انقسم النحاة، في تفسير هذا الإجراء البلاغي بعد الاعتراف بهإلى طائفتين: طائفة قالت بجواز تناوب حروف الجر، وحلول بعضها محل بعض، لأن لكل حرف أكثر من معنى، كما هو الحال بالنسبة للمشترك اللفظي (كلمات لها أكثر من معنى). وأكثر علماء هذه الطائفة من مدرسة الكوفة، فنسب الموقف إليها، من باب التغليبvii. وطائفة قالت بوجود معنىً أصليٍّ واحدٍ لكل حرف («في» للظرفية، و»على» للاستعلاء، و»مِن» للابتداء، و»إلى» للانتهاء...الخ)، فإن دلَّ الحرفُ على غير هذا المعنى الأصلي فمعنى ذلك أن الفعل الذي عُدي به [الذي تقدمه] قد ضُمِّنَ معنى فعل آخرَ من الحقل الدلالي نفسه، وأُشْرِبَ معناه. ومن هنا جاءت تسمية هذه العملية عند البصريين ب»التضمين»، وكذا استعمالهم لفعل «أُشرِب»: أشرب الفعل معنى فعْل آخرَ. ومن أمثلة تضمين الفعل معنى فعلٍ آخر وجعلِ حرف الجر قرينةً دالة عليه قولُه تعالى: «وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن». فقد ضُمِّن فعلُ «أحسنَ» معنى فعل «لطَف» الذي تقترن به الباء. وقيل أيضا: أُشرِبَ فعلُ «أحسنَ» معنى «لطَف». والغرض البلاغي المتوخى من هذا الإشراب لا يُدركه إلا الحذاق: هو إغناءُ العبارة بمعنيين، استحضارُ الفعلين في فعل واحدviii. فاعتبِروا يا أولي الألباب، ولا تنظروا للقرآن الكريم من ثقب الباب، [قلت: للقرآن، بدل «إلى» القرآن لمزية بلاغية]ix. ورغم تَحَرُّجِ أغلبِ القائلين بالتضمين من الحديث عن «المجاز في الحرف»، لكون الحرف لا يَستقلُّ بمعناه، فإن التحليلات التطبيقية تضمنت الاعتراف به، وأدت إلى ظهور أصوات تُقِرُّهx. ومن أشهر التأويلات المجازية في الحرف القولُ باستعارةِ حرف «في» للدلالة على «على» في القرآن: «لَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ» (طه 71). فالمعروف المنطقي أن يكون الصَّلب على/فوق الجذوع لا في داخلها. وإنما استعيرت «في» لغرض الدلالة على التمكين الذي لا فِكاك له. وعلى هَدي تخريج الزمخشري لمجازية هذه الآية خرَّج محمد الصغير الإفراني قول الشاعر إبراهيم بن سهل: ترَكَتْ ألحاظُه مِنْ رَمَقي أَثرَ النَّمْلِ عَلى صُمِّ الصَّفا وتقديره: تركت أثرا كأثر النمل. استعمل (أو استعار) «على» مكان «في» للدلالة على أنها لم تترك منه شيئا، لأن النمل لا يترك أثرا حالَ مروره على صم الصفاxi. لكل من المذهبين الكوفي والبصري حيثياتُه واحتياطاتُه، فالكوفيون يعترضون بأن التأويل المجازي ليس متاحا دائما، فحين يتمكن حرفٌ في مكان حرف آخر، فيدركُه السامع دون ما حاجة إلى قرائن، يصبح استعماله عرفيا (استعارة ميتة. وقد قيل: اللغة مقبرة الاستعارات). وفي مقابل ذلك يحذر البصريون من مزالق اعتبار «التناوب» قياسيا، أي قابلا للتعميم بدون نظر للمزية التي تكمن وراءه، لأن ذلك سيؤدي إلى الشذوذ والتناقض كما سجل ابن جني. وهي الملاحظة نفسها التي جعلت نحويا كبيرا من المتأخرين (ابن هشام) يتراجع نسبيا عن حماسه لموقف الكوفيين مستعملا لفظ «قد» للتقليل: قد تنوب. قد تنوب الحروف عن بعضها عندما تكون هناك مزية بلاغية كما قال ابن جني. وأنا على مذهب العلماء الذين لا يفتحون الباب على مصراعيه، ولكنهم يُنوِّهونَ بالتغيير/التناوب الذي يؤدي مزية بلاغية، أو على الأقل، إذا لم تظهر المزية، لا يؤدي إلى غموض المعنى أو دلالته على النقيض، فليس من