سنحتاج إلى مزيد من النظر والتحليل، من قبل ذوي الاختصاص في مجاهيل النفس الإنسانية، لفهم وتفسير كيف يمكن ل "ستراوس كان" وهو الشخصية العمومية المرموقة، ورجل الدولة الذي كان مرشحا بدون منازع لرئاسة الجمهورية، واقتصادي اليسار المدلل الذي حمل قيم الاقتسام إلى مؤسسة صندوق النقد الدولي، أن ينقاد في لحظات عماء محتدم لنداء الغابة البشرية العنيد الذي يسكن الدواخل، وكأنه قد خرج لتوه من عوالم العلاقات الخطرة كما تنسجها محكيات "دوستويفسكي" و"الماركيز دو ساد" و"جورج باطاي"... وبعيدا عن أية مقاربة طهرانية لسقطات الطوية الأمارة، أو تناول يستقرئ خطورة توظيف "سلاح الفضيحة" في الصراع على السلطة وفي نسف الخصوم السياسيين، يبدو أن ما اجتهد الإعلام الدولي والفرنسي خاصةً في توصيفه بالنزول إلى "الجحيم" أو "الحضيض" في نازلة "ستراوس كان"، لا يمثل قطعا حالة فريدة أو عطبا شاردا ابتلي به الرجل، بقدر ما يكشف عن شجرة سلالية ضاربة في العمق والقدم، تظهر وتختفي، انتسب إليها الكثيرون قبل "ستراوس كان" ممن تلبست ألميعتهم أو عبقريتهم أو أمجادهم بإرادة ما فوق الخير والشر، وهواجس العبور إلى الإنسان الأعلى المتسامي على موانع المجتمع ومحرماته. ******************** لا أذكر اسم ذلك الفيلسوف، الذي ركبته هو الآخر سطوة المظلم، ففطن إلى أن ما يسري في دمائنا، من إرث العصور، ليس فقط منتخبات من فضائل الأنبياء وحكم القديسين، بل يختلط كذلك بجنونهم وشرور عصورهم. ففي الكتب المقدسة، ثمة إشارات لماحة إلى هذا الجانب المظلم، الذي لم تَدْرَأه حتى عصمة الرسل وحصانة الأولياء أحيانا، تحت تسميات مختلفة من قبيل: "تلبيس إبليس" و"آيات شيطانية" و "غواية الشرير". من يصدق أن الإسكندر الأكبر، مريد أرسطو، الذي غزا العالم شرقا وغربا كان مزدوج الميول الجنسية على عادة أعيان ووجهاء الإغريق، أو أن سجين أغمات، الأمير الشاعر، المعتمد بن عباد يتم تقديمه اليوم أيقونةً للمثلية والمثليين في منطقة الأندلس...وكم اندهشت قبل سنوات، بعد أن قادني البحث العلمي إلى آثار الصوفية الحلولية، من زعم أحد شيوخهم أنه لا بد "للفاضل منهم من أن ينكح المفضول ليولج النور فيه". هو عرق دساس متعال، حينما يستحوذ ويغمر الأفراد والأزمنة، لا يمكنه أن يفرز غير "نيرون" و"كاليجولا" و"الحاكم بأمر الله الفاطمي" و"راسبوتين" و"بيرلوسكوني" و"القدافي" والقائمة ما زالت طويلة. يذهب نيتشه إلى أن الإغريق هم من أولى الحضارات التي تنبهت إلى الهاوية حيث يقيم الشر الحبيس، فحاولوا ترويض "الوحش" الذي يسكننا باستدراجه إلى طقوس العربدة وفوضى الغرائز والجنس المقدس عبر احتفالات "ديونيزوس"، حتى إذا ما بلغ الإشباع والامتلاء وقارب الزوال والتحلل في العتمة، عادوا به مجددا إلى ضوء العقل والنظام والانسجام تبعا لنداء "الأبولونية". ويعتقد نيتشه أن سقراط، في عدائه للجسد والحياة وتمجيده للموت باعتباره خلاصا، لم يكن إغريقيا "خالصا" لأنه لم يستطع الانعتاق