إذا سألنا بذكاء الماضي، وإذا لاحظنا بإمعان الحاضر، فإنه من البديهي أن نستخلص أن الملكية ضرورة بالنسبة للمغاربة إن هم أرادوا العيش في سلام وفي انسجام مع هويتهم. الماضي بعض المحطات الكبرى تبرز بوضوح أن الملكية كانت ولاتزال في قلب الحراك السياسي في مغرب الاستقلال: 1 الملكية في خدمة السيادة الوطنية: لقد كان لزاماً على المواطنين الأوائل الاستنجاد بالملكية لمواجهة أطروحة الاستعمار، والتي مفادها أن المغرب كان على شاكلة قبائل متنافرة ومتعارضة. وقد قدموا الملكية كعربون على سيادة المغرب ووحدته، والتي هي حاميها وضامنها. إن تقديم الملكية في الواجهة كشهيد على سيادة البلاد ووحدة الوطن يعني أن الحماية أقيمت على دولة ذات سيادة. خلافا كذلك نجد الدول التي ناضلت من أجل تحريرها، تورطت أنظمتها مع الاستعمار. يقدم المغرب نموذج ملكية استطاعت التملص من ضغوطات الاستعمار وتصدرت واجهة حركة التحرير. 2 الملكية ضامن للتعددية الحزبية خلافاً لجل الدول التي ناضلت من أجل الحرية، نجد أن حركة التحرير المغربية لم تؤل إلى حزب وحيد ولم تنبت حزباً مهيمناً رغم أن الحركة الوطنية كانت على شاكلة تكثل على رأسه الملكية. أن هذا التطور المتفرد للنسق السياسي المغربي تحكمت فيه طبيعة الملكية المتنافرة مع الحزب الوحيد، ولأنها تمثل وحدة المغرب على اختلافات دون سلبيات الحزب الوحيد أو المهيمن. 3 الملكية في خدمة الوحدة الوطنية أن علاقات البيعة بقبائل الصحراء للملوك المغاربة وباعتراف محكمة العدل الدولية هي التي أعطت لمطالب المغرب مشروعيتها، وهنا تتجلى بوضوح أصالة البيعة في النسق السياسي المغربي. 4 الملكية حاجز ضد الاسلامية بصفته أمير المؤمنين يكون الملك حامي الإسلام وحارسه وموقع الملك هذا يتضح أكثر من خلال السياسة الدينية للملكية، لأنها تسعى إلى تحقيق الانسجام بين الدينامية السياسية والدينامية الدينية، بين المقدس والمدنس، بين الأصالة والمعاصرة، في الوقت الذي تسعى فيه كذلك الى تحقيق الترابط والتكامل بين القيم المغربية والقيم الأصيلة للهوية المغربية، وبين الاسلام والديانات السماوية الأخرى لتعطي في النهاية صورة لإسلام يطبعه التسامح والحلم. الحاضر حقيقة أن الملكية مدينة لمشروعيتها التاريخية والمتجدرة بعمق في نفوس المغاربة، لأنهم استوعبوا مبكراً وعلى فكرة أنهم لا يمكن أن ينسجموا إلا مع نظام ملكي، لكن قوة الملكية هي كذلك مدينة لملوكها، لأنه والحقيقة تقال إن القدر صخر للمغرب ملوكاً لهم بعد نظر ثاقب. وهكذا نستخلص من إرث محمد الخامس، أنه تقدم كمحور مركزي للحركة الوطنية. وفي ظله تحققت الوحدة الوطنية. نستخلص كذلك من إرث الحسن الثاني أنه عاكس التيارات الإيديولوجية المهيمنة والنماذج السالبة. وقد أنصفه التاريخ، لأن كل تلك الإيديولوجيات والنماذج انهارت في نهاية المطاف. يشهد له التاريخ أيضاً أنه جعل من المغرب شريكاً لا مفر منه في المحافل الدولية. بالفعل، لم يداه معارضيه، وغالباً ما كان يلجأ إلى القمع لكبح تطلعاتهم. لكن الحقيقة تقال كذلك أنهم لم يحابوه، بل واجهوه بكل الأساليب وأذاقوه المرارة. أما عن محمد السادس، يستخلص من حكمه حالياً، أنه وبمساندة كل القوى الحية في البلاد يشق الطريق نحو مغرب حداثي وديمقراطي، ويرسى البلاد على سكة التقدم والنماء ويحاصر الاسلاميين ويقودهم بعصاه، وكل المؤشرات تفيد أنه يغني سياسته بكل ما هو أفضل في إرث أسلافه. ويستخلص مما سبق ذكره: أن التاريخ يلوح بالملاحظة التالية: كلما كان المغرب مهدداً من الداخل أو الخارج إلا ويجد خلاصه في الملكية، لأنها كانت ولاتزال دائماً في صدارة الأحداث، وحيث أن الأمر كذلك، فإن الملكية في المغرب لم تشهد ثورات تطالب بتغيير النظام أو بقطع رؤوس الملوك مثل ما حدث في أوربا، والتي دفعت بملوكها الى سلة المهملات أو جعلت من آخرين رموزاً للدولة فقط. فلو أن قادة الاتحاد الوطني للقوات الشعبية استوعبوا دور الملكية في النسق السياسي عبر التاريخ لاستطاعوا تكريس الثقة بين الملك والنخبة السياسية ولشقوا بمساندتها الطريق نحو دولة ديمقراطية وحداثية. وهذا ما استوعبه قادة الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية وعبروا عنه صراحة أو ضمنياً في المؤتمر الاستثنائي لسنة 1975، وكانت نتيجة ذلك أن حققوا تدريجياً وبمساندة قوى أخرى عدة مكتسبات أهمها: نهاية حالة الاستثناء وإضفاء الشرعية على المطلب الديمقراطي، واللجوء إلى صناديق الاقتراع، وإطلاق سراح المعتقلين... وقد أدت هذه المكتسبات إلى التتويج بحكومة التناوب التوافقي وإصدار دستور تم التوافق عليه، والإجماع وتنظيم انتخابات حرة ونزيهة باعتراف كل الفاعلين السياسيين، وكل هذه المؤشرات تيتح القول إن البلاد تشق طريقها نحو مغرب ديمقراطي وحداثي، وتسمح بالأمل في المستقبل. وإذا قارنا الوضع الحالي للمغرب مع جل الأنظمة العربية والاسلامية، فإنه لن يكون من قبيل المحاباة والمجاملة للملكية أن يقول المغاربة عاش الملك. * أستاذ جامعي سابق