السهل دائما اكتشاف أسرار كلام البلغاء، وعدم الفهم ليس مبررا للتخطيئ. وتحت هذه المظلة البلاغية تندرج الأمثلة الثلاثة التي بددت وقارَ الشيخين فاستنجدا بإبليس ونسبا إليه بلاغة قول رب العالمين. ونحن نتفهم محنتهما، لأن المنحى العقدي والفكري الذي ينتميان إليه خصمٌ عنيدٌ للفهم والتفهم المفتقرين للتأويل منذ القديم، بل منهم من رفضَ المجاز والاستعارة بناء على فهم سقيم لدلالتيهما. فاستعمالنا عبارة «تَرتَّبَ عَنْه»وقد صارت شائعة عند جل الكتاب باعتراف الشيخينقائمٌ على «إشْراب» فعْل «ترتَّب» معنى فعْل «نتَج». فالمستعمِل الحديثُ أكثرُ إحساسا بقوة فعل «نتَج» المرتبطِ بالعلم والاقتصاد، ولكنه ميال أيضا إلى استعمال فعل «رتَّب» ذي النكهة التراثية الفقهية المنطقية، يريد استعمال «خاصية» «ترتب» القادم من التراث، بدل «نتج» الرائج إلى حد الابتذال، فاستعار الحرف المناسب لنتج، وهو «عن» لِ لفعل «ترتب»، فقال: «ترتب عنه». وقد ساعده على ذلك صيغة المطاوعة «تفعَّل»، في حين بقي الفعل «رتَّب» متعديا ب «على»: «رتَّبَ على». وبناء عليه فإن علاقة «ترتب عنه» بِ «نتج عنه» هي نفسُها علاقةُ التراكيب القرآنية التالية: «عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ الله».(الإنسان 71). وتقديره: يرتوي بها. «وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ». (يوسف 100)، تقديره: لطف بي. «الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ». (البقرة 187). تقديره: الإفضاء إلى نسائكم....الخ. أما استعمال «على» محل «عن» في قولي: «الله يَعفو علينا وعليك أسي نهاري، ويعفو على المغفلين الذين يصفقون لجهالاتك في رحاب الجامعة». فقد اعُتمِد أيضا لغرض بلاغي صريح، بل فاقع، غرضٍ بلاغيٍّ معروف، وهو تضمين نص من الدارجة المغربية، وحكاية تعبير المغاربة عن وضعية خاصة. وليس من العلم في شيء تطبيق قواعد اللغة العربية على هذا التنصيص. وقد حذر الجاحظ، في البيان والتبيين، من تفصيح كلام الأعراب والبدو، لأنه سيفقد بالتفصيح قيمته التعبيرية وظلاله التي لا تملكها اللغة الكتابية. ومع ذلك تخيل الشيخان المتيقظان أنهما ضبطاني متلبسا بجُرم استعمال «على» محل «عن» بدون موجب! فنزعا مني كل الصفات والأوسمة التي وُشِّحتُ بها على مَدى أربعين سنة من البحث البلاغي قائلين: «خطأ لا يليق بطويلب علم فضلا عن بلاغي أكاديمي... والصواب هو: «يعفو عن..». غير أنهما لم يلبثا أن وضعا رجليهما، بل أرجلهما في الفخ قائلين: «من هنا يتبين لك أن أستاذنا محمد العمري يستعمل الدارجة وهو يحسب نفسه محررا نحريرا... وبمعنى آخر يستعمل الأسلوب «الزنقوي» من منبر أكاديمي... أو هكذا يتصور». أرادا أن يضربا عصفورين بحجر فضربا قنتي رأسيهماxii: أرادا أن يستدلا على أمرين بجملة واحدة (استعمال الدارجة + الخطأ في استعمال الحروف) فوقعا في التناقض! فهما كمن يقول: «أخطأ العمري في الفصحى داخل العامية»، هذا ذكاء جدير بالتأمل!!: فإما أن تكون الجملةُ «المتَّهَمةُ» من الدارجة فتخضع لقواعد الدارجة، أو تكون من الفصحى فتتبع قواعد الفصحى؟! بناء على هذا الاعتراف نشرح لهما الوجه البلاغي لاستعمال الصيغة الدارجة: المغاربة يقولون للشخص الذي يأتي فعلا مختلا، غيرَ معقول: «الله يعفو علينا وعليك...» ومقابلها في العربية، وإن كان لا يؤدي كل معانيها هو: «ما هكذا تورد الإبل!». المغاربة لا يقصدون ما تدل عليه كلمة «عفا الله عنك..» أي سامحك، وحسب، بل يقصدون شيئا آخر نعلمه نحن البلاغيين، ولا فخر، وهو: «الله يشافيك، أو شافاك الله». وقد شاع استعمال هذا المعنى مع المدخنين، بل فيما بين هؤلاء حيث تسمع أحدَنا يقولُ لأحدهم: «اللهْ يَعفُو عْليكْ مَنْ هادْ لَبْلِيا»!