لم ينتج عن الجمع بين الدين والدولة غير الاستبداد. ولا يتعلّق الأمر هنا بحكم قيمة، ولا بموقف إيديولوجي. يكفي أن نستقرئ وقائع التاريخ الحضاري العالمي لنتأكّد أنّ اجتماع الدين بالدولة لم ينتج عنه غير الاستبداد السياسي. تثبت هذه الوقائع، قديما وحديثا، أنّه ما اجتمع الدين بالدولة إلاّ وكان الاستبداد ثالثهما. يتّضح ذلك في حضارات الشرق القديم التي عمّرت آلاف السنين. ويتّضح ذلك في مختلف محطّات العصر الوسيط، بشقّيه الغربي- المسيحي و العربي -الإسلامي. كما تبدو حاضرة كلّ علامات الاستبداد السياسي في بعض الأنظمة التي تحكم اليوم باسم الإسلام، وتدّعي تطبيق تعاليمه. لم يكن «فراعنة» مصر القديمة ليكتفوا بالحكم باسم دين أو إله ما، بل كانوا يعتبرون أنفسهم آلهة تسير على وجه الأرض. و في مرحلة لاحقة، خفّف «أباطرة بابل» من هذا الادّعاء الفجّ بالآلوهية، قانعين بكونهم أبناء الآلهة. وبمجيء الإمبراطورية الفارسية، اكتفى ملوك فارس بقولهم إنّهم يحكمون بمشيئة الله وبعون منه. وهي الفكرة التي ستجد امتدادا لها عند خلفاء الدولة الإسلامية. العامل المشترك بين مختلف أنظمة الشرق القديم، سواء تعلّق الأمر بفراعنة مصر أو أباطرة بابل أو ملوك فارس، هو الجمع بين السلطة السياسية والأمر الديني. ولا نتيجة لمثل هذا الجمع غير تبرير الاستبداد السياسي الشامل، إذ كيف يُعقل أن تُعصى أوامر من يقدّم نفسه إلها، وقد تجلّى. وكيف لا يُطاع من يتولّى أمر النّاس بصفته ابنا للإله. وكيف لا ينحني المحكومون أمام من يكون حكمه السياسي بإرادة من الله ومشيئة منه. العصيان في كلّ هذه الحالات لا يعني شيئا غير عصيان الله. لقد أكدّ كثير من الباحثين المهتمين بشؤون النظام السياسي الإسلامي، مبدأ المماثلة بين الله الواحد الأحد والحاكم الذي لا شريك له. ولاحظوا كيف أنّ الحاكم «الإسلامي» كان ينتقل بسهولة من قوله تعالى:«لو كان فيهما آلهة إلاّ الله لفسدتا» إلى أنّ الحكم لا يستقيم أبدا بالشركاء. وفي البدء قال عثمان بن عفّان، وهو يتحدّث عن الخلافة أنّها قميص ألبسه إيّاه الله. فكيف يكون إذن من حقّ العبد أن ينزع عن «ثالث» الخلفاء الراشدين قميصا شرّفه تبارك وتعالى بارتدائه. وكيف يكون من حقّ الرعية المؤمنة أن تنازع في حكم خلفاء تنتهي ألقابهم بذكر الله. فهذا «معتصم» بالله، وهذا «متوكّل» على الله وذاك «مهتدي» بالله وآخر «حاكم» بأمر الله... لقد انتبه بعض مفكّري النهضة العربية، وعلى رأسهم الكواكبي وعلي عبد الرازق، إلى أنّ الاستبداد السياسي واستغلال الدين صنوان لا يفترقان. وقبْل هذين المفكّرين بكثير، أكّد رائدو نهضة أوروبا أنّ الدولة الحديثة تتأسّس على الانتماء الوطني، وليس على الاعتقاد الديني، مؤكّدين على الفارق النوعي بين دائرتي الدين والسياسة. واليوم، ما تغيّر في الأمر شيئا، فما اجتمع الاثنان في دولة ما، إلاّ وساد الاستبداد والتخلّف. فباسم الدين هدّمت دولة «طالبان» آثارا إنسانية تعود لآلاف السنين. وباسم الإسلام تمّ أسْر النساء في لباس من حديد. وباسم ولاية الفقيه تتّخذ دولة إيران كلّ قراراتها في غيبة من مواطنيها. وباسم حدود الدين يُجلد الناس وتُقطع رؤوسهم. وباسم الأخلاق الإسلامية تُحرم النساء من ممارسة حقوق، أدناها سياقة سياراتهنّ... وأخيرا قد يتساءل القارئ: وما القول في المغرب الذي أقرّ دستوره الجديد أنّ المغرب دولة إسلامية وأنّ ملك المغرب هو أمير المؤمنين؟ تساؤل وجيه يتطلّب الجواب عن تفاصيله بحثا مستقّلا. ومع ذلك، يمكن الإشارة إلى عنصرين يمكن تطوير البحث فيهما: يتمثّل الأوّل في كون الدولة المغربية بعيدة عن أن تكون دولة دينية. فقوانينها وضعية، ومؤسّساتها دنيوية. قانونها الدستوري لا يقدّم أي امتياز لحمَلة علوم الدين و أصوله، وقانونها الجنائي لا يسمح بجلد النّاس أو تقطيع أيديهم...ما الدّاعي إذن للتنصيص على «إسلامية» الدولة؟ الجواب يكمن في ضعف الدولة المغربية التي لم تكمل تأسيسها بعد لتتقدّم أمام مواطنيها كشأن عمومي في غير ذي حاجة لأية مساحيق أخلاقية أو دينية، و هو ضعف يترجم في جميع الأحوال أفق المغرب، مجتمعا و دولة.