إنه ما يزال يرسُم الخطوات، ويتساءل كيف يعبر إلى خيْط الألوان التي بدأت تتشابك في العين الكاملة. إنه ما يزال يطرح الأسئلة المتعلقة بماهية التفاؤل، ومفهوم التشاؤم... هل هو متشائل أصلا؟ هناك ما يدعو إلى الرّغبة الجامحة في الطموح، والرّغبة والإرادة، وهناك ما يستدعي الشعور بخيبة الأمل، والتعاسة وانعدام الأمل في هذه الحياة المدموغة بالآلام والمشفوعة بالمأساة. ما يزال صاحبنا يعيش بين هذه الإشكالات المتناقضة والمفارقات العجيبة، وذلك منذ أن اقتحم عالم مسرح الهواة في أواسط السبعينيات. إنه أحمد جواد، الرجل الذي لا بدّ منه، الرجل الخدوم الذي سئل ذات يوم: أيّها الفتى، ماذا تحب من مائدة الألوان، أمْ ماذا تعشق من كتب السهر؟ حُلْم في متريْن أمْ ورْدة خلف الأشواك؟ فأجاب: أنا متمرّد، أنا مسكون بالمبادئ. ألا تغير أفكارك؟ نعم، لكنْ في اتجاه الأمام، في اتجاه المجابهة، ورفض ما هو قائم على أي شيء غير الفن والإبداع، مع كل ما يترتب على ذلك من مجهودات ومخاطر. إنه مسلح بالإيمان والطموح والذاتية والموضوعية والفقر والهزل والجدّ، يمتنع على التحديد، حتى التحديد الطبقي. هناك، ليس بعيدا عن شواطئ الجديدة والأمواج العاتية، رأى أحمد جواد النور، بعد طفولة مفعمة بالانتظار بين المدّ والجزر وبين الجد واللعب، وبين الضحك والتأمل، أدرك أن الجمال إحساس، وأن الفن شعور، وأن الجمال الفنيّ إحساس وشعور، والمجتمع الذي لا يمنح للفنّ قيمته النبيلة لا رجاء فيه ولا أمل. رجل مسكون بالفن ومعاشرة أهل الفن، وأبو الفنون هو الذي يثلج صدره حين تشتد حرارة أحْوال الطقس. الحرمانُ من هذه العوالم والفقر داخل بيئة أكثر تواضُعا جعلته يحمل حقيبته السوداء متوجّها نحْو العاصمة، وأوّل فضاء أطلّ عليه خجولا هو فضاء مسرح محمد الخامس أواسط الثمانينيات. لم يكن مندهشا أمام البناية، فمن المفروض، ومن الضروريّ أن يكون مسرح على هذا الشكل داخل عاصمة أيّ بلد من بلدان المعمور. هنا بدأت قصة حب متبادل... وأجمل لحظات الحب هي لحظة العتاب بعد الخصام. يخاصمه ثم يصالحه ويتصالح معه، وهلمّ صبرا... انتقل ذات عام إلى العاصمة الاقتصادية ليمدّ العون إلى الصفحة الفنية بجريدة «المنتخب». ولم يدم ذلك سوى عامين بالتمام والكمال ليعود إلى معشوقته الأولى، بناية المسرح بالرباط. وما الحب إلا للحبيب الأوّل. يوم مشهود ذلك اليوم من شهر مارس أواسط التسعينيات، اعتصام وإضراب عن الطعام من أجل هدف واحد ومبتغى واحد: الابتعاد عن هدم المسرح البلدي بمدينة الجديدة الغالية. أيّ بلد هذا الذي يغتال الطيور وهي طائرة؟ وعرف صديقنا أيضا الاعتقال والمتابعة بتهمة «الإخلال بالنظام العام وتعكير صفو الطمأنينة وعرض منثور على أنظار العموم من شأنه تحريض مواطنين على ارتكاب الجريمة»... عاش الرجل العذاب الأليم في النفس والمعنى، وبكى في الداخل والخارج. بكى وما اشتكى وتناسى وما نسي: طوى الصفحة من الكتاب ورسّخها في الذاكرة... أحمد جواد هو نفسه ذاكر ومذكرة وذكرى: فنانون وأدباء يعترفون بخدماته في هذا المجال أو ذاك... خاصة عندما عاد في أواسط التسعينيات للالتحاق بالمسرح الوطني محمد الخامس كمنشّط ثقافيّ، أوّلا بتجربة فريدة من نوعها بنادي الأسرة، وثانيا ببهْو المسرح لتنظيم حفلات التوقيع وتقديم الكتب. فكرة قوية ونبيلة ما أحوجنا إليها في عالم يعتبر الكتاب من آخر الأولويات: فعلى سبيل المثال والفخر، فقد بيعتْ في إطار هذه الأنشطة ما يزيد عن ألف ونصف نسخة، وهل يحقق المعرض الدولي للكتاب ما حققته لقاءات أحمد جواد في سنة؟ لست أدري. أحمد جواد يكتب الزجل بطريقة فكاهية ساخرة تستحق الانتباه والالتفاتة، أحمد جواد يحفظ عن ظهر قلب أشعار عبد الله زريقة وعلال تبات ورضوان أفندي ويتلوها على الملأ بطريقة مسرحية أخّاذة بالمشاهدة، وخاصة قصيدة «المعطي» الرائعة... فهذا الرجل السليم المسالم، وضعيته في السّلّم هي الحدّ الأدنى للسلّم، خمسة يا عباد الله! فهذا عيب ووصْمة عار على جبين الفنّ والثقافة في أجمل بلد في العالم...