا علاقة لها بأي كان، وحتى إن وجدت في الواقع، فذلك محض صدفة فقط"( ). ويحاول المؤلف أن تشمل شخصياته جميع فئات المجتمع التي تعاني كل في موقعه حين يحدد مختلف هذه الشخصيات التي جمعها مركب صغير للهجرة السرية حين يقول:"وشاب قابع هناك في مؤخرة المركب، يتلو آيات من الذكر الحكيم في يقين الزهاد، ويهمهم بأدعية لا يسمعها إلا هو، وهذه اليافعة الحامل تتوسل إلى بارئها بالخطيئة التي في بطنها تتحرك، هاربة بها إلى أوطان تعترف قوانينها ومجتمعاتها بالأمهات العازبات، وذاك صاحب الشهادة العليا يصرخ من أعماقه عن وطن تقيأ شبا به في هذا البحر، إذ تقنن سمكه في قضم العينين والأنف والشفتين للغرقى بالجملة"( ). أما الأسماء التي اختارها المؤلف لتكون أبطال قصصه فهي من الواقع المعيش، من الأسماء المؤلوفة عند الناس. لكن الملاحظ أن أغلبها لها دلالة لغوية تخالف ما تعيشه واقعا: فسعيدة التي تعني العيش الكريم في السعادة والهناء لها دور عاهرة في إحدى الحانات. وعبد الحميد صاحب الإسم من الأسماء المحمودة يستغل إبنة جارهم ويحطم حياتها. ومحمود كذلك بدل أن يكون حامدا وعاقلا فهو في القصة أبله يطارده الصبيان. وكنزة التي اشتق اسمها من الكنز، تفقد زوجها الذي هاجر وتركها تعاني مع أطفالها الصغار.. ونور الصغيرة التي من المفروض أن تنير البيت فقدت أمها وهي لا تزال صبية يانعة. وزينب ذات الاسم النابع من الحضارة والثقافة الإسلامية، تختطف في القصة طفلة، وتستعمل من أجل التسول دون أن تعرف عائلتها وأصلها وفصلها. والأستاذ (ج) وهو شخصية أراد المؤلف أن يتستر عن اسمه الحقيقي لتجنب الفضح وكذلك التلميذة (وئام) التي سماها بهذا الاسم المستعار حفاظا على كرامتها. واسم "بوكلاب" المستعار الذي أطلقه على طفل الشوارع الذي عايش مجموعة من الكلاب واستأنس بها حتى استحق أن يلقب بها. ولابد من الحديث عن شخصيات أخرى وردت في المجموعة القصصية بصفاتها لا بأسمائها ومنها "المدين"، و"المعلم" و"المتقاعد" و"الأرملة" و"الضابط" و"الشيخ" و"السياسي المراوغ" و"مؤذن القرية السارق" و"المهاجر"، و"المطرود من الجزائر" وأفراد الأسرة وغيرهم. المبحث الثالث: الذاكرة الشعبية في قصص محمد مباركي تحضر الذاكرة الشعبية في جل قصص محمد مباركي نظرا لما لها من تأثير في المتلقي المفترض لهذا الإبداع، فهو يعرف تمام المعرفة أن قراءه من أبناء المنطقة غالبا، لذلك عمد إلى إدخال كل ما تزخر به هذه الأمكنة من تراث شعبي يحن إليه أبناء جيله الذين قضوا أمتع اللحظات وهم يتنسمون حلاوة الحكايات والأحاجي والمستملحات التي حد من شيوعها ما عرفه العصر من تطور تكنولوجي وإلكتروني أتى على الأخضر واليابس منها ليستسلم الجميع إلى أساليب أخرى جديدة كالتلفزة والأنترنيت وغيرهما. أ- القصائد الشعبية: يشير المؤلف إلى بعض القصائد الشعبية في موضعين مختلفين من قصصه، الأولى جاءت على لسان طفل الشوارع الذي كان يترنح بعدما فعلت قنينة الخمر أفاعليها في رأسه وهو يردد لازمة معروفة لإحدى الأغاني الشعبية بالمنطقة الشرقية وهي "قلو لمي ما تبكيش ولدك باصا ما يوليش"( ). والقصيدة الأخرى وردت في قصة "وطن الشموس" وهي قصيدة للشاعر الزجال "بن سوسان" وعنوانها "أنا غشيم مازلت غري"( )، ويكرر هذه الأغنية ثانية في نفس القصة حين قال:"فتمثلت وقائع أغنية "بن سوسان" ولازمتها المتكررة"( ). ب- الأمثال الشعبية: يتحدث محمد مباركي في