أو أحدهم يقول للآخر: «شي وْقيدة الله يعفو عليك أَ الخاوا»! i موجود في موقع العمري، خانة المستجداتwww.medelomari.net ii ننصح بقراءته قبل قراءة هذا الرد. هذا رابطه http://www.hibapress.com/details-1319.html وهذا رابط آخر: http://www.maghress.com/hibapress/101319 iiihttp://www.ahlalloghah.com/showthread.php?t=2270 iv في مقال بعنوان: «السذاجة... في منع بعض العلماء...». هيسبريس. 08/04/2013. vانظر أهمية المواقع الصوتية في فصل: الفضاء، من كتابنا: تحليل الخطاب البنية الصوتية. viاستشهد الشيخان بقوله تعالى: «ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ». (الأعراف17): ثم نصحاني بالاستفادة من بلاغة إبليس في هذه الآية!! ولا أعتقد أنهما يعتقدان ما نطق به كلامهما، ولكن الرغبة في شيطنة أوْقَعتهُما في هذه الزلة. فالعلماء الذين بحثوا، منذ القديم، عن بلاغة القرآن وإعجازه بحثوا عنهما في القرآن باعتباره من عند الله وليس من نسج إبليس لعنه الله. فكيف ينسب الشيخان بعضَ بلاغة القرآن لإبليس؟! هذه زلة تستوجب التوبه إلى الله. أما أنا فإبليس لا يستحق مني غير اللعنة إلى يوم الدين. viiلا بد من الإشارة عَرَضا إلى أن القول بتعدد المعاني، ثم القول بالتناوب، ينطوي على شبه تناقض: لأن النائب لا بد أن يكون مختلفاً عن مَن ينوب عنه، وإلا صار هو هو. viii تَضمينُ معنيين في نفس الموقع النحوي، والتراوح بينهما، هو الذي نقصده حين نقرن كلمتين بخط مائل (سلاش): «نطلب مساعدة/تكفلا..» أي مساعدة تصل إلى حد التكفل، أو تشبه التكفل. ليس المطلوب مساعدة عابرة ولا تكفلا كاملا. ومن الناس من ليس في ذهنه برنامج تفصيلي، فهو لا يعرف غير أبيض أو أسود، حلال أو حرام، لا يعرف ما يتركَّب من الطرفين، مثل الجواز والإباحة، ولذلك يُكفِّر كلَّ من لا يوجد في الموقع الذي يختاره هو. هذه بنية ذهنية تخترق جميع الحقول والمستويات. ixومن الملاحظ اليوم أن هذا الاستعمال التضميني المجازي (كما سنرى) بدأ يتحول إلى استعمال عرفي في الدارجة المغربية، إذ نسمع من يقول: «الله إجيب اللي يحسن بها»، تقال لبنت طيبة/ساذجة في سن الزواج. وهي لا تعني بتاتا «يحسن إليها»، بل يرافقها ويعاشرها بالحسنى، أي يلطف يها. xوهناك أيضا من يرفضه لانعدام شرط من شروطه عند البلاغيين المدرسيين، وهو عدم وجود قرينة مانعة من إرادة المعنى الأصلي، فلا يكتفون بوجود القرينة وحسب، كما هو الحال في الكناية، بل يشترطون أن تكون مانعة. وهذا تشدد لا نعتد به حين نتحدث عن الاستعارة والمجاز بالمفهوم العام المستعمل في الدراسات الحديثة. xiانظر شرح البيت في المسلك السهل. xiiاستحضِرُ هنا اللقطة العقابية الساخرة لِ شارلي شابلان: حيث يرفع المعتدي عصاه بعنف لكي يُهوي على ضحيته، فتنكسر العصا وتقرع قُنَّةَ رأسه وقفاه وظهره. عقاب إلاهي عادل. وقصة اكتشاف هذه اللقطة قصة عجيبة. فعبارة «عفا الله عنك» التي تريدان فرضَها على العمري