لسنا في حاجة إلى جهد استثنائي لندرك أنّ حضارة الإسلام كانت محكومة بالتاريخ والجغرافيا كباقي الحضارات، و أنها لم تكن أبدا معزولة و نقية و استثنائية كما يتصوّرها بعض المتوهمين. وما أسهل علينا أن نستوعب أنّ الدولة الإسلامية التي يتحدّث عنها البعض، بشيء غير قليل من التبجح و الانتفاخ الفارغ، لم تكن منذ بدئها غير استنبات لدولة "فارس" وأجهزتها، واستطالة لدولة الشرق القديمة، و أنّ تاريخها لم يكن في حقيقته غير تاريخ السلطنات الدنيوية التي عرفها العالم العربي ? الإسلامي و لا يزال، وأنها كانت تقوم على القهر والعصبية وليس على مبادئ دينية مفترضة. يكفي أن يستقرئ المرء تاريخ المسلمين ودولهم، ليرى كيف كانوا في صراع لم يهدأ واقتتال لم يفتر حول السلطة وغنائمها، منذ وفاة الرسول، و كيف كانوا، بعضهم لبعض، أعداء ألداء لا يحبّون لإخوانهم في الدين ما يحبّون لأنفسهم. يكفي أن نقرأ ابن خلدون و غيره، لندرك أنّ الغرب الإسلامي ظل لفترة طويلة تحت رحمة الشرق، وأن دخوله الإسلام لم يكن أمرا هينا كما تدّعي بعض كتب التاريخ الحديثة. و يكفي الرجوع إلى الجاحظ و غيره لندرك أيضا كيف أن الجنس العربي ليس سوى عنصر واحد من بين عناصر حضارة إسلامية متعددة الثقافات ومختلطة الأجناس. و يكفي استقراء ما دوّنه فقهاء و أدباء العصور المرابطية و الموحدية و المرينية من نصائح سياسية، و ما رووه من دسائس البلاطات السلطانية، لتتّضح لنا صافية صورة الاستبداد السياسي في أبشع أشكاله خلاف ما يتحدّث عنه البعض من تاريخ حافل بالمفاخر و الأمجاد. و يكفي استقصاء أدبيات مغرب القرن التاسع عشر السياسية، لنرى ضيق الأفق حاضرا بلحمه ودمه مقارنة مع ما كان يجري وقتها في الضفة الأخرى من البحر المتوسط، ولننفض عنّا كل كلام مريض عن كوننا "خير أمة أخرجت للناس"، ولولانا لظل العالم المسكين كله يتيما تائها يعمه في ضلال مبين. كم تبدو اليوم بئيسة هذه الحركات الإسلامية في هلوساتها الخطابية حول الدين والسياسة، وهذيانها حول قيام الدولة الدينية، وهي وهم لا يستقيم مع معطيات التاريخ الإسلامي نفسه الذي يقدمها لي كائنا دنيويا بطبيعتها، و مجال صراع لا دخل فيه للإله و لا لحسن النوايا. أبان ذلك ابن خلدون، وقبله معاوية و الحجاج و الحاكم بأمر الله، و أثبت التاريخ القريب ذلك في مواجهة "آيات الله" في إيران و"الطالبان" في أفغانستان... آن الأوان لنتخلّص من كثير من الأوهام التي سكنتنا مع مرور الزمان و كأنّها حقائق مقدسة لا يشوبها باطل. وفي مقدمتها تعاملنا مع "الإسلام" شعوريا أو لاشعوريا، وكأنه الدين الواحد الأوحد الذي شهده التاريخ، وهو اعتقاد لم ينتج عنه، كما تأكّد اليوم، غير نفي اختلاف الثقافات و نسبية التاريخ و سيادة التعصب الديني الأعمى. لا أدري مثلا كيف يطنب البعض في الحديث عن العدل في الإسلام، وتاريخه يؤكد سيادة الجور في كل أطواره. و لا أدري ما سرّ تباهى بعض الجهلة بمبدأ الشورى وسبْقنا في هذا الباب لديمقراطية الغرب، متناسين أن الحكم في الإسلام كما أوضح فقهائه " لا يستقيم بالشركاء" وأنه "لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا"، وأنّ التاريخ الإسلامي، من ألفه إلى يائه، هو تاريخ استبداد خلفائه و ملوكه و سلاطينه. و لا أفهم كيف يتحدث الكثير، بشيء غبر قليل من الإسهال، عن الرحمة والتسامح في الإسلام، في الوقت الذي تؤكد فيه الوقائع التي لا ترتفع أن العنف كان عنصرا ملازما لتاريخ الإسلام ومحركا له، بدءا من اغتيال ثلاثة خلفاء "راشدين" في فترة وجيزة، يسمونها "عصرا ذهبيا"، إلى قطع الرؤوس "متى أبنعت وحان قطافها"، إلى دسائس البلاطات والتفنن في أشكال العقاب والتعذيب، مرورا بمحن بعض الفقهاء و الكتّاب وإحراق الكتب وغير ذلك من الوقائع التي لا علاقة لها بالتسامح (وهو بالمناسبة مفهوم حديث) غير الخير والإحسان. فعلا، لا أدري لم يتعامل المسلمون مع ما كان ينبغي أن يكون وكأنه كان فعلا!