تمة معطى علمي مغربي، يستحق التنويه والتوقف عنده، هو تحقق ملامح جدية ل «مدرسة مغربية في التاريخ»، أنضجت مباحث وأسماء تعتبر اليوم مرجعا ليس في المشهد الجامعي المغربي فحسب، بل في كل البحر الأبيض المتوسط، وفي العالم العربي. بل، يمكن للمرء الذهاب بعيدا، والجزم أنها المدرسة الوحيدة من نوعها في كل العالم العربي (عدا التجربة الجزائرية التي بدأت تعلن عن نفسها منذ عشر سنوات)، من حيث اعتمادها منهجا علميا، تمحيصيا، يتأسس على تجربة مدرسة الحوليات الشهيرة. ولعل التراكم المنهجي العلمي المتحقق مغربيا في مجال البحث التاريخي، هو الذي سمح لنا اليوم، أن نربح كتابا تأسيسا في التأريخ لقصتنا المغربية كما حدتث في الزمن منذ العصر الجيولوجي الأول، إلى سنة 1999، هو كتاب «تاريخ المغرب، تحيين وتركيب» الصادر عن المعهد الملكي للبحث في التاريخ، وتحت إشراف فقيه عالم في مجال التاريخ، من قيمة ومستوى الدكتور محمد القبلي. وهو كتاب منتصر للعلم وليس للحساب السياسي، في تأليف قصتنا المغربية في التاريخ كما وقعت بأكبر قدر من الدقة العلمية الواجبة. ضمن هذا المنجز العلمي المغربي في مجال التاريخ، تمة اجتهادات لباحثين ومؤرخين مغاربة تستحق منفردة مباحث وكتابات تنويهية متعددة. أود اليوم أن أتوقف بتقدير عند منجز واحد منها، هو منجز الباحث المغربي خالد بن الصغير. فالرجل، ليس فقط أنه يفاجئنا بنوعية أبحاثه ودقته العلمية وذكائه المعرفي، وصبره الدؤوب علميا، وعدم تسابقه إلى الأضواء، بل إنه امتلك فطنة أخدنا إلى مباحث تاريخية غير مطروقة عادة في الدرس التاريخي المغربي، بفضل تمكنه اللغوي من اللغة الإنجليزية، ذلك المتمثل في ما تضمه أرشيفات البحث التاريخي البريطاني عن المغرب. وهي أرشيفات جد جد غنية، بل مبهرة، إذا ما قورنت بمثيلتها الفرنسية، التي ظلت لعقود تكاد تكون مصدرنا المغربي الوحيد في مجال الأرشيف الخارجي للبحث في تاريخ المغرب، وبدرجة ثانية الأرشيف الإسباني (خاصة أبحاث مؤرخي تطوان والشمال عموما، وفي المقدمة منهم المؤرخ الفقيه بنعزوز حكيم). لقد اشتغل الباحث خالد بن الصغير على جزء كبير من تلك الأرشيفات الإنجليزية في موقع مصاردها بلندن، في رحلات بحث وتنقيب جد مطولة وممتدة على سنوات، ليخرج لنا بمعاني تاريخية أخرى مغايرة لما تعودناه في قراءة تاريخنا المغربي، على الأقل منذ نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر. وهي مرحلة جد حاسمة في التأثير على ما صار إليه المغرب والمغاربة خلال القرن العشرين وما تلا ذلك من تطورات إلى اليوم. أي منذ بداية عهد السلطان مولاي سليمان في أول القرن 19، مباشرة بعد حملة نابليون بونابارت على مصر وفلسطين سنة 1798، ثم ما تلا ذلك من طاعون جارف في السنوات الأولى لعهد ذلك السلطان المغربي. إن تأمل وقراءة كتب خالد بن الصغير، تجعلنا نكتشف رؤية أخرى للواقعة التاريخية المغربية، بسبب من مكانة الثاج البريطاني في التاريخ المغربي الحديث، أقله منذ أواسط القرن 18، حتى سنة 1904، السنة التي فوتت فيها لندن المغرب إلى فرنسا في اتفاقية سرية بين وزيري خارجيتي البلدين، أو ما عرف بتنازل بريطانيا عن المغرب لصالح فرنسا، مقابل رفع فرنسا اليد عن مصر والسودان. وهي الصفقة التي اعتبرت مقدمة لاتفاقية سايكس بيكو التي جاءت سنتين بعد ذلك، الخاصة بكل العالم العربي وتقسيمه بين الدولتين الإستعماريتين الكبريين حينها بأروبا. لقد ظلت بريطانيا، كما تؤكد لنا ذلك بالأدلة التاريخية كتابات خالد بن الصغير، اللاعب رقم واحد في التأثير في العلاقات الدولية للدولة المغربية، وكانت هي الشريك السياسي والإقتصادي والعسكري رقم واحد لبلادنا. بل كانت موانئ مانشستير وليفربول ولندن، هي الموانئ رقم واحد في معاملات المغرب التجارية الدولية. ومن خلال واحد من كتب هذا المؤرخ المغربي (كتاب «بريطانيا وإشكالية الإصلاح بالمغرب: 1886 ? 1904»)، سنكتشف بالدليل الحاسم كيف اعترفت لندن بسيادة المغرب على أقاليمه الصحراوية الجنوبية منذ عهد السلطان الحسن الأول وابنه مولاي عبد العزيز، بعد صراع طويل مع إحدى الشركات البريطانية التجارية التي كان لها طموح التغلغل في الصحراء والوصول إلى تجارة بلاد الساحل وأساسا تمبكتو بالسودان القديمة (مالي الحالية). وأن السلطات المغربية ظلت حاسمة في موقفها تجاه لندن، التي سعت بكل الوسائل لتحييد السلطات المخزنية المغربية والتحالف مع جزء من إحدى العائلات الصحراوية لفرض الأمر الواقع هناك، قبل أن تنيخ لقوة الواقع وتعترف أنه لا سبيل لها سوى بالتنسيق مع سلطان المغرب وجيشه. إن كتابات خالد بن الصغير، ستجعلنا نكتشف أيضا جزء من ذاكرة اليهود المغاربة التجار في علاقتهم ببريطانيا (قصة مايير موقنين الصويري المراكشي دفين مراكش) وكذا قصة العلاقات العسكرية المغربية البريطانية والتنافس البريطاني الألماني الفرنسي والإسباني على المغرب، ودور الولاياتالمتحدةالأمريكية في ذلك التنافس منذ بداية القرن 19. بصيغة مجملة، إن منجز هذا الباحث المغربي ليس فقط أنه يعلي من قيمة «مدرسة التاريخ المغربية»، بل إنه واحد من عناوين تميزها وفخرها العلمي، وهو يستحق بالتالي، التنويه به عاليا.