لا تؤدي معنى المرض الذي قصدَ التعبير عنه... يمكن أن نُفَصِّحَ العباراتِ الدارجة لأغراض بلاغية؛ منها السخرية، كأن نقول: «إِلْعَبا أمام منزليكما»! وهي تعريب للمثل الدارج: «لَعْبُو فمْ داركُم»!. أي لا تخوضا فيما لا تعلمانه. إن الجملة التي عِبْتُما بلاغتها هي الجملة الوحيدة القادرة على تفريغ كل المرارة التي يحس بها المرء وهو يرى خيرة الشباب المغربي يصفقون للسوقية و»قلة الأدب» والجهل .. هنا تنفجر لغة الشعب، لغة اليومي، «محصورة» بين ظفرين كما يقول التوانسة، وذلك للتنبيه على طبيعتها غير المعيارية. ومثل هذه العبارة قولهم: «الله إجِبْكْ عْلَى خِيرْ ألفقيهْ..». ومعناها لقد تهتَ، وأضعت البوصلة. إن نقد الخطاب مثل ممارسة الطب يحتاج إلى ثقافة واسعة، وإلا وقع المجترئ في مثل هذه الحفرة والحفر الأخرى التي وقعتُمَا فيها. أما قولكما: « وبمعنى آخر يستعمل الأسلوب «الزنقوي» من منبر أكاديمي... أو هكذا يتصور». فيدل على أنكما في حاجة إلى معلومة أولية «صغيرة»، وهي أن «الدارجة» لا تعني «الزنقوية»، الزنقوية عند المغاربة هي: «قلة التربية». يقولون: «ولد الزنقة! ما مربيش!». «الزنقوية» هي التي سماها القدماء «السوقية»، و»الحوشية» . هي لغة البالوعة ومجاري المياه،كما قال ذ. سعيد لكحل، لا فُضَّ فوهُ. أما الدارجة فتحمل الجواهر الحسان، وباقات الورود الزكية، مثل الفصحى، بل أكثر أحيانا. وقد عرفَتْ الدوارجُ فحول الشعراء/الزجالين أصحاب الحكمة وسحر البيان، أمثال ابن قزمان، وعبد الرحمن المجذوب، والطيب العلج، وأحمد لمسيح. اسمعِ الزجال يرفرف فوق أزهار البستان ناظرا بطرف عينه إلى الحسان في برزخ بين اللغتين: «جَنَّانْ، يا جَنَّا! إِجْنِ من البُستانْالياسمينْ واتْركْ الريحانْبحُرمةْ الرحمانْللعاشقين» واسمع المجدوب: تْخَوضاتْ، ولاَ بغاتْ تَصْفاوالْعبْ خزْها على ماها حكامْ عْلى غيرْ مْرتْباهما سبابْ خْلاها وأسألكما بدون حرج أو إحراج: هل تعتبران نفسيكما «زنقويين» لأنكما تتحدثان الدارجة في أي مكان؟ أُنزِّهكما. وأترُك لكُما، الآن، قياسَ عُمق الحُفرة التي وقعتُما فيها، واضعاً رهن إشارتكما المعجم الذي حَلَّيْتُماني به كلَّه، لتختارا منه ما يناسب ما أوقعتما فيه نفسيكما! سيقول أحد الشيخين: «على نفسها جنَتْ براقشُ»! فمن براقش في هذه المناسبة؟ الدارجة قنطرة يقيمها الخطاب البلاغي العالمُ (التخييلي والحجاجي) بين الفصحى والحياة، ولكنها قنطرةٌ مثل الصراط في تصور المؤمن، مثل البرزخ، لايعبرها بنجاح غيرُ أصحاب الحسنات الكثيرة. هي أداة فعالة ، مثلا، في السخرية من كل أنواع التصلب العقلي والعاطفي، وهذا ما ينشده العمري من استعمالها، والتوفيق من الله. عن وعلى: بقي مثال ثالث، هو استعمال «على» محل «عن» في قولي: «على يمينه وعلى شماله». وهذا من الشائع اليوم في ملتقى الدارجة والفصحى، وقد شاع لأنه لا يؤدي إلى غموض، ولا يُعبِّرُ عن غير المقصود، ولذلك فهو يدخل فيما قبلته المدرستان: البصرة والكوفة. وسيفرض نفسه في الفصحى شاء من شاء وكره من كره، لأن طبيعة الأمكنة الحديثةحيث الكراسي والمنصات والمركبات...الختُعطي الانطباع بالعُلُوِ، بخلاف ما توحي به «عن» من معاني الانزياح والاستغناء: انزاح عن، استغنى عن، ابتعد عن، رغِب عن...