عندما أنهيت قراءة رواية «ملائكة السراب» للكاتب موليم العروسي ،أحسست بصمت رهيب يجتاحني من الداخل. ساعتها قررت أن أخرج من البيت ، كما لو أنني أردت أن أستفرد بهذا الصمت ، وألا يعكر عليّ صفوه أحد . هذا الصمت الأثير امتلاء أسعد به كلما قرأت عملا نبيها. على الشاطئ الرملي الفسيح وجدت نفسي أمشي على إيقاع الموج من " عين الذئاب " باتجاه الولي الصالح سيدي عبد الرحمان ، كما لو أنني أسعى إلى التمكين من طمأنينة ما . على طول تلك المسافة الطويلة نسبيا استعدت على مهل عوالم هذه الرواية الشيقة. تبدأ فصولها بإحدى كرامات سيدي أحمد العروسي ، الذي كان سجينا بمشرع أبي الأعوان بأراضي دكالة ، وكان الذي سجنه على اعتبار أنه مشعوذ هو الأمير عبد الله ، الذي خرج من مملكة فاس، متوجها إلى مملكة مراكش على رأس جيش عظيم قصد انتزاعها من عمه أبي القاسم . هذا الأخير لن يصل إلى مبتغاه . حدث له ما حدث لفرعون ، وجنده . جرفه على حين غرة وادي تانسيفت ، فنسف كل طموحاته ، وأحلامه. هكذا كما لو أن لعنة الولي العروسي حلت به كي يكون في خبر كان . استنجد هذا الأخير بصديقه الولي رحال البودالي ، فاستجاب على الفور. انشق سقف القبة ، وانتزعه من حفرة النار كما ورد على لسان السارد وطار به في السماء باتجاه مراكش ، حيث سيظلان طيلة فصول الرواية يرقبان من شرفتهما العالقة في السحاب مجريات الوقائع والأحداث الجسام والخطيرة التي عرفها المغرب في هذه الحقبة العصيبة من تاريخه ، وتحديدا القرن السادس عشر، كما تدل على ذلك عدة قرائن . ظهورهما في سماء مراكش أثار البلبلة في المدينة ، والسبب أن خطرا يداهم ، بل فسره البعض على أنه الإشارة الأخيرة لقيام الساعة ، وربما كان الخلاص في خروج النساء سافرات من بيوتهن . هذا الأمر أثار نقاشا حادا بين النخبة : بين الداعين لخروج النسوة درءا لما يهدد البلاد والعباد من شرٍّ مستطير، والرافضين قطعا لما في ذلك من فتنة ومفسدة قد تعصف بالنظام العام . يحتوي متن الرواية حكايات عجيبة تضمن الإدهاش الموصول بلذة القراءة . حكايات وحيوات يتداخل فيها التاريخي بالعجائبي، والواقعي بالأسطوري. إنه الزمن المغربي بامتياز في مرحلة لم يرفع فيه الحجاب بعد بين الشك واليقين ، وبين العقل والخرافة . الرواية ترصد من منظور خاص بالكاتب تاريخ المغرب منذ سقوط غرناطة بني الأحمر آخر معاقل الأندلس وما تلاه من غزو للثغور المغربية ، بدءا بالساحل ، ثم توغلا في اليابسة . الأحداث والوقائع في هذه الرواية كثيرة ومتداخلة ، والرابط بينها هو الصراع : الصراع على السلطة والنفوذ ، ليس بين أولياء الأمر والحكام فحسب ، بل أيضا بين قوى محافظة ، وأخرى مستنيرة ، وبين القبائل خاصة هنتاتة و هسكورة وما يرتبط بهذا كله من فوضى عارمة أدت إلى فقدان الأمن ، وسيادة الفوضى ، مما ساعد على ظهور كثير من الزوايا على رأسها أولياء مصلحون غايتهم الرشد والسداد ، أو أولياء في جبة ساسة ماكرين يخططون في خفاء للانقضاض على الحكم . كثر اللصوص وقطاع الطرق ، والجواسيس والأدعياء من المتنبئين والمجاذيب والمهدويين ، وغيرهم من الأفاقين الكذبة ، وبسبب الجهل الفظيع فإن العامة انساقت وراء عالم من الغيب لا يكاد ينتهي . تحركها المصالح حينا ، وحينا آخر التخوفات الرهيبة من المجهول . انساقت القبائل جماعات وأحلافا وراء هذا ، أو ذاك فتضاربت المصالح ، وكثرت المواجع. هكذا في حبكة منسوجة ومركبة باحترافية كبيرة استطاع الكاتب أن يشدنا إليه إلى آخر معلومة في الرواية ؛ وتتعلق بغرق المركب ، الذي كان على متنه موسى الحاخام ، وهو متوجه إلى " أرض الميعاد ." يعتبر عنصر التشويق أحد المكونات الأساسية في هذه الرواية . حجاب يخفي حجابا ، و عالم لا يريد أن يُعرِّف بذاته للوهلة الأولى ، كما لو أن الكاتب يمارس على قارئه لعبة الخفاء والتجلي . عرف الكاتب كيف يمسك بخيوط عالم نسجه من التاريخ والمتخيل . عرف كيف يمسك بالقارئ ، ويشده إلى حكيه سيرا دوما إلى الأمام من أجل تعقب الأحداث ، وتقصي مسار الشخوص . وحين يشعر الكاتب بأن القارئ قد يتسرب إليه التعب من زخم الأحداث ، يُجري على لسان السارد حكاية تجنح بالمتلقي إلى عوالم الحلم والممكن والمستحيل . هذه الحكايات الموظفة بإتقان أعفت الرواية من إيقاع الرتابة . التشويق أو الإثارة في القصة حسب الناقد لورانس براين هو الذي يدفع بالقارئ للتساؤل: ترى ما الذي سيحدث ؟ الكاتب لم يكتف بهذا السؤال ، بل اهتم وهذا هو المهم بسؤال لماذا حدث ؟ من هنا فإن الرواية تتضمن أطروحة يفسر الكاتب من خلالها ما حدث في الغرب الإسلامي انطلاقا من القرن السادس عشر وصولا إلى غزو فرنسا للمغرب ،وتهجير اليهود إلى فلسطين . الكاتب لا يؤرخ ، ولا يسعى إلى ذلك . مسعاه هو أن يُشَرِّحَ جسد التاريخ بحثا عن كوة ضوء لفهم آخر . يبدو لي كما لو أنه يقرأ الراهن انطلاقا من الذي كان . يعتبر التشويق إحدى مزايا هذه الرواية بدءا بالسارد الذي لا يكشف لنا الكاتب عن هويته إلا في الصفحة 153 . أما المحكي له بشكل مباشر فهو ابنه علي. " كان إبراهيم يحكي لابنه رواية العروسي والبودالي ، وهما جالسان على مرتفع من مرتفعات الجبيلات غير بعيد عن سيدي بوعثمان ، حيث تجري معركة طاحنة بين جيش الفرنسيين ، ومحاربين جاؤوا من الصحراء بقيادة ماء العينين لمنع النصارى من التقدم نحو مدينة مراكش" يقترن التعرف على السارد إبراهيم ، الذي هو أحد أحفاد العروسي، بالانتقال من زمن الملك أبي القاسم ، والأمير عبد الله ، والعروسي ، والبودالي ، وعبد الرحمان المجذوب ، والحاجب عبد الرحمان الساسي ، وأمقران، وسقوط غرناطة ؛ آخر المعاقل الأندلسية ، وما تلا ذلك من تنكيل بالمسلمين ، واليهود ، وترحيل ، وتهجير لهم إلى الضفة الجنوبية . من كل تلك الأزمنة بعذاباتها ، إلى زمن ماء العينين ، وباشوات مركش و أحوازها:الكلاوي والعيادي والكندافي ، وصولا إلى حكواتي جامع الفنا . بين الذي كان ، والذي صار خمسة قرون يمكن أن نعتبرها البنية الزمنية المؤطرة لأحداث الرواية ، خمسة قرون أيضا هي الفاصلة بين العروسي وحفيده إبراهيم السارد . بين العهدين تدفقت مياه كثيرة تحت الجسر، وتعاقبت حقب ، وتلاطمت أمواج كثيرة جعلت الغرب الإسلامي في مهب الريح لفترات طويلة ، إذ استحال الأمن إلى عملة نادرة . في إطار التشويق الذي يجعل القراءة متعة نقرأ حكايات مغلفة بسحر ما ، كحكايات عمران الداهية عن تجواله الطويل في الغرب، وحكاية أمقران الأمازيغي الوافد في ظروف صعبة من جزيرة تنيريفي ، وحكاية الولي العروسي ابن العذراء ، وحكاية مكتبة أبي القاسم ، وغيرها من المتون العجيبة لشخوص متفردين واستثنائيين. ثمة تشويق آخر أطال السارد أمده إلى آخر الرواية ، ويتعلق الأمر بالحاكم الملثم الجالس على عرش السلطة في مملكة مراكش ؛ إذ أثار إخفاؤه لوجهه تساؤلات كثيرة ، وتأويلات ،ووجهات نظر متضاربة بين الخاصة والعامة كادت أن تتحول إلى فتنة . أترك للقارئ لذة الفضول ، ومتعة إزاحة اللثام ، وما آل إليه الأمر بعد الكشف عن ذلك الملثم . للفكر حضوره ، وهو يشغل مساحة ملفتة للانتباه في هذا العمل الروائي الباذخ. لن أحيط بكل تجلياته . سأكتفي بالإشارة إلى مظهر من مظاهره ، والذي يتمثل في السجال والتناظر، في العديد من المناسبات ، بين فكر مستنير، وآخر سلفي متحجر . جدال بين الداعين إلى الأخذ بأسباب تمدن وتقدم الغرب وبين الرافضين رفضا قاطعا لما في ذلك من خروج عن الملة والدين . ص 94..96 .هذا الرفض طال الحرية أيضا على اعتبار أنها بدعة وزندقة . " واعلم أن هذه الحرية التي أحدثها الفرنج في هذه السنين من وضع الزنادقة قطعا لأنها تستلزم إسقاط حقوق الله وحقوق الوالدين وحقوق الإنسانية رأسا..."ص2001 وبعدها. في الختام ثمة أكثر من عتبة لولوج عوالم هذه الرواية، وهي عتبات تغري بالكتابة من زوايا أخرى . من ذلك الحضور اليهودي من خلال شخصيات وازنة ساهمت في صنع الأحداث بدءا من الأسلاف الذين هُجِّروا من الأندلس إلى الأخلاف الذين شُحِنوا في السفن إلى فلسطين . يمكن الحديث أيضا عن دلالة السراب الوارد في العنوان وفي الصفحات76 97 104، كدال قوي ، بالإضافة إلى البنيات الزمنية والمكانية ، واللغة ، والسرد ، والحوار بنوعيه ، وما إلى ذلك من آليات اشتغال النص الروائي .