بالرغم من إحباطات الكاتب وتدمره من مجتمع يكاد لا يقرأ... بالرغم من «انتفاضة» مخلوقاته الورقية وإحساسها العميق بالخيبة والمهانة... بالرغم من ذلك، يواصل، الروائي والقصاص والشاعر أحمد طليمات رحلة التحدي معلنا إدمانه الإبداعي وذلك من خلال إصدار مخلوق جديد يتمثل في مجموعته القصصية الثانية: مخلوقات منذورة للمهانة(1) . فضاءات، مخلوقات، أنثيات وإحباطات الكاتب.. هي مجالات الحكي، وأعمدة السرد التي تتحرك فيها جدلية الواقع والتخيل في صناعة هذا العمل الإبداعي المتميز. ويمكن القول بأن تعدد هذه المجالات لا يعني انفصالها، بل هي تشكل وحدة متكاملة، ونسقا مترابطا في عناصره ومكوناته... بل أكثر من ذلك يمكن الجزم بأن القارئ لأعمال طليمات الروائية والقصصية يستشعر خيوطا رابطة، جامعة، تعود إلى ما سبق وتمهد لما هو آت(2). إن شخصية الكوارثى بتخرصاتها، وترخصاتها لازالت حاضرة بكل ثقلها وتأثيراتها: إحباطات جيل... انكسار أحلام، تحطم بؤر حمراء... وهو نفس الحضور للسيد تحفة وهو يفضح بمرارة واقع المسخ: مسخ الرجال، ومسخ العمران! لقد كانت صيحة مدوية ممعنة في التحريض، وكاشفة عن عشق جنوني لمدينة طارت عنها البهجة : «أفلا تنتفضون ضد المسخ الذي حول مدينتكم من حال إلى حال ضد التغول الإسمنتي وغارات الحديد؟ ضد الطمس والإمحاء والردم والاقتلاع؟ أنا حداثي أكثر من أي مدع منكم (...) لكني وأؤكدها ألفا رجعي عتيد عنيد عندما يتعلق الأمر كما لو تعلق الأمر بإحدى مهوناتكم تماما بالمس بالمدينة مدينتي. «(...(3 الأحمر السابق في الزمن السبعيني يتحول إلى أخضر عنيد في فضح مآل مدينته المعشوقة حيث الغبار، والعقار والحديد، والإسمنت.. والغم والهم... اختناق حتى الموت... وبهذلة لا تنفع معها جذبات الجنون الساخنة ولا تحليلات العقل الباردة! الوقت كل الوقت للعقار، وأرباح العقار، هيستيريا العقار.. وصرع العقار... (...). اقجاقلنا قجاقل عامرين قجاقل البر قجاقل الما قجاقل السما قجاقل الديور قجاقل السفلي كيف الفوقي كله قجاقل... (...) ما أنا وإلا بهجوي مفجوع اعلى البهجة من ربوعنا رحالة اعلى النخلة اتمسخ حديد أعلى خضورة تصدق مدبالة..(4) هذا العاشق الأخضر للجنائن، والروض، والعرصات والأشجار، من هول ما أصاب مدينة من مسخ وتشويه، صار يترحم على المستعمر الفرنسي الذي شجر شوارع ومماشي الحمراء بأشجار النارناج والجكراندا، والفيكوس...! ولم يكن هذا البهجوي العنيد و»الرجعي في عشق مصونته مفجوعا فقط من غبار وإسمنت، وعقار وقجاقل مدينته... فذاكرته تسترجع نفس المكان وتعود به إلى زمن ليس ببعيد، زمن أواسط الثمانينات حين انتفض «أوباش» الحمراء ضدا على الجوع والفقر. والتهميش، والتمييز.. فكان لهم عظيم الجزاء من مغرب الرصاص والدم والاختطاف والتنكيل في التعذيب والمهانة... وكانت ليلة سوداء: «ليلة ذلك الخميس البعيد في الزمان والبعيد عن الأمان، وفي أكثر من بيت للأوباش وحي للأوباش، في مدينة من مدن الأوباش، لن يسمع النواح، نواح التكالي والأيامى، فقد ارتد إلى الدواخل والأعماق مهاجها مضاما، وملوما مكلوما...»(5). إن هذا الشعور بالإحباط من السياسة، في العمران، في العلاقات مع الآخر، مع القراء سيقود إلى إحساس عارم «بالفكتمة» في أكثر من مستوى وموقع، ومجال... «يفكتمك الشرطي، والدركي وعموم المخزن، وعموم الإدارة، والمحسوب على الأعيان، وصاحب البقالة، ومن تبرجز من خلقه أو تبلتر، أو تشمكر.. يفكتمك مفتشو السلام زائدا.. والابتسام زائدا... والمسيدون، والمبندقون، والبواسون، والشكارون...»(6). غير أن سيكولوجية الإحباط والفكتمة لن تفضي بالسارد إلى موقف يائس انهزامي وعدمي.. بل عكس ذلك تماما، حيث سيفجر لديه قوة نقدية عارمة، وأشكالا من السخرية اللاذعة، وضروبا من تكسير مجموعة من الحواجز والمرمات سواء في الدين أو السياسة أو الجنس... وهنا نتفهم طبيعة الإحباط الذي عاشه الكاتب وهو يعاين بألم وأسى مصير إبداعاته التي تعرضت للبوار في مجتمع يخاصم طقس القراءة، وتتراجع فيه بشكل مخيف أهمية الكتاب... كان هذا الواقع المقلق مصدرا لتخيل ممتع.. تظهر فيه مخلوقات السارد الورقية منتفضة، محتجة، صارخة، ومنددة بوضع الذل والمهانة. ومن هنا جاء السؤال المشروع: «كيف لي أن أشرع، ومنذ الآن في التغلب على هذا الإدمان؟...»