الخ. وهذا شبيه بميل الناس إلى استعمال «على» بدل «في» بعد فعل «أثَّر». فقد كان هذا الاستعمالُ يُعدُّ انزياحا عن الأصل، أي مجازا، على نحوِ مَا بَيَّن الإفراني في تحليل بيت ابن سهل السالف الذكر. وذلك بناء على مقتضيات البيئة الأولى للغة العربية حيث يظهر الأثر حفرا في الرمل، وحين يَمَّحِي ذلك الأثر، بفعل الرياح، يُشبَّه بالوشم. وهذه الرؤية إلى الكون والأشياء (التحيز المكاني) لم تعد مهيمنة اليوم، لأن الأثر لم يعد يعني ما كان يعنيه في تلك البيئة. الأثر اليوم موجود بالكتابة والرسم على الواجهات الزجاجية والشاشات والأوراق، وفوق الإسفلت، وليس «في» هذه السطوح: على السطوح وليس في السطوح. ولذلك لن يُقاوم حرفُ «في» المفيدُ للظرفية طويلا، مهما دافعنا عنه، إلا في المجال الوجداني حيث مازال مفهوم العمق والأعماق حاضرا: يميل الناس اليوم إلى التمييز بين نوعين من الأثر: الأثر الوجداني، حيث تسمعهم يقولون: أثر فيه مرض ابنه...الخ، والأثر الفكري (والسياسي والديني)، حيث يقولون: أثر عليه فلان، أو أثرت عليه مرافقة فلان. والله أعلم. فهناك إذن فرق بين «أثر فيه» و»أثر عليه». وبذلك تغتني اللغة وتصبح أكثر دقة. نحن نفرق اليوم بين «قيَّم» و»قوَّم»، وبين «أحال على» و»أحال إلى»...الخ. اللغة تسير... الدرس الثالث التكرار قال الشيخان عن التكرار في مقال العمري: «استعماله للنفي المكرر مجانبة (كذا) للصواب ومن غير أن تخدش ركاكة الجملة صفيحة بلاغته (كذا). فقوله: «لا علاقة لها لا بالعنصر البشري ولا بالمحتوى العقدي» فيه زيادة مشينة ل [لا] الثانية. لأن نفي العلاقة بالعنصر البشري في الجملة قد حصل ب [لا] الأولى، فليس في إعادة النفي ثانية إلا التشويه بسلامة (كذا) الخطاب وسلاسته. وهكذا قال في موضع آخر [... وترجمته لمن لا يعرف الدارجة المغربية: «ما عندي لا مؤلفات ولا أي شيء!» بئست الترجمة ياأستاذ العمري (كذا![من هو أستاذ؟!]). الصواب إذن هو [لا علاقة لها بالعنصر البشري ولا بالمحتوى العقدي] وكذلك [ما عندي مؤلفات ولا أي شيء!] فالمؤلفات تم نفيها وجودها (كذا) بالأداة الأولى [ما] فلا داعي لنفي آخر. فإن حصل فهي الركاكة بعينها». هنا رَفسَ الشيخان متحفَ الخزف، وقلّبَا الحريرَ بكفين خشنين! العمل الذي قمتما به، أيها الشيخان، سامحكما الله، هو العمل الذي نقوم به مُعلمينَ لتدريب التلاميذ على اللغة المعيارية، لكي يدركوا مستقبلا قيمة الانزياحات التي يلجأ إليها البلغاء. هذا «التنقيح» صالح للتعبير العلمي المعياري في العلوم الصلبة، ولذلك فتطبيقه على خطاب حجاجي (مشوب بالتخييل) مثل مقال العمري خطيئة بلاغية، وتطفُّل على مهنة. وإليكما البيان في «سبيل الله! بلا دينار ولا درهم»: التكرار نوعان: تكرار معيب، وتكرار بليغ. التكرار المعيب هو الذي تتردد فيه كلمة، أو جملة، في فضاء يسمح بملاحظتها دون زيادة في المعنى، مثل قول الشيخ الفزازي1: «فلا نستفتي المفتي مثلا في عدد ركعات صلاة المغرب مثلا ..». فتكرار «مثلا» هنا حشو في اللغة الكتابية. ومن التكرار المعيب أيضا قولُ الشيخ ياسيني في رده على أحمد عصيد: « الداعي للعلمانية أين رحل وارتحل...!!». فَالجمعُ بين «رحَل» و»ارتحَل» حشوٌ، والتعبير السليمُ الذي يتوخَّى الاستقصاءَ والمقابلةَ هو: «حيثما حَلَّ وارتحلَ». والتكرار المعيب (الحشو) كثير في كلام الشيخين، وليسا في حاجة إلى شد الرحال بحثا عنه عندَ غيرهما. أما