قصة "الجدي" عن أعراف كانت سائدة سابقا عن أهل القرى وهي عدم جواز بيع الشائع من الثمار، وأن من فعل تلاحقه معرة وخجل. ويكفي من أراد أن يأكل شيئا منه أن يقول دعاء اعتبر من الأمثال الشعبية السائدة وهو:"الله يرحم الغراس"( ). ومن الحمولة الشعبية ما يعنيه لفظ سخط الوالدين وما يعرف "بدعوة الشر" عند الآباء والأجداد، يقول المؤلف في أول قصة من مجموعته القصصية قاصدا "جده":"فهددنا بسلاح تقليدي معروف "دعوة الشر" قلت: ألبسها يا جدي عباءة من أجل وطني"( ). ج- الحكاية الشعبية: تحضر الحكاية الشعبية أيضا كموروث ثقافي له قيمته الفنية والجمالية في هذه المجموعة القصصية. وأبرز مثال على ذلك ما جاء في قصة "ذكرى سعيد" حيث يتمثل حكاية شعبية قديمة كانت ترويها الجدات لأحفادهن حتى يناموا، ووظفها في هذه القصة قائلا:"قال الكبار أن جدتنا الأولى صنعت طعاما وسكبته في قصعة كبيرة من الطين وسقته بحليب ثدييها الممتلئتين. من حينها لم يجع أبناؤها ولا حفدتها وحتى إذا أكلوا يشبعون بالقليل من الطعام، أي الطعام"( ). المبحث الرابع: البناء اللغوي للغة أهمية خاصة فهي أداة تواصل للتعبير وللجمال وللمتعة، وأيضا للذهاب بعيدا في محاولة لاكتشاف المجهول. واللغة قلق دائم، فالكاتب يبحث فيها ومن خلالها، من أجل الوصول إلى حل من نوع ما، بحيث أن هذه اللغة لا يقصد منها الجمال المجرد ولا التوصيل وحده بل الاثنان في وقت واحد. وهكذا تطرح مشكلة الاختلاف بين الأمس واليوم حيث أن ما كان موصلا بالأمس لم يعد كذلك اليوم وما كان جمالا في وقت سابق لم يعد يتمتع بهذه الجاذبية. ونعني بالبناء اللغوي(•) أي الطريقة التي يستخدمها الكاتب في صياغة جمله واختيار ألفاظه للتعبير عن فكرته أو رسم الصور الخيالية التي يريد تجسيدها بالإضافة إلى نقل الأحاسيس والانفعالات التي تختلج صدره، انطلاقا من البيئة المحيطة به وثقافته وتجاربه، وملاحظاته وأحاسيسه. فالقصة عندما تجسد واقع حياة المؤلف أو واقع المجتمع، فبناؤها الفني يكون بدوره تجسدا لثقافة المؤلف ومعتقده الديني وبما أن محمد مباركي معتقده الديني هو الإسلام فقد وظف في مجموعته القصصية بعض الأساليب القرآنية والأحاديث النبوية نذكر من بينها قوله "وقد بلغت من الكبر عتيا"( )، وجاء أيضا أسلوب قرآني في قصة "أسئلة لوالدي" حيث يقول المؤلف "وينفض المؤتمرون سكارى وما هم بسكارى"( )، كما نلاحظ أيضا في قصته "عسرة" استعمل أسلوبا قرآنيا آخر هو "فتتحول إلى رماد تذروه رياح الأنا"( ) كما نلاحظ أنه استعمل في نفس القصة أسلوب حديثي حيث يقول "فيا لؤم أهل المدينة كيف يتنكرون لعزيز قوم قد ذل"( ). وفي آخر قصة من هذه المجموعة القصصية التي هي "وطن الشموس" استعمل المؤلف أسلوب قرآني حين يقول "أصبحت في شقتي نسيا منسيا"( ). ومن خلال قراءتنا لهذه المجموعة القصصية نلاحظ حضور لافت للدارجة المغربية (العامية) ونذكر على سبيل المثال لا الحصر، ما جاء في قصة "محمود" حين يقول المؤلف "زاد عليه الحال"( ) وهي لغة عامية نقولها عندما يكون الشخص في حالة يرثى لها أو بالأحرى عندما يفقد صوابه، ويذكر أيضا في قصة "أسئلة لمعلم" لفظ "فلقة"( ) ومعناها الضرب بالعصا أخمص القدمين بعد شدهما بإحكام، كما جاءت في نفس القصة كلمة "بوشرواط"( )، كما استعمل أيضا في قصة "الجدي" جملة من الدارجة المغربية التي تفيد الدعاء وهي "الله يرحم الغراس"( ). وأما بالنسبة للأسلوب