(7) وكانت الإجابة واضحة وعملية: الاستمرار في الإبداع.. فالسارد يفصح بنفسه عن شعر قادم... عن رواية في الطريق.. وبالتالي يستمر الإدمان الجميل بالرغم من العوائق الموضوعية.. ويكون الرد قويا: «أنا أكتب، إذن فأنا موجود...» ولعل ملاحظة مثيرة تفرض نفسها في هذا الإطار: غضبة السارد ومخلوقاته على الوضعية المأزومة لفعل القراءة، يقابلها ويوازيها تعامل خاص للكاتب مع مشروع القراء فهو يشركهم، يفشي أسرار مساره الإبداعي إليهم... هكذا نجده في مقدمة روايته الأولى «المختصر من مقامات الإنفاق» يفشي لهذا القارئ المفترض سر وجود نص محاصر يصيح ويزعق بحقه في الوجود... وبالفعل وبعد ظهور هذا النص المتمثل في روايته الثانية «المختصر من تخرصات الكوارثي وترخصاته...» يفاجأ هذا القارئ بمقدمة بيضاء تنشد الامتلاء... مقدمة تطمع في قراءة أكثر فاعلية، تتجاوز الاستهلاك، إلى المشاركة في الإنتاج... ولم يتردد الكاتب وهو يطرح سؤاله: «لما لا ينقح الكاتب روايته؟» في إخبار هذا القارئ عن موعد منتظر، من خلال سرد جديد عن شخصية الكوارثي... هي مفارقة إذن.. مفارقة بين قارئ مفترض لا يقرأ شيئا..! والملفت للنظر أيضا في قراءة هذه المجموعة القصصية، ذلك الحضور المهيمن لذات السارد، ذات طاغية، تموقع مخلوقاتها الورقية، توجهها، تصنفها، تستهزئ بها... تجنح بها في عوالم التخيل... وتعيدها إلى أرض الواقع... السارد هو الفاعل والمحرك الأول، الذي يحرك كل شيء في النص... أما تعددية المخلوقات فهي تعددية شكلية... لقد نجح أحمد طليمات بشكل باهر في توحيد جدل الواقعي والمتخيل، منفلتا من أسر الواقعية الجوفاء، وقبضة التخيل الأعمى... فالتاريخ والسياسة والتجربة الشخصية الثرية، كلها عوامل ساعدت على تفعيل وإغناء هذا الحوار الغني بين لغة الواقع، ولغة الفن. ولقد انفتح الكاتب في سبيل الوصول إلى ذلك على أشكال وألوان متعددة من التعبير الأدبي كالزجل، والشعر، والقصة القصيرة جدا... ولقد كان للحضور الأنثوي في هذه المجموعة (الكاتب وأنثياته) فلسفته ودلالاته، سواء من حيث الاستثمار الثقافي والفني، أو من حيث الانسجام والتكامل مع أعمال الكاتب السابقة... فهو مصر عنيد في تكسير «المحرمات»... وبالتالي يصبح الجسد الأنثوي معبرا لتفريغ حمولة فكرية تفضح تهافت وخواء شعارات الحياء والحشمة والنقاوة! وتكاد اللغة أن تشكل عالما مستقلا بذاته داخل هذا العمل الإبداعي: لغة سحرية بكل المقاييس، قوتها من أرضيتها الفكرية الساذجة وجاذبيتها من فعل ذات كاتب فنان بامتياز.. كاتب يحسن ويدقق اختيار الكلمات، يحركها، يلعب بها تماما كلاعب كرة ماهر يراوغ، ويمرر، ويقذف، ويسجل بروعة أهدافا من الحكي الجميل، والسرد الممتع.. ومن هنا تكون اللغة عند طليمات «شعوذة» جميلة كما وصفها الناقد عبد الجليل الأزدي: «إن القصد بالشعوذة أن السيد أحمد طليمات الأنيق في وجوده والمتألق في كتابته يحول اللغة إلى أرض مبتهجة متهللة باللعب اللفظي والابتكار المعجمي والتعبيري، أو إلى مختبر مشرع الأبواب أمام الشعر والأحلام الفلسفية النبيلة والأشواق المجتمعية السياسية الأكثر نبلا». إن المجموعة القصصية «مخلوقات منذورة للمهانة» هي في النهاية ترسيخ لرؤية إبداعية متأصلة ومتميزة لكاتب يستمر في التعبير عن ذاته بمزيد من التألق وبقوة مثيرة في الإدمان على الكتابة، مهما كان وضع القراء... ومهما كانت أزمة الكتاب!. ********* 1- أحمد طليمات: مخلوقات منذورة للمهانة، منشورات منتدى ابن تاشفين: المجتمع والمجال ، الطبعة الأولى 2010. 2 - يخبر الكاتب قراءه عن سرد قادم حول شخصية الكوارثى... 3 - السيد لينين، السيد فرويد والسيد تحفة ص 40. 7/6/5/4 - مخلوقات منذورة للمهانة . 8 - د. عبد الجليل الأزدي: كتابة الهوام وهذيان الرغبة فوق الجسد المجتمعي ، تقديم المجموعة، ص 10.