من سوداويته النابعة من هجانة أصله وقبح وجهه وخبت شهواته... ******************** يقال إن الإبداع هو الآخر قد خرج متسللا من علبة "باندورا" في شكل وديعة مغرية سرعان ما تستحيل لعنة. ويبدو أن العرب قد حسموا أمرهم منذ البداية، حسب كلام منسوب للأصمعي: " الشعر نكد بابه الشر...". فغالبية الذين ركبتهم لوثة الإبداع ومشقته يقيمون على الدوام فوق الحوافي الجارحة والجارفة نحو الحتف والجنون والإدمان والعدم، ولا يرجئ سقوطهم في مهاويها إلا قصيدة أو لوحة، مسرحية أو رواية. ويعترف "جيرار دونيرفال" أنه قاوم مرارا بفضل الكتابة نزوع الانتحار المستحوذ عليه. كما ينقل بيوغرافيو الأدب أن موت "بروست" ظل مؤجلا إلى أن أنهى مشروعه "البحث عن الزمن الضائع". بل إنه كتب آخر جمل وكلمات مخطوطه بيد ترتج تحت وقع حالة الاحتضار. ولن نكف عن التساؤل، أمام تجربة "جان جونيه"، هل الكتابة هي التي فتحت أمام الرجل أبواب السجن والاعتراف أم ما كان لها أن تحقق له ذلك لولا ماضيه الإجرامي وأسلوب حياته الجذري والفضائحي، واختياره الإقامة على هامش مواضعات المجتمع. ولا شك في أن قراء أبي نواس ما فتئوا يتساءلون هل ثمة فعلا تضايف بين ألمعية الرجل وإبداعية الشاعر من جهة، ومسلكه الهيدوني في اجتراح المحظور والمحرم، من جهة ثانية. كذلك، للمشهد المغربي تجاربه ونماذجه التخومية التي لا يمكن للعين أن تخطئ أنها ارتوت من رحيق جرة "باندورا" الذي لا ينضب، في الرواية والشعر والمسرح والسينما والتشكيل والموسيقى. منهم من قضى، ومنهم من ما زال يرتوي. وكأن الإبداع لا يقبل الأسوياء ممن يوثرون النوم المبكر طمعا في السلامة وحسن العاقبة، ولا يعطي إلا لمن ارتضى خوض المفازة والعيش على شفا الإسراف الوجداني والعضوي. عقد يٌوَقّعُ بالدم على طريقة "فوست" وتُستخلص ضريبته من أعطاب الروح والجسد. في رواية قصيرة للكاتب الأمريكي "ستيفن كينغ" تحت عنوان " نافذة سرية، حديقة سرية"، يُصاب البطل وهو كاتب ذائع الصيت بحبسة إبداعية تحول دون إتمامه لعمل جديد يطمح من خلاله إلى أن يستعيد تلك الجذوة التي افتقدها في رواياته الأخيرة. ولن يسعفه التخييل والعبارة مجددا إلا بعدما أقدم على قتل زوجته وعشيقها ودفنهما في حديقته السرية، جاعلا من جسديهما سمادا لأكواز الذرة التي غدت طعامه الأشهى في خلوته الإبداعية. وبالرغم من أن الواقع يصبح أحيانا أكثر غرابة وإدهاشا من الروائي، فإني أستبعد أن يكون قد تناهى إلى علم "ستيفن كينغ" حكاية ذلك الصحفي المغربي متعدد المواهب والمشارب، الذي علا سهمه وسط رصفائه في المهنة ومستمعيه على الأثير، قبل أن ينكشف أمر قتله لزوجته في لحظة حنق مدمر، وإخفائه لجثتها داخل تابوت إسمنتي منيع بحديقة المنزل، بحيث كان ينزوي رفقة قيتارته فوق ضريحها السري، كل ليلة وطيلة سنوات نجوميته، فيما يشبه صلاة العاشق. ومن حيث بدأت، أؤكد مرة أخرى أننا سنحتاج إلى مزيد من النظر والتحليل من قبل ذوي الاختصاص في مجاهيل النفس الإنسانية.