فقد وظف محمد مباركي في قصص مجموعته عدد لا بأس به من أساليب الاستفهام والنداء ناهيك عن تنوع في الضمائر منها الغائب والمتكلم والمخاطب. المبحث الخامس: البناء الفني سنتطرق في هذا البحث إلى التقنيات الفنية التي اعتمد عليها القاص محمد مباركي في مجموعته القصصية عند قراءة هذه المجموعة القصصية نتبين أن محمد مباركي مازال يبحث عن أشكال فنية جديدة يستخدمها في عملية بناء قصصه القصيرة، وهو وإن كان قد التزم جانب الواقعية الجديدة في عملية الطرح والتناول، فإنه بقي رافدا من روافد شخصياته ومعاناتهم، ولعل هذه السمة هي الغالبة في أكثر ما جاء في هذه المجموعة، غير أنه حاول جاهدا أن يكون موضوعيا في كثير مما تعرض له، فازدادت القصص ثراء، وجعلنا أمام واقع جديد، أعاد صياغته وفق نهج التزم فيه جانب الإنسان وطموحاته ومعاناته، متخذا من ذاكرة مدينته رؤية واقعية مؤكدة في معظم ما صور، مستلهما قوة الجماعة وأثرها في التغيير والحدث، مشيرا إلى عوالم كثيرة وشاسعة، لا تقف عند الحدود، ليؤكد أن الفنان يستطيع أن يخرج منها أعمالا فنية حية، لها القدرة على النفاذ والاستحضار. ومن خلال ما درسناه تتبين أن تقنية محمد مباركي الفنية في هذه المجموعة تميزت بما يلي: 1- عمد القاص إلى الإفادة من عنصر السرد إفادة كبيرة، ولم يجعل للحوار الخارجي ثقلا في النزر القليل، ولعل واقع مباركي، وظروف حياته المستقرة، كانت سببا في استقرار نفسيات شخوصه. 2- شكل من عنصري التوالي الزمني وإطاره السردي لوحات فنية جعلت القارئ يحس بقدرته على المزاوجة والتفتيت تارة، وعلى جماليات الإطار السردي تارة أخرى، وهو بهذا يؤكد قدرته الفنية في عملية الطرح والتناول. 3- جعل من حركة الزمن عاملا مهما في تقديم بعض شخصياته وأحداثه معتمدا في ذلك على رسم اللوحات في بعض قصصه. 4- عمد في تكنيكه الفني إلى الإفادة من الموروث الشعبي، وتصوير بعض عاداتنا وتقاليدنا وطقوسنا الشعبية والدينية، وقد تألق في كثير منها. وبالتالي نقول إننا أمام مجموعة قصصية ناجحة تمتاز بتعدد الأبعاد، وهذا ما حاولت الوقوف عليه، وأما من الناحية الشكلية البنيوية فإنها تحتاج إلى دراسة مستقلة. تضم هذه المجموعة ثلاثون قصة قصيرة ذات منحى واقعي متميز، وجدير بالذكر أن واقعية الأستاذ محمد مباركي واقعية تسجيلية تنقل القارئ إلى عالم تخييلي تتجاذبه من جانب الذاكرة وما تختزنه من ذكريات رسمت ملامح بارزة للشخوص والأمكنة والأزمنة، ومن جانب آخر الوجود في الزمن الحاضر وما يفرضه من قراءات متأنية مسكونة بجدلية ثنائية الماضي والحاضر. الأستاذ محمد مباركي يستحق من القارئ وقفة طويلة تتيح إمكانية التمتع بجمالية الكتابة وروعة التصوير. استنتاجات عامة: 1- على مستوى البنيات الزمنية: تعتمد المجموعة القصصية "وطن الخبز الأسود" على تقنية بالغة التعقيد على مستوى الزمن إذ تتسم بالتداعي واسترجاع ذكريات الماضي مما أضفى على القصة طابعا من التداخل والتمازج والتشابك بين الماضي والحاض استنتاجات عامة: 1- على مستوى البنيات الزمنية: تعتمد المجموعة القصصية "وطن الخبز الأسود" على تقنية بالغة التعقيد على مستوى الزمن إذ تتسم بالتداعي واسترجاع ذكريات الماضي مما أضفى على القصة طابعا من التداخل والتمازج والتشابك بين الماضي والحاضر. 