تمثل تجربة الفنان التشكيلي المغربي المعاصر كريم تابت أنموذجا معبرا عما يمكن لفنان هذا العصر أن يُنجزه بالاعتماد فقطُّ على إمكاناته الذاتية، ورؤيته الفنية الخاصة به، بعيدا عن فوضى المرئي، وزخم البصري. وبعيدا أيضا عن المفاهيم الفنية المستغلقة التي أصبحت تؤطر الفن وتهدد مساره أحيانا. فالفنان كريم تابت نجده في لوحاته التشكيلية يكرس قوة فنية جديدة في مساره الفني، إنها تجربة تستمد جاذبيتها وصلابتها من مداخل تشكيلية مهمة، فهي مؤسسة على وعي عنيد في تجزيء اللحظات، وتوليف احتمالات مختلفة، تتداخل وتتصادم عبر أقنعة ضاربة في التنكر، وكأن اللوحة لديه ساترة للعورة، تستبطن أسرارا، لذلك فهي تستدعي التقاطها منذ ولادتها ومعيشتها في امتدادها اللوني والشكلي. تعمد تجربة كريم تابت إلى توظيف الألوان والأشكال في وضع احتشادي رهيب، يقوم على التجاور والتداخل إلى حد التضام، وهو بذلك يعمق وعينا بالحس الطفولي، وعوالمه المزهرة من خلال مجاورات أيقونية تحد من تداعيات الحلم واللعب، وتعمق أشياء مسكوت عنها ومؤشر عليها لونيا فقط. خالقا في الآن ذاته حوارا عميقا بين مفاهيم من قبل الحنين والغربة، وهي غربة مؤانسة بين جنسين، أو بين ندين. بهذا التأطير، يقدم كريم تابت منجزه التشكيلي تقديما يلقي به الضوء على غربة مريرة، وحنينا حارقا، ساهما بإخراج الفكرة إلى حيز الوجود. وكله رغبة في استفزاز الرائي ولفت نظره إلى هذا التفكير العميق والتعدد في الطفولة. وكله تقة في أناه، بعيدا عن رؤية الاحتضان الفني. تأتي هذه التجربة في سياق تقطيعي، فالعملية التشكيلية لدى كريم تابت لا تكتمل في لوحة واحدة، وإنما في تخلقه اللوحات كلها من لوحة مربكة، تتيح للرائي إعادة بنائها ليس وفق منطق الإحلال والإزاحة، وإنما على طريقة لعبة البازل الطفولية التي تفرض على الطفل بناء حكاية مقدمة إليه سلفا بطريقة مربكة. إن العالم الطفولي الذي تحاكيه لوحات الفنان كريم تابت يعتبر مختبرا لمفاهيم مرتبطة بالحلم واللعب والحنين والبكاء وأيضا بخرق الثابت وخلق الغريب ومؤانسة العجيب. عالم يرتجل المشاعر ويُغازلها عبر إخفاء ملامح الوجوه، وتثبيت الرؤية السوداوية المتألقة من توحد المصير وتشكيل مأساة الإقامة في عالم مجهول. فكما حمل سجل الشعر العربي صورا عديدة لرثاء الأجساد والأرواح، فقد التقط كريم تابت هذا الرثاء بكثير من الابتهاج اللاجدوى منه، فجسد عبر وجوه ومواقف صورا تفيض ألقا تناشد المداعبة بالمناجاة، وتؤسس للغضب الطفولي باستطرادات واحتشادات لونية تهتز لها المشاعر، وتوسع آفاق الرؤية المأساوية للطفولة. فالبناء الفني للوحات يقوم بتطوير مفهوم الألم الطفولي، وذلك عبر انعكاس المشاعر على المعطى اللوني الخلفي والداخل في خلق الأجسام وخاصة الوجه، ثم حجب هذا الواقع وإفساده بمكون الورود بشكل اعتباطي، وأخيرا حذف الصلة الممكنة بأي واقع على الإطلاق. وكأن اللوحات هي تخييل لذاتها لا غير. فثمة جزء مهم من اللوحات يُطلق العنان للصرخات الصامتة المعبر عنها بالسواد ورمادية الحيز الخلفي. وبهذين السنادين تتفجر ظلمة الوجود وتنفجر الالوان وتتدفق تدفقا مكلسا مبلولا بالرماد. لم يعد إذن بإمكان الفنان كريم تابت أن يزعم أنه يعبر عن شيء، أو أي شيء، لأنه لم يعد يستطيع أن يزعم أنه يمتلك شيئا، ويحوز عالما، فمثلما كان وارهول يقول:» عندما أنظر إلى مرآة لا أرى شيئا ويسميني الناس مرآة، فماذا ترى هذه المرآة؟» هكذا، لم يعد بإمكان كريم تابت أن يسمي عالما لأنه مربك ومتشعب، ولأنه أقام فيه إلى درجة التماهي، وأصبح تفكيره البصري مشدود إلى عالم لا يعرف سره ولا مكنونه إلا هو، لأنه شكله بعمق وانبهار، وقوضه باحتمالية توليد المواقف المؤلمة بالتكاثر والالتباس والقلق.