التكرار البليغ فهو الذي يأتي لمَغازٍ دلالية يتوخاها المبدعون: من هذه المغازي ما هو قريب يدركهُ الجميع، ومنها ما هو بعيدٌ لا يدركه إلا الحذاق. ولذلك قد تجد بعض اللغويين أو أنصاف النقاد يستعملون القلم الأحمر في كلام البلغاء: كلما وجدوا كلمتين بنفس الأصوات شطبوا الثانية منهما، كما يُفعل بإنشاء الأطفال. ومن لم يدرك الفرق بين التكرار البليغ والتكرار الحشوي المعيب فالأكيد أنه لم يدرك بلاغة القرآن الكريم في قوله تعالى: «قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ، لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ، وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ، وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ ، وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ، لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ» . إن بلاغة هذه السورة كامنة في التكرار نفسه، كامنة في إعلان القطيعة مع الكفار، قطيعة لا رجعة فيها، ولا استئناف لها. وكيف سيَتعاملُ من سلك طريقَ التبسيطِ غيرِ العالم مع سورة القارعة، حيث اعتُمد «الإظهارُ» (التكرار) في أولها، و»الإضمارُ» في آخرها؟ الإظهار في قوله تعالى: «القَارِعَةُ! مَا الْقَارِعَةُ؟وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ؟!..»، والإضمار في قوله بعدها: «... فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ؟!»، ولم يقل: «وما أدراك ما الهاوية». فبصدد هذه السورة لا يمكن القول بأن البلاغة كامنة في الإظار والتكرار وحده، ولا في الإخفاء والإضمار وحده. البلاغة موجودة في التفاعل بين البنيتين في فضاء مدرك، فضاء سورة من القصار. تفاعل أساسة المؤالفة والمخالفة بين المكونين في إطار المحيط الضيق لكل منهما. وقد بسطنا مبدأ المؤالفة والمخالفة، والمنسق والمخلخل، في فصل التفاعل من كتابنا: تحليل الخطاب الشعري، البنية الصوتية. ومن تحدث في بلاغة كتاب الله بمنطق: «اِحْذِفْه فقد سبق ذكره»، زلَّت به إلى الحضيض قدمه. من الأكيد أن الطريقة التي اتبعها الشيخان في تمزيق كلام العمري شبيهةٌ بالطريقة التي تحدث عنها نهاري حين قال: «فصلناه كَمَا يْفَصَّلْ ال?زارْ لَخْروفْ». كان نهاري يفصل الإنسان، فلم يجد في مجال خياله ومعرفته وذوقه غير الخروف فقاسه عليه! وعليه فإن تكرار النفي في قولي: «لا علاقة لها لا بالعنصر البشري ولا بالمحتوى العقدي»، تكرارٌ بلاغيٌّ مفيدٌ. هناك ثلاثة مستويات متدرجة في التأكيد والإحاطة المقنعة بالنسبة لهذه الجملة: المستوى الأول: «لا علاقة لها بالعنصر البشري والمحتوى العقدي»، والمستوى الثاني: «لا علاقة لها بالعنصر البشري ولا بالمحتوى العقدي»، والمستوى الثالث: «لا علاقة لها لا بالعنصر البشري، ولا بالمحتوى العقدي». ويمكن زيادة تأكيد النفي في المستوى الثالث بعبارة: «لا من قريب ولا من بعيد...». ويكون هذا في المواقع الحجاجية التي يراد فيها شد انتباه المستمع أو المتلقي إلى القضية أطولَ مدى ممكن، وسد أبواب التأويل أو التهوين من الأمر. وذلك حين يكون المتلقي في موقع الإنكار، أو يوضع فيه لغرض بلاغي. ولا شك أن من له معرفة أولية بالبلاغة العربية قد أدرك أنني أحيل في هذا الترتيب التصاعدي على الدرجات الثلاثة التي وضعت فيه البلاغة العربية المخاطبين: يتبع