2- على مستوى البنيات المكانية: أعطى المكون السير - ذاتي بعدا وظيفيا للمكان في "وطن الخبز الأسود"، إذ انه أعطى بعدا دلاليا يمكن من خلاله الإطلالة على بعض مظاهر العيش وأنواع العلائق داخل المجتمع المغربي، كما أن بعض الأمكنة ساهمت في إضفاء طابع الحركية والدينامية في أحداث هذه القصة. 3- على مستوى السرد: تمتاز اللغة السردية في "وطن الخبز الأسود" بعدة مميزات، فعلى مستوى الضمائر فهي متنوعة ومختلفة، متداخلة ومتشابكة، مما يجعل بنية السرد تنزلق بينها مما يضفي على السرد في القصة مجموعة من الإيقاعات المتنوعة، أما على مستوى الأفعال فهي متوزعة بين الماضي والحاضر بطريقة تمكن من لمس وتتبع تغيرات الزمن القصصي. وعلى مستوى الوصف فهو يتسم بالتلاحق وسرعة الإيقاع مما يجعله يتداخل أحيانا مع السرد. ومن ناحية الأسلوب فهو مصبوغ بصبغة حكائية وسير ذاتية. خاتمة نستشف مما سبق، أن مجموعة "وطن الخبز الأسود" لمحمد مباركي قد تمثلت جل مقومات القصة القصيرة تحبيكا وحجما، كما استجمعت كل مكونات الفعل السردي وخصائص التشويق والإدهاش الفني والجمالي. ومن هنا، تحمل هذه الكبسولات القصصية الواردة في أضمومة "وطن الخبز الأسود" للكاتب المغربي محمد مباركي في طياتها رؤية ذهنية فلسفية إنسانية ذات طرح وجودي تراجيدي. زد على ذلك أن القصة القصيرة على ضوء هذه المجموعة المتميزة والرائعة في قصصيتها ومقاصدها الرمزية والمرجعية تتسم بمجموعة من الخاصيات التي تفردها عن باقي الأجناس الأدبية الأخرى كالخاصيات الدلالية التي تتمثل في الفانطاستيك، والسخرية، والإدهاش، والخاصيات الجمالية التي تتحقق وتتجسد فنيا في التراكب الجملى، والإيقاع السريع، والتجريد الرمزي والغموض الموحي، وتشغيل الحجم القصير المحدود، وتوظيف النزعة القصصية المعبرة، والميل إلى الوصف المقتضب، وإثارة المتلقي. وأخيرا أرجو أن أكون قد أدركت الغاية من البحث. كما آمل أن تكون محاولة تحفز القراء على دراستها والإطلاع على جوانبها الخفية فلا شك لا الحظ ولا الوقت أسعفاني في الإطلاع والدراسة الكافية لها، لذلك تبقى هذه المجموعة القصصية مفتوحة تحتاج إلى أكثر من وجهة نظر لقراءتها. الطالب: حسام بالي لائحة المصادر والمراجع: * أحمد المديني:"فن القصة القصيرة بالمغرب في النشأة والتطور والاتجاهات"، دار العودة، بيروت. * حميد حميداني:"بنية النص السردي"، الطبعة الأولى، 1991، المركز الثقافي العربي. * عبد الرحيم مودن:"معجم مصطلحات القصة المغربية"، الطبعة الأولى، 1993. * محمد مباركي:"وطن الخبز الأسود"، الطبعة الأولى، 2010، مطبعة الجسور. * مصطفى علي عمر:"القصة وتطورها في الأدب العربي"، الطبعة الأولى، طبع بمطابع جريدة السفير شارع الصحافة الإسكندرية. * نجيب العوفي:"مقاربة الواقع في القصة القصيرة المغربية"، الطبعة الأولى، 1987، المركز الثقافي العربي. الفهرس مقدمة: 1 الفصل الأول: مباحث في القصة القصيرة 3 المبحث الأول: تعريف القصة القصيرة 4 المبحث الثاني: تمايزات القصة القصيرة عن الرواية والأقصوصة 6 المبحث الثالث: موقع هذه المجموعة القصصية في الفن القصصي 10 الفصل الثاني: دراسة فنية للمجموعة القصصية"وطن الخبز الأسود" 12 تمهيد 13 المبحث الأول: الفضاء المكاني والزماني 14 المبحث الثاني: شخصيات المجموعة القصصية 21 المبحث الثالث: الذاكرة الشعبية في قصص محمد مباركي 23 المبحث الرابع: البناء اللغوي 25 المبحث الخامس: البناء الفني 27 استنتاجات عامة: 29 خاتمة 30 لائحة المصادر والمراجع: 31 الفهرس 32