في ظل عالم جديد، يتسم بسيادة الثورة الرقمية، بكل مميزاتها وتحدياتها، في مختلف مجالات الحياة اليومية، تجد مهنة الصحافة نفسها، في مفترق طريق، يفرض عليها طرح أسئلة وجودية ترهن بقائها وراهنية دورها، بضرورة ملاءمتها للتحولات التي يعيشها المجتمع الانساني الحديث، والذي غدا أكثر تنوعا. وقد سعى خبراء وباحثون إلى مناقشة هذه التحولات التي يواجهها قطاع الصحافة خلال ندوة نظمت مؤخرا في لندن لتقديم خلاصات وتوصيات دراسة أنجزها مركز الصحافة الرقمية تحت عنوان «الصحافة في العصر ما بعد الصناعي». وحسب الدراسة فإن مهنة الصحافة تواجه اليوم تحديات تفرض عليها ضرورة تغيير استراتيجياتها وتبني نموذج جديد تماما يؤهلها للاستجابة لتطلعات مجتمع يعيش على إيقاع تحولات جذرية وعميقة. وينطلق أصحاب الدراسة من فرضية أساسية تتمثل في أن مهنة الصحافة بعيدة كل البعد عن التعرض لتهديدات حقيقية نتيجة للثورة الرقمية، بالرغم من انخفاض عائداتها وتسجيل سلسلة من التسريحات في صفوف المهنيين وإغلاق العديد من النشرات. وتشير الدراسة إلى أن هذه المعطيات والوقائع، تعطي انطباعا غير حقيقي، بأن مهنة الصحافة تعيش أوضاعا صعبة، ساعية في السياق ذاته إلى بلورة مجموعة من التوصيات الكفيلة بإعلان ميلاد جديد للصحافة في ظل الثورة الرقمية والعصر ما بعد الصناعي. وبعد تشريح دقيق للممارسات والأساليب الصحفية، وتنظيم المؤسسات الإعلامية والمناخ العام الذي تتطور فيه المهنة، رصد أصحاب الدراسة سلسلة نتائج واعدة بالنسبة للصحافة في عصر ما بعد العهد الصناعي، مبشرين بمستقبل جديد تشهد فيه السلطة الرابعة ممارسات مبتكرة وقيم مهنية جديدة قائمة على أساس من المسؤولية والأخلاق. وتوقعت الدراسة أن يتحول الصحفيون في ظل المرحلة الجديدة إلى، أكثر من مجرد محررين للأخبار، حيث سيتحولون إلى باحثين عن المعلومات والمعطيات وفنانين إعلاميين وكتاب ومحللين ومحققين وشهود عيان أيضا. وسجل أصحاب الدراسة، التي توثق للتغييرات التي تشهدها المؤسسات الإعلامية خلال القرن الواحد والعشرين، أن حفاظ مهنة الصحافة على مكانتها الرائدة داخل المجتمع سيظل رهينا باقتناصها لكفاءات وطاقات إعلامية وصحفية جديدة تتمتع بالمرونة والإبداع. كما حرص التقرير على التأكيد على أن المشكل التي يشهدها قطاع الصحافة، لا تعود إلى أسباب ذاتية بالأساس بقدر ما تعود إلى كيفية الاستجابة لحاجيات مجتمع يعيش على إيقاع تحولات عميقة، مشيرا في هذا السياق إلى أن مهنة الصحافة ظلت على مدى الزمن في قلب الحياة اليومية للمجتمعات الانسانية. وشدد المصدر ذاته على أن هذه التحولات المجتمعية تفرض على الصحفي تغيير وتطوير آليات وأشكال العمل مع الحفاظ على جوهر مهمته ووظيفته داخل المجتمع. وبالرغم من تأكيد واضعي التقرير على استحالة العودة إلى الوراء أو ما يعرف بالعصر الذهبي الافتراضي للصحافة و الاستمرار في ظل نفس الوضعية الحالية، فإنهم يشددون بالمقابل على أن الدور الرئيسي للصحافة لن يعرف تغييرا جوهريا. وابرزوا في هذا الإطار أن تحولات قطاع الصحافة لا تتم بمعزل عن التغييرات العميقة التي يشهدها المجتمع، وهو ما يعني بالضرورة استحالة استمرار او إعادة إنتاج نفس منطق اشتغال الصحافة في خدمة مجتمع لم يعد كما كان بالماضي. وفي هذا السياق، شددت جان إليوت أستاذة الصحافة، وأحد واضعي التقرير، على أن إعادة النظر في قواعد ومعايير الصحافة لا يجب أن يشكل ممارسة عقيمة بالنظر إلى أهمية انعكاساتها على المهنة، مشددة على أن هذه المعايير تشكل آلية لضبط وتنظيم المهنة وليس فقط مجرد إطار مثالي. وأشارت في هذا الإطار إلى وجود صراع بين مختلف مكونات قطاع الصحافة من أجل فرض معايير تستجيب لمصالحهم الذاتية. واعتبرت جان إليوت أن الصحافة في حاجة إلى استراتيجية شمولية وعامة وليس فقط إلى خطط مرحلية لضمان البقاء على قيد الحياة. وقالت إن «المجتمعات الجديدة التي نعيش فيها في حاجة إلى صحافة تلعب، بكل بساطة، دور الوسيط بين رجال السياسة والخبراء، وبين الجمهور المتلقي»، مضيفة أن هذه المجتمعات في حاجة إلى صحفي قادر على إعادة ابتكار وتجديد معاييره وأساليب ممارسته المهنة ليظل في خدمة مجتمع شمولي تسوده قيم العولمة التي تجعل من المعلومة مصدرا للحياة ووسيلة للمراقبة في الآن ذاته». واعتبر المشاركون في المائدة المستديرة، أن تقرير مؤسسة مركز الصحافة الرقمية جاء ليفتح المجال أمام انطلاق حوار عميق حول الممارسات الصحفية، وهو نقاش سيمكن المهنة من إعادة تجديد وتحديد دورها داخل مجتمع أضحى أكثر تنوعا وأكثر كثافة